قرر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان نقل جميع برامجه الإقليمية والدولية خارج مصر، نظرًا للتهديدات المتواصلة على منظمات حقوق الإنسان، في ظل إعلان الحرب على المجتمع المدني، وخاصةً بعد المهلة التي أعلنت عنها وزارة التضامن الاجتماعي لما أسمته “بالكيانات غير المسجلة”، وتصاعد الضغوط الأمنية الهادفة إلى إغلاق المجال العام أمام كل صوت نقدي مستقل، سواء كان فردًا أو جماعة أو مؤسسة، إسلاميًا أو علمانيًا، والانهيار المتزايد في ركائز حكم القانون والدستور، وفى وضعية حقوق الإنسان في البلاد بدرجة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث. الأمر الذي يؤثر بشكل سلبي ومتزايد على الخطط الحالية والمستقبلية لبرامج المركز، وقد سبق وأدى إلى إيقاف نشاط كبرى المنظمات الحقوقية غير الحكومية الدولية في مصر منذ عدة شهور.
يأمل المركز ألا يضطر مستقبلًا أيضًا إلى نقل برامجه الخاصة بمصر، والتي تشمل برنامج تعليم ونشر ثقافة حقوق الإنسان، والبرنامج الخاص بالإعلام، وذلك حال استمر المناخ المعادي لمنظمات حقوق الإنسان المستقلة. المركز مسجل في مصر وفقًا للقانون المصري، وهى الدولة الوحيدة –من بين الدول العربية وغير العربية المسجل فيها المركز– التي تواجه فيها منظمات حقوق الإنسان مثل هذه الضغوط والتهديدات. وقد قرر المركز نقل برامجه ذات الطابع الإقليمي إلى تونس، حيث يتمتع المركز بتسجيل قانوني في أعقاب الثورة التونسية، التي كانت أهم انجازاتها في الأسابيع الأولى للثورة، إصدار قانون ديمقراطي للجمعيات الأهلية يتسق مع المعايير الدولية.
خلال العامين الماضيين اضطر المركز –في اللحظات الأخيرة– إلى نقل بعض أنشطته الإقليمية، إلى دول عربية أخرى، نظرًا لمنع السلطات المصرية دخول بعض الحقوقيين العرب وإساءة معاملتهم في مطار القاهرة، وإعادتهم لبلادهم بشكل تعسفي دون إبداء أسباب، أو لتعذر حصول بعضهم على تأشيرة الدخول لمصر، أو التباطؤ الشديد غير المبرر في إصدارها. وقد طال هذا التعسف أيضًا مسئولين في الأمم المتحدة، وجدوا صعوبة وتباطؤ غير مبرر لعدة شهور، في الحصول على تأشيرة الدخول لمصر لمتابعة مهامهم الرسمية. كما يشكو بعض الأكاديميين غير المصريين من شعورهم بعدم الأمان عند ضلوعهم ببعض المهام البحثية في مصر، والتي يتم على إثرها توقيفهم في مطار القاهرة لفترة أطول من المعتاد، وتوجيه أسئلة غير معتادة لهم، وتفتيش حقائبهم في غيابهم، دون استئذان أو إخطار. كما يراود الشك بعضهم بأنهم متابعون أمنيًا، بسبب آرائهم المستقلة في مقالاتهم وأبحاثهم النقدية المنشورة.
كان بهي الدين حسن، مدير مركز القاهرة، قد اجتمع مع إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء في 24يوليو2014، وسلمه مذكرة موقعة من 23منظمة حقوقية مصرية تطالب بسحب وزارة التضامن الاجتماعي لمشروع قانون الجمعيات الأهلية (المعلن عنه في 26يونيو2014) وكذا سحب إنذارها (المنشور بجريدة الأهرام في 18 يوليو2014) بحل ما يسمى كيانات العمل الأهلي خلال 45 يومًا، إذ اعتبرت المذكرة القانون المقترح والإنذار بمثابة “إعلان حرب على المجتمع المدني، واعتداء سافر على نظم قانونية مستقرة، في شركات تعمل في مجالات المحاماة والأنشطة ذات الطابع التنموي والأكاديمي والثقافي، وتعترف بها الأمم المتحدة، الأمر الذي قد يصيب البنية القانونية المصرية بأضرار جسيمة، ويهدر الثقة الوطنية والدولية في النظم القانونية والقضائية السائدة”.
