جاء احتفال الدولة بعيد العمال هذا العام مختلفًا عن كل الأعوام السابقة، ومعبرًا عن المسار السياسى والاقتصادى الذى تنتهجه الدولة، وبدى للكافة أن هديتها للعمال هى محاصرة الحق فى الإضراب وتجريم ممارسته فقد اجتمع رئيس الوزراء المهندس ابراهيم محلب مع قيادات عمالية لترتيب الاحتفال بعيد العمال وطالبهم بتشكيل لجان عمالية لمنع الإضراب وبتاريخ 27/4/2015 أقامت الدولة احتفالاتها الرسمية بهذا العيد بمقر أكاديمية الشرطة، وبصرف النظر عن الدلالة السياسية للمكان، فقد أعلن رئيس اتحاد العمال الرسمي في هذا الاحتفال عما أسماه بــــ”ميثاق شرف عمالي” تعهد فيه العمال برفض الحق في الإضراب. وفي صباح اليوم التالي صدر بيان من النيابة الإدارية استعرضت فيه أجزاء من حيثيات حكم أصدرته المحكمة الإدارية العليا بحظر وتجريم الحق في الإضراب، وأقر عقوبة “الإحالة للمعاش” حال قيام الموظفين بممارسته بزعم مخالفة الإضراب للشريعة الإسلامية، وأن التزام مصر بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي أباح الحق في الإضراب “مقيَد” بأحكام الشريعة الإسلامية.
وحيث أن تاريخ مجلس الدولة المصرى فى حماية الحقوق والحريات، وفى القلب منها الحريات النقابية، لا يقل عن تاريخ مجلس الدولة الفرنسى، بل ويربو عليه فى العديد من المبادئ، لذا كان حكم الإدارية العليا بما تضمنه من مبادئ وتفسيرات لا تحاصر فقط الحق فى الإضراب بل تجرمه وتجعل الاحالة للمعاش هى العقوبة التى تُطبَّق على كل من يمارسه من الموظفين العموميين، وهو أمرًا جلل ستكون له آثاره القانونية على حقوق وحريات الموظفيين العموميين، وفى هذا الإطار نوضح عددًا من الحقائق القانونية والدستورية بشأن تلك الواقعة:
- الحكم صادر في إطار حراك اجتماعي في كل ربوع مصر قبل 30 يونيو
أولًا: إن الموظفين الصادر ضدهم الحكم هم (17) موظف من العاملين بالوحدة المحلية بقرية قورص مركز أشمون منوفية، عن احتجاجات عمالية جرت بالوحدة بداية من يوم 13/6/2013 بما يمثله هذا التاريخ من مدلول سياسى واجتماعى على الحراك الجماهيرى فى كل ربوع مصر وليس هؤلاء الموظفين فقط.
- دائرة فحص الطعون، ثم تقرير المفوضين أكدا على حق الإضراب
ثانيًا: صدر حكم المحكمة التأديبية بالمنوفية يوم 29/12/2014 وقضى بإحالتهم للمعاش، وقد تم الطعن على هذا الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا، ونظر الطعن أمام دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا والتى قضت فى 14/3/2015 بوقف تنفيذ حكم المحكمة التأديبية بالمنوفية وأحالت القضية لهيئة المفوضين لإعداد تقرير بالرأي، ومن الجدير بالذكر أن دائرة فحص الطعون تتكون من جميع أعضاء الدائرة الموضوعية عدا رئيس الدائرة فقط.
- القاضي أصدر القرار منفردًا بدون حضور الموظفين
ثالثًا: انتهى المفوضون بالمحكمة الإدارية العليا في التقرير الى إلغاء الحكم المطعون عليه لأن الإضراب حق للموظفين، وتحدد لنظر القضية يوم 11 إبريل 2015 أمام دائرة الموضوع، وبهذه الجلسة لم يحضر الموظفين أو محاميهم وبدلًا من إصدار المحكمة قرارًا بإعادة إعلانهم بالجلسة –للتيقن من اتصال علمهم ومعرفتهم بتاريخ الجلسة– قررت المحكمة حجزها للحكم دون أن تستمع لدفاع الموظفين، حيث صدر الحكم فى الاسبوع التالى بتاريخ 18/4/2015 بتأييد حكم المحكمة التأديبية بالمنوفية بإحالة أربعة منهم للمعاش وتأجيل ترقية ١٣ منهم لمدة سنتين.
- الحكم تجاهل الدستور وأحكام سابقة للمحكمة الإدارية واحتج بالشريعة الإسلامية
رابعًا: الحكم استند فى تفسير أسبابه إلى أن توقيع مصر على العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية جاء مع التحفظ على عدم مخالفته للشريعة الإسلامية، وزعم أن الإضراب مخالف للشريعة الاسلامية وبالتالى فمصر غير ملتزمة بنص الاتفاقية الذى يتيح الإضراب عن العمل، وهو تجاهل بيِّن للتطور الدستورى المصرى فوقائع القضية تمت فى يونيو 2013 أثناء سريان المادة 64 من دستور 2012 الذى جعل من الإضراب حقًا دستوريًا يعلو على القانون المحلى والاتفاقيات الدولية، وأن حكم الإدارية العليا صدر فى ظل دستور 2014 الذى أكد على أن الإضراب حق دستورى فى مادته رقم 15.
