محمد سيد سعيد
جريدة البديل، 6 سبتمبر 2008
القاهرة مشغولة هذه الأيام، وربما لشهور قادمة، بقضية الممثلة اللبنانية المغمورة المقتولة في دبي سوزان تميم، ورجل الأعمال المصري، عضو لجنة السياسات المشهور وصاحب النفوذ الواسع هشام طلعت مصطفي القضية كانت ـ ولا تزال ـ حافلة بالأسرار التي تخص الكبار، بل صارت تخص دولا بأكملها، لذلك امتدت النميمة السياسية والشخصية سريعا من القاهرة إلى معظم العواصم العربية المهمة، وهو أمر يستدعي مزيدا من الفهم.
بطبيعة الحال القضية تتفجر بالإثارة، ولحكاياتها جاذبية لا تقاوم في ثقافتنا العربية التي تتعطش للإضافات والشائعات، حول الحب والخيانة والقتل وحول العلاقات السرية بين الفن والمال وبين السياسة والأعمال، وبين الدبلوماسية والاستخبارات. فما بالك إن كانت القضية تخص واحدا من أقوي رجال الأعمال في مصر والعالم العربي، الذي تنسج حوله أساطير سياسية ونسوية تمتد من مصر لعدة دول عربية، وتؤثر على العلاقات بين مصر والإمارات، بل وضعت مصر بالفعل تحت المجهر في العالم كله لأكثر من عشرة أيام، تردد فيها نظام الحكم في اتخاذ موقف، وراوح بين محاباة الرجل وحمايته والاستجابة لطلب دبي بتسليمه والتضحية به في محاكمة حقيقية أو صورية: الله أعلم؟
هشام والسكري: نمط العلاقة
ولا نتوقع أن يكف المجتمع عن النميمة. ومن الطبيعي أن تثور الشائعات وتنتشر النظريات الشعبية على المقاهي: لماذا قتلها أو لماذا قبض عليه إن لم يقتلها.
وسوف تأخذ هذه النميمة مداها ولذلك نترك الأمر برمته للقضاء لأن واجبنا هو إثارة القضايا الحقيقية وراء تلك الحادثة المريعة. ويكفينا أن القضايا الحقيقية، وأن المنسية مثيرة وكثيرة.
من القضايا المنسية العلاقة بين رجل الأعمال هشام مصطفي والضابط السابق أشرف السكري المتهم بتدبير ومباشرة عملية القتل لصالح الأول، وما يهمنا هنا هو «نمط العلاقة» وليس المهمة.
رجال الأعمال الكبار صاروا يقلدون الدولة في توظيف ضباط الشرطة والجيش الكبار المسرحين من الخدمة في شركاتهم، سواء في وظائف أمنية أو وظائف وهمية. فالمطلوب هو توظيف قدرتهم على تسيير مستوي معين من العلاقات مع أجهزة الدولة القوية والمفترية، وبالذات جهاز الشرطة، الذي لا يخضع لأي نوع من أنواع المراجعة أو المحاسبة. وفي هذه الظروف تصير العلاقات المباشرة، بما في ذلك المجاملات والرشاوي، مسألة جوهرية بالنسبة للبيزنس الكبير. وتقل تكلفة دفع أجور كبيرة لهؤلاء الضباط عن كسر عشري مما يكسبه أو لا يخسره رجال الأعمال الكبار في غياب هذه العلاقات وهذه الأساليب.
إن مهنة هؤلاء لا تشبه بالضرورة ما قام به الضابط السابق أشرف السكري، وهو واحد ممن مات ضميرهم وتجففت إنسانيتهم تمامًا، بسبب ممارسته التعذيب لفترات طويلة من حياته المهنية في جهاز مباحث أمن الدولة. ولكن ثمة نسبة من هؤلاء الضباط ممن يقومون بالأعمال القذرة من النوع الذي اتهم به السيد أشرف السكري في قضية سوزان تميم، والذي لا أشك أبدًا أنه كان مجرد امتداد شبه روتيني لدوره أثناء عمله الرسمي والمدني.
وفي كل الأحوال فإن هذه الأعمال تشكل الجزء الأكثر إثارة في الحياة اليومية لمئات من مؤسسات الأعمال العامة، والخاصة في مصر، وهي بالطبع مستودع أسرارها أو «الحجرة المظلمة» في عالمها، ويومًا ما عندما يصبح من الممكن إجبار هذه الشركات والمؤسسات على إذاعة أسرارها وإتاحة وثائقها للتحقيق قد نكتشف المدي المذهل الذي غاصت فيه بلادنا في الوحل في عصر مبارك.
