نظم مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان لقاءا فكريا في إطار صالون بن رشد بعنوان المحكمة الجنائية الدولية في السودان خطوة نحو حماية حقوق الإنسان أم انتقاص للسيادة الوطنية؟ استضاف المركز خلاله ناشطين وباحثين في مجال حقوق الإنسان ، بحضور عدد كبير من أبناء دارفور والمهتمين بالشأن السوداني في القاهرة.
وشن الخبراء المشاركون هجوما حادا على الأنظمة العربية لارتكابها انتهاكات ضد مواطنيها، كما أيدوا قرار مجلس الأمن الأخير بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب بدارفور أمام المحكمة الجنائية الدولية “بلاهاي” واتهموا الحكومة السودانية بارتكاب جرائم وصفوها بالبشعة تجاه مواطني دارفور، وأكدوا أن قرار مجلس الأمن ملزم للحكومة السودانية، وأن أمر الرجوع عنه غير وارد وأن القضية ليست تدخلا في سيادة السودان وإنما هى قضية نظام يحمي نفسه من دفع الحساب.
خلفية القرارات
وقدم عبد المنعم الجاك مسئول برنامج السودان بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان النقاش بخلفية حول قرارات مجلس الأمن الثلاثة الأخيرة بشأن السودان خصوصا القرار الأخير 1953 وما رتبته جمعيها من مواقف متباينة عن مختلف الأطراف محليا، وعربيا، ودوليا، مشيرا إلى إجراءات الحكومة السودانية لمناهضة القرار الأخير بالتعبئة العامة الداخلية والمصحوبة بتضييق الخناق على حريات التعبير والتجمع السلمي عبر الاعتقالات والمنع من السفر والعنف ضد الطلاب ومحاصرة دور الأحزاب السياسية “دار حزب الأمة” معربا عن دهشته لرفض المقاومة للقرار 1593 بدعوى السيادة الوطنية وقبولها للقرار 1591 الخاص بعقوبات اقتصادية وحرية تنقل الأفراد، والقرار 1590 المختص بإرسال 10 آلاف جندي أجنبي لحفظ السلام بالسودان.
وقال “الجاك” إن خلفية القرارات جاءت من واقع قتل 30 ألف ونزوح حوالي مليونين آخرين، وهذا أوجد اهتماما دوليا معقولا من المجتمع الدولي والأمم المتحدة منذ يوليو 2004 بـ 9 قرارات وجلسة استثنائية لمجلس الأمن بالعاصمة الكينية “نيروبي”، وتحذير الأمين العام للأمم المتحدة قبل عام بتكرار كارثة “رواندا”، مضيفا أن تقرير اللجنة الدولية لتقصي الحقائق بدارفور وصفت القضاء السوداني بعدم الكفاءة الفنية وغياب الإرادة السياسية العدلية، وخلو التشريعات السودانية من تهم الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، بخلاف المحكمة الجنائية الدولية التي تتصف بالمهنية والاستقلالية عن الأمم المتحدة والحكومات وأنها غير سياسية، وينتخب قضاتها، ومختصة بالجرائم الواردة في تقرير اللجنة الدولية، حيث لا توجد محكمة أخرى ذات اختصاص مشابه، محذرا من مراهنة الحكومة السودانية على إشاعة سيناريو فوضى واستغلال انعكاسات القرار لخلق حالة تناحر على خلفية قبلية ضد أو مع القرار، خاصة أن الإقليم أصلا متوتر اجتماعيا وإقليميا.
ليست سيادة
وأوضح “حافظ أبو سعدة” الأمين العام للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، أن جرائم دارفور هى لأول مرة جرائم من حكومة ضد شعبها، بما استدعى إحالة القضية إلى مجلس الأمن وفق الباب السابع وأن التجريم وفق الإحالة خطأ جسيم بحق الشعب صاحب السيادة. وقال “أبو سعدة” القضية ليست قضية تدخل في سيادة السودان، وإنما هى قضية نظام يحمي نفسه من دفع الحساب، وأنه هو الذي تسبب في هذا التدخل الدولي، وأن الأجنبي يأتي بسبب الانتهاكات التي هى خرق للسيادة مثل القتل خارج القضاء والتعذيب الجماعي، عزل الأهالي، الاغتصاب، والعزل التعسفي، الاعتقالات وغيرها، متساءلا أين كانت هذه السيادة التي يتحجج بها نظام الخرطوم عندما قبل اللجنة الدولية لتقصي الحقائق بدارفور، وعندما فتح لها الأبواب وسهل عملها، وعندما حوى تقريرها جرائم وفئات ونهب وقتل؟ وأين كانت الحكومة عندما استجوبت اللجنة مسئوليها وانتهت إلى إدانة 51 شخصا؟ واصفا قضية السادة بقميص “عثمان” وبالمصاحف على أسنة الرماح، مؤكدا أن المحكمة الدولية أكثر عدالة من أي نظام قضائي عربي، وأنها لا يوجد بها حكم بالإعدام مثلما يوجد في المحاكم السودانية، وقال “أبو سعدة” المحكمة الجنائية الدولية قضاتها أفارقة وصادقت على ميثاق إنشائها 46 دولة أفريقية، مشيرا إلى تبني الأطراف العربية أكاذيب حول دارفور دفاعا عن نفسها وعن غياب العدالة وتفشي فسادها وانتهاكاتها، معتبرا أن أي معارض عربي للسلطة أو للثروة أو للنفوذ هو حسب القوى المسيطرة، إما عميل أجنبي أو حزب أو مجنون أو من الفئة الضالة، مطالبا بتعزيز قاعدة عدم الإفلات من العقاب أيا كان المنصب السياسي للمتهم.
وأكد “أبوسعدة” في سياق حديثه أن الحكومة السودانية سوف توافق على القرار الأخير لمجلس الأمن وأن الحلقة ستضيق عليها وستتراجع عن موقفها، كما حدث في العراق وسوريا وأنه لا يمكن الطعن في هذا القرار، وأن كل الاحتمالات قائمة إذا ظل النظام السوداني رافضا بهذه الصورة ودعا “أبو سعدة” إلى التمسك بفوائد قرار مجلس الأمن، مشيرا إلى أنها سابقة في الدول العربية تستدعي مساندة من مناضلي حقوق الإنسان حتى تعود السيادة للشعب.
الرجوع غير وارد
وأكد “عبد الله خليل” المحامي والخبير الناشط بمجال حقوق الإنسان أن القرار ملزم للحكومة السودانية وأن أمر الرجوع عنه غير وارد وأنه يمكن إعطاء الفرصة لتأجيل تنفيذ القرار في مدة لا تتعدى 24 شهرا، وقال “خليل” إن العدالة متوافرة أمام المحكمة