- الحكم خلط بين مفاهيم مختلفة تمامًا عن الاحتجاج
خامسًا: إن الحكم خلط بين مفاهيم (الإضراب عن العمل، والاعتصام، واحتلال المنشآت)، حيث تناولها باعتبارها شكل احتجاجى واحد متجاهلًا حقيقة أنها أنماط متنوعة وغير متشابهة، فالإضراب هو الامتناع عن العمل وقد يكون كليًا أو جزئيًا، تبادليًا أو تباطئي، وقد لا يترتب عليه وقف الانتاج أو احتلال المنشأة، فالإضراب التباطئي هو الذى يتباطأ فيه العمال أو الموظفين عن معدلات الانتاج أو الأداء المطلوبة دون أن يوقفوا العمل، والإضراب التبادلى هو الذى يتوقف فيه قطاع من العمال دون الباقين ويتبادلوا الأدوار كل يوم أو كل فترة زمنية محددة، وهناك الإضراب الكلى الذى يمتنع فيه معظمهم عن العمل دون إعاقة من لم يرغب بالإضراب، وهو ما يختلف اختلافًا جوهريًا عن الاعتصام والذى قد لا يترتب عليه أى تعطيل للعمل كأن تدخل وردية للعمل أما الوردية التى كان من المفترض ذهاب عمالها لمنازلهم يعتصموا خارج العنابر وفى ممرات الشركة دون الذهاب لمنازلهم مع استمرار وردية العمل فى ممارسة أعمالها دون توقف. وهو ما يعنى بقاء كل الورديات بنطاق موقع العمل وعدم مغادرته وفى ذات الوقت ممارسة الوردية المعنية لأعمالها. وهو ما يختلف عن أعمال احتلال المنشآت ومنع الغير من ممارسة أعمالهم بالقوة وهذا له إطاره القانونى ومفهومه الاجرائى والعقابى والتأديبى الذى يختلف اختلافًا جوهريًا عن الحق فى الإضراب بكل أشكاله.
- الحكم استند لقانون غير ساري وقت الواقعة
سادسًا: الحكم زعم أن الإضراب عن العمل جريمة جنائية استنادًا إلى أن المرسوم بقانون رقم 34 لسنة 2011 قد جرمه، وهو ما يعد متناقضًا مع هذا القانون ذاته لكونه قانون مؤقت يُطبق فقط أثناء إعلان حالة الطوارئ ووقائع أحداث تلك القضية جرت بداية من 13 يونيو 2013 ولم تكن حالة الطوارئ معلنة من بداية وقوع تلك الأحداث وحتى صدور حكمها الأخير وبالتالي لا يجوز إعمال أو تطبيق هذا القانون على الواقعة.
- الحكم اعتبر الإضراب جريمة، والدستور اعتبره حقًا
سابعًا: أن الحكم يرى أن كل امتناع عن العمل جريمة لكونه يضر بالغير متجاهلًا أن دستورى 2012 و2014 نصا على أن الإضراب حق دستوري، والإضراب معناه إباحة حق العمال والموظفين فى الامتناع عن العمل، فكيف يراه الدستور حقًا دستوريًا وتراه المحكمة جريمة جنائية وتأديبية.
- الحكم انتقى حكمًا من مجلس الدولة الفرنسي.. وتجاهل كل أحكامه التالية التي تقر حق الإضراب
ثامنًا: استند الحكم فى حيثياته إلى حكم صادر من مجلس الدولة الفرنسى عام 1961 ضد الإضراب، متجاهلًا كافة الأحكام التالية التى صدرت –من مجلس الدولة الفرنسى أيضًا– منذ منتصف الستينات وحتى الآن والتى تختلف عن الحكم الذى استند إليه، وتُرسي مبادئ جوهرية لحماية حق العمال والموظفين فى الإضراب عن العمل.