«دورة» رجال أعمال الدولة
ولا تشكل هذه الممارسة غير الوجه الظاهر والتفصيلي لعلاقات بعض رجال الأعمال بالدولة ونظام الحكم. ونقول هنا بعض رجال الأعمال لأن هناك عدة أنماط للعلاقة بينهما.
فعندما نتحدث عن الاندماج بين السلطة والسوق أو بين رجال الأعمال والدولة لا نعني أبدًا جميع رجال الأعمال. بل إن المرض المباشر والأسوأ الذي يصيب الاقتصاد بسبب هذا الاندماج هو الاستبعاد وليس بالضرورة التقريب. المهم أن ثمة فئة تتكون نطلق عليها «رجال أعمال الدولة» أي المفضلين لدي الدولة والذين يخضعون لها مقابل الحصول على امتيازاتها.
فإن تابعنا الصحف اليومية منذ منتصف السبعينيات نلاحظ ظاهرة طريفة، وهي وجود دورة حياة إعلامية لرجال الأعمال. في مرحلة الرئيس السادات كان يفضل رجال أعمال بأعينهم ويقربهم ويمنح بعضهم وظائف سياسية فيملئون الإعلام بإعلاناتهم وأخبارهم وتصريحاتهم. وفي غضون حكم الرئيس مبارك تم تدمير هذه الطبقة التي اشتهرت في عصر السادات، وبدأت أجيال جديدة تشق طريقها للسياسة وللإعلام الحكومي، ومر علينا ما لا يقل عن خمسة أجيال من رجال أعمال الدولة أو المقربين للدولة في عملية متواصلة للتقريب والإبعاد أو البناء والتدمير. فيصعد عدد منهم إلى قمة المجتمع، ويملئون الدنيا بإعلاناتهم وأخبارهم وتصريحاتهم، وربما بأدوارهم ثم يختفون فجأة وكأنهم لم يكونوا هنا ابدا.
ولا نريد أن نذهب إلى حد الحديث عن “قانون” عام لتكوين وتدمير رجال الأعمال، أو سمعتهم أو أدوارهم العامة، أو نفوذهم السياسي. إذ يكفي مؤقتًا أن نشير لظاهرة الصعود والهبوط السريع لرجال أعمال الدولة الكبار، أو لظاهرة تقريب واستبعاد رجال الأعمال من الفضاء العام ومن الفضاء السياسي والإعلامي.
بعضهم يفضل الاستقلال والديمقراطية
ولأننا نتحدث عن رجال الأعمال الكبار، فالوضع بالنسبة لرجال الأعمال الصغار والمتوسطين مختلف إلى حد كبير، وثمة ما يدل على أن مشاعرهم تجاه نظام الحكم مختلط إن لم يكن سلبيا في الإجمال. فالمشكلة بالنسبة لهؤلاء أن نظام مبارك لا يحترم حكم القانون، ولا قانون السوق الرئيسي وهو المنافسة الحرة. وفي استطلاع للرأي قمت به أعرب أكثر من 50% من رجال الأعمال في العينة العشوائية المختارة عن تفضيلهم نظام الحكم الديمقراطي حتى لو أن كفاءة النظام التسلطي وصلت إلى مستوي حكومات جنوب شرق آسيا التي حققت معجزات اقتصادية كبري هناك. فما بالنا والنظام لم يحقق سوي معجزة واحدة: تصغير مصر وإمكانياتها إلى حد نشر اليأس من أنفسنا.
ويهمنا أن نشير لانتشار هذا الرأي بين رجال الأعمال حتى بين بعض رجال الأعمال الكبار. فمن الخطر أن نسمح بإطلاق الشائعات والتعميمات المتعجلة والتي تنشر الاعتقاد بانهم جميعا عملاء للدولة أو أعضاء بالحزب الوطني بمزاجهم أو أنهم من نفس العينة الشخصية السيئة التي تورطت في فضائح الفساد واغتصاب الأموال والجري وراء الشهوات الرخيصة..الخ. وأعتقد أن لدينا في مصر نسبة عالية من رجال الأعمال الأفاضل،الذين كان بوسعهم لو توافر نظام سياسي مسئول وعقلاني وديمقراطي نقل مصر إلى موقع جديد في الاقتصاد العالمي (لمزيد من التفصيل انظر كتابي (رجال الأعمال: الديمقراطية وحقوق الانسان. مركز القاهرة لحقوق الانسان. 2002).