المذكرة طالبت بعودة الوزارة للحوار حول مشروع القانون، الذي توصلت إليه بعد 6 أشهر من التفاوض، لجنة مشكلة من الوزارة وممثلي المجتمع المدني، وسلمه وزير التضامن الاجتماعي السابق أحمد البرعى إلى مجلس الوزراء في يناير الماضي، لكي يُعرض على البرلمان فور انتخابه، كما طالبت المذكرة بـــ”وقف التدخل اليومي للأجهزة الأمنية في أنشطة منظمات المجتمع المدني”.
كما أرسل المركز أيضًا مذكرة للسيد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بتاريخ 26 أغسطس، يطالبه بتجميد العمل بقانون الجمعيات الأهلية رقم 84 لسنة 2002، فيما يتصل بما تسميه وزيرة التضامن الاجتماعي بـــ”الكيانات التي تعمل في مجال العمل الأهلي”، وذلك لحين صدور قانون ديمقراطي من مجلس النواب المنتخب يتوافق مع الدستور. فلا يوجد تفسير لأن توجه الحكومة إنذارًا ملزمًا بتطبيق قانون الجمعيات الحالي، بينما تعلن على الملأ أنها أعدت قانونا بديلًا، فضلًا عن أنه سبق أقرت الحكومة أمام الأمم المتحدة أن هذا القانون –الذي توجه إنذارًا بشأن تطبيقه– غير ديمقراطي، وتعهدت بتغييره.
ففيما يبرر الخطاب الإعلامي الأمني والسياسي السائد الاعتداء المنهجي المنظم على الدستور والقانون وضمانات حقوق الإنسان، باعتبارها إجراءات استثنائية تستهدف حماية الدولة المصرية من المصير الذي آلت إليه ليبيا وسوريا والعراق، فواقع الأمر أن هذا المنطق يقود مصر إلى الهوة التي سقطت فيها الدول الثلاث، عبر تبني الممارسات نفسها، والخطاب السياسي للقذافي وصدام حسين والأسدين، الأب والابن!
التأسيس والنشاط
يتمتع مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بوضع استشاري خاص لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، كما يحظى بوضع المراقب لدى اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وهو أيضًا عضو في عدة شبكات ومنظمات دولية غير حكومية. وقد حصد المركز جائزة الجمهورية الفرنسية لحقوق الإنسان، وجائزة مكتبة الإسكندرية لحرية التعبير.
كما يتمتع المركز بتسجيل قانوني في عدة دول، بينها مصر، سويسرا حيث يوجد مكتب للمركز يتابع نشاطه مع هيئات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان. ومؤخرًا قرر المركز نقل برامجه ذات الطابع الإقليمي إلى تونس، كما يعتزم المركز إنشاء أكثر من مكتب في دول أخرى في الشهور القادمة.
قام بتأسيس مركز القاهرة عام 1993، كل من بهي الدين حسن، و د. محمد السيد سعيد.
محمد السيد سعيد هو أحد الأكاديميين المصريين القلائل، الذين حرصوا دائمًا على السعي لتجسيد ما آمنوا به من نظريات وأفكار من خلال الممارسة الميدانية اليومية. فجمع بشكل يندر تكراره، بين عمق التناول النظري والسياسي لإشكاليات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في العالم العربي، ومصر على وجه الخصوص، وبين الوقوف ميدانيًا في الصف الأمامي للمدافعين عن حقوق الإنسان، وتعرض للسجن والتعذيب عام 1989.
كان “سعيد”عضوًا بأمانة المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وساهم في البناء المؤسسي، ثم في الصف الأمامي لحركة “كفاية” ومنابر كفاحية أخرى، بينها جريدة “البديل” التي كان أول رئيس تحرير لها، مع بهي الدين حسن. كما ألف “سعيد” العديد من الكتب، وكتب الكثير من المقالات، وقاد فرق للبحث الأكاديمي في حقوق الإنسان في مركز القاهرة الذي كان أحد مؤسسيه.
أما “حسن” فبدأ نشاطه في مجال حقوق الإنسان منذ أكثر من ثلاثين عامًا، من خلال “لجنة الحريات بنقابة الصحفيين”، وانضم في عام 1984 إلى المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كانت قد تأسست في ديسمبر 1983. وشارك في العام التالي في مداولات تأسيس أول فرع لمنظمة العفو الدولية بمصر. ثم ساهم في تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان1985، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان 1994، والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان 1998، والمؤسسة الأورومتوسطية لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان 2004. وهو حاليًا عضو بمجالس إدارة واستشارية لأربعة هيئات دولية أخرى معنية بحقوق الإنسان، وخلال تلك الفترة قدم “حسن” العديد من المقالات والدراسات في قضايا حقوق الإنسان، منشورة في صحف وكتب غربية وأجنبية، كما حصل على الجائزة الأولى لنقابة الصحفيين في مصر.