- الحكم لم يفرق بين الإضراب المشروع وغير المشروع، وتجاهل أحكامًا سابقة لمجلس الدولة
تاسعًا: تجاهل الحكم التفرقة بين الإضراب المشروع والإضراب غير المشروع، فالأول هو الذى يلتزم فيه العمال والموظفين بالشروط التى حددها القانون لممارسة هذا الحق، والثانى هو الذى يمارسه العمال والموظفين دون الالتزام بتلك الشروط، وفى التشريع المصرى نجد أن قانون العمل 12 لسنة 2003 الذى ينطبق على عمال القطاع الخاص قد اعترف بحق الإضراب ووضع شروطًا لممارسته ومتى التزم العمال بتلك الشروط أضحى إضرابهم مشروعًا، أما الموظفين العموميين فكان يحكمهم قانون العاملين المدنيين بالدولة وقت أحداث تلك القضية، ثم قانون الخدمة المدنية وقت صدور الحكم الأخير وكلا التشريعين قد تجاهل وضع ضوابط ممارسة الموظفين لحق الإضراب، وعندما عرض نزاع مماثل على المحكمة التأديبية بطنطا[1] وتمسكت هيئة قضايا الدولة بأن الإضراب غير مباح لعدم إصدار الدولة قانون ينظم ممارسة الموظفين لهذا الحق حكمت المحكمة فى 10 مارس 1991 ببراءة الموظفين من تهمة الإضراب لأنه لم يعد جريمة، وأكد الحكم على أن تقاعس الدولة عن وضع ضوابط ممارسة الموظفين العموميين لحق الإضراب لا يعنى مصادرته ولكن إطلاقه للموظفين دون قيود أو شروط، كما قضت المحكمة التأديبية بالقاهرة فى 30 ابريل 2012 ببراءة موظفى مستشفى الدعاة التابعة لوزارة الاوقاف من تهمة الإضراب لكونه حق وليس جريمة وناشد الحكم المشرع المصرى بضرورة وضع تشريع ينظم ممارسة الموظفيين العموميين لهذا الحق وذكر “لا يسوغ أن يكون الموقف السلبى للمشرع مبررًا للعصف بهذا الحق والتحلل من أحد الالتزامات الهامة التى قبل أن يكفلها من قبل المجتمع الدولى، خاصةً وأن هذا الحق يعد من أهم مظاهر ممارسة الديمقراطية وهو ما أكدته معظم التشريعات فى العالم”
- الحكم استند لتأويلات مبهمة للشريعة الإسلامية لتجريم الحق في الإضراب
عاشرًا: لجأ الحكم فى حيثياته إلى القول بمخالفة الإضراب للشريعة الإسلامية استنادًا لقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وقاعدة الضرر لا يُزال بمثله، هو قياس مع الفارق، يطبق قاعدة فقهية تحمل العديد من التفسيرات والتأويلات لكونها نسبية الأثر وتختلف من مكان لمكان، ومن زمان لزمان، ومن واقعة لواقعة، ولا يجوز استخدامها كقاعدة عامة لمصادرة حق الإضراب وتجريمه فالإضراب بزعم مخالفته للشريعة الاسلامية.
وفى هذا الإطار يؤكد الموقعين على هذا البيان:
أولًا: احترامهم وتقديرهم لتاريخ مجلس الدولة المصرى العريق فى حماية الحقوق والحريات العامة وفى القلب منها الحريات النقابية للموظفين العموميين، وأنهم لن يتقاعسوا عن اتخاذ كافة الاجراءات القانونية وصولًا لدائرة توحيد المبادئ بالمحكمة الإدارية العليا لحماية الحق فى الإضراب وضمانات ممارسته دون انتقاص أو تقييد.
ثانيًا: أن الإضراب لم يعد جريمة لكنه حق لكافة العمال والموظفين، اكتسب وجوده بالتشريع المصرى من خلال مصادقة مصر على العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ثم قانون العمل 12 لسنة 2003، حتى أضحى حقًا دستورياَ بموجب دستورى 2012 و2014.
ثالثًا: أن جميع النصوص القانونية الواردة بالتشريع المصرى التى كانت تجرم الإضراب والسابقة على دستور 2014 أضحت معيبة بعيب عدم الدستورية الطارئ وأصبح النص الدستورى هو واجب النفاذ.
رابعًا: أن الدولة المصرية وضعت قواعد ممارسة العمال للإضراب بمنشآت القطاع الخاص، ولم تضع التشريع الذى ينظم قواعد ممارسة الموظفين العموميين له، وهو ما يعنى إطلاق حق الموظفين فى ممارسة هذا الحق دون شروط، وعلى الدولة وضع الضوابط التى توازن فيها بين تسيير المرفق العام وبين ممارسة الموظفين العموميين لحقهم الدستورى فى الإضراب عن العمل دون انتقاص أو تقييد.
المنظمات الموقعة:
- المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
- مركز هشام مبارك للقانون
- مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب
- مؤسسة حرية الفكر والتعبير
- الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان
- مؤسسة المرأة الجديدة
- مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان
- المبادرة المصرية للحقوق الشخصية
- المفوضية المصرية للحقوق والحريات
- مصريين ضد التمييز الديني
- نظرة للدراسات النسوية
- الجماعة الوطنية لحقوق الانسان
- مؤسسة قضايا المرأة المصرية
- مركز اندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف
- مركز وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية أكت
[1] فى القضية 1120 لسنة 17 قضائية مجلس الدولة بطنطا، برئاسة المستشار عبد البديع عسران وعضوية المستشار أحمد الشاذلى
Share this Post