ثلاثة أنماط
ويمكننا في الواقع الحديث عن ثلاثة أنماط من العلاقة بين الدولة ورجال الأعمال الكبار:
النمط الأول هو التقريب والتوظيف المباشر وغير المباشر لمصلحة نظام الحكم أو نخبة الحكم. ويمنح المقربون وظائف وزارية ومواقع برلمانية كما يمنحون مزايا اقتصادية كبيرة ومؤثرة تنقلهم في غمضة عين أحيانا إلى رجال أعمال عمالقة أو كبار دون أن يرتبط ذلك بأي اجتهاد أو ابتكار أو إضافة حقيقية.
النمط الثاني هو العكس تمامًا: أي الاستبعاد أحيانا عن طريق التدمير، حيث يستهدف أشخاصًا بذواتهم للتحطيم أو الإخراج من السوق لأسباب شتى ليس هنا مقام الحديث عنها. وفي الحد الأدنى يتم اخراج هؤلاء الأشخاص من الفضاء العام ويمنع الحديث عنهم ويتم إقصاؤهم من الوظائف التي قد يكونون تقلدوها وحرمانهم من المزايا الاقتصادية في السوق أو الزج بهم في السجون.
أما النمط الثالث فهو أقرب لمعني الاستقلال أو الحياد السلبي. فبعض رجال الأعمال الكبار استوعبوا درسا يقول إن الاقتراب من السلطة قد يبني ولكنه أيضًا قد يُحرق. ولذلك تعمدوا النأي بأنفسهم عن هذا الطريق. وبعض هؤلاء قد يُترك لحاله بعد ممارسة بعض الضغوط المكثفة عليه لضمه للحزب أو توظيفه على نحو أو آخر في اقتصاد وسياسات الحكم. ولكن لا يقبل أبدًا من رجال الأعمال الاستقلال الحقيقي الكامل. فيتعين عليهم على الأقل أن يقبلوا بالتبرعات شبه الإجبارية وخاصة في أوقات الانتخابات العامة. وببساطة فإن الاستقلال ليس ضمانًا ضد الإحراق أو الإغراق السياسي ولكنه فيما يبدو صار ممكنًا بضريبة معينة يكاد يحفظها الجميع.
ولأن قواعد التقريب والإبعاد هي بذاتها ضد قواعد المنافسة الحرة صار صعود وهبوط رجال الأعمال تعسفيًا ومتوقفًا إلى حد كبير على رضا الدولة ونخبة الحكم العليا. كما أن هذه القواعد قادت بالضرورة إلى إضفاء طبيعة احتكارية وشائنة على السوق عموماً.
القواعد تشمل: دخول رجال الأعمال للحزب ومجلس الشعب، العمل في السوق في ارتباط عميق مع نخبة الحكم وأجهزة معينة في الدولة، تولي الوظائف التمثيلية العامة والخاصة وحتمية قبول مرشحي الدولة حتى في مؤسسات الأعمال، منحهم نفوذًا دوليًا عبر الغرف التجارية والمؤسسات المشتركة مع بلاد أجنبية، الإكثار من جمعيات رجال الأعمال أو الجمعيات الخاضعة لهم حتى يتم ضمان ولائهم وولاء الفئات المستفيدة من عمل الجمعيات، التركيز على دورهم في التعبئة أثناء الانتخابات العامة، منحهم العقود الامتيازية وحمايتها فترة كافية لتكوين ثروات كبيرة بعيدا عن قواعد السوق الحرة، وأحيانا منع الاستيراد لضمان أسعار احتكارية كافية لإثراء سريع لرجال أعمال بأعينهم أو العكس فتح باب الاستيراد لفئة منهم وأحيانا لصالح مؤسسات حكومية، السماح بطرق عمل تمييزية في القطاعات الحساسة وخاصة المصارف وشركات التأمين والبورصة إطلاق فرص الفساد وتوثيقه لاستخدامه عند اللزوم، مد فرص العمل للخارج ان لزم الأمر..الخ.
هذه القواعد هي مصفوفة من الواجبات والالتزامات الضاغطة على رجال الأعمال الكبار، والتي يصبح معها الاستقلال نوعًا من المخاطرة بالوجود وليس فقط بالحدود.
وهي أيضًا مصفوفة مذهلة من الامتيازات المخصصة لجماعة أو فرع دون غيره. ومع الوقت تصيب هذه الامتيازات عددًا مهما من رجال أعمال الدولة بالعجرفة وقد تصنع منهم قتلة بالمعني الجنائي أو بالمعني المجازي.
Share this Post