يرأس مجلس إدارة المركز كمال جندوبي. وهو مناضل حقوقي تونسي اضطر للاضطلاع بدوره النضالي من منفاه، خلال حكم زين العابدين للبلاد، وعندما عاد لتونس بعد أيام قليلة من سقوط نظام بن على، استقبل في مطار تونس باحتفال شعبي، وتم انتخابه كأول رئيس للجنة مستقلة تشرف على الانتخابات العامة.
“جندوبي” هو الرئيس المؤسس “للجنة احترام الحقوق والحريات في تونس”. كما ساهم في تأسيس المؤسسة الأورومتوسطية لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان، والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان، والتي تولى رئاستها لعدة سنوات. كما ساهم في تأسيس عدد من المنظمات والائتلافات الحقوقية التونسية وغير التونسية المعنية بحقوق الإنسان بشكل عام، وبحقوق المهاجرين بشكل خاص. وساهم بالكتابة في قضايا حقوق الإنسان بالعربية والفرنسية.
نظم المركز العديد من المؤتمرات الإقليمية والدولية خلال العقدين الماضيين، وذلك في 10مدن في 9دول عربية وافريقية وأوروبية، هي الرباط والدار البيضاء وتونس وبيروت والخرطوم وكمبالا وباريس وكوبنهاجن وبروكسل وجنيف. كما تم عرض ومناقشة تقاريره السنوية عن حالة حقوق الإنسان في العالم العربي في عدة جامعات ومراكز بحثية بالولايات المتحدة الأمريكية (في واشنطن وهارفارد ونيويورك ولوس أنجلوس). كما ساهم المركز على مدار السنوات العشرين في تنسيق المواقف المشتركة بين منظمات حقوق الإنسان في العالم العربي، وطرح مهام مستقبلية مشتركة، منذ مؤتمره الأول بالدار البيضاء 1998. كما ساهم في إعداد قيادات جديدة لمنظمات حقوق الإنسان في العالم العربي منذ دورته التدريبية الإقليمية الأولى 1996.
وفي الفترة من 8 – 10 نوفمبر المنصرم، استضاف المغرب أحدث أنشطة المركز، وهو “المنتدى الدولي الأول لحركة حقوق الإنسان في العالم العربي”، والذي جاء تحت عنوان: إشكاليات التحول الديمقراطي في إطار الربيع العربي وأولويات الإصلاح والتغيير”، الذي عقده المركز بالتعاون مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان في المغرب. كما عقد المركز في مراكش في 29 من الشهر نفسه، ندوة أخرى في إطار المنتدى العالمي الثاني لحقوق الإنسان، حول مستخلصات المنتدى.
يعتبر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أكبر ناشر لمطبوعات حقوق الإنسان في العالم العربي بعدد مطبوعات يتجاوز 350 مطبوعة، رغم أنه ليس دارًا محترفة في صناعة النشر، بالإضافة إلى إعادة طبع بعض إصداراته في المغرب واندونيسيا ومصر (الهيئة العامة للكتاب و بالانجليزية في الجامعة الأمريكية)، وحصل أحد كتبه “حكمة المصريين” (تحرير د.محمد السيد سعيد) على جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب. كما يصدر عن المركز المجلة الفصلية المتخصصة في دراسات حقوق الإنسان “رواق عربي”، والتي صدر عنها 67 عدد، منذ عام 1996.
إشكالية “الإسلام السياسي وحقوق الإنسان”، أحد أهم القضايا التي تناولتها كتب وإصدارات مركز القاهرة، وتركز عليها مؤتمراته على مدى العقدين الماضيين، بمشاركة نخبة من الحقوقيين والأكاديميين في العالم العربي وخارجه. وقد كانت هذه الإشكالية محور أحدث أنشطة المركز ذات الطابع الدول، حيث استضافت جامعة لندن في سبتمبر الماضي مائدة مستديرة نظمها المركز بمشاركة أكاديميين وحقوقيين من العالم العربي وآسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
Share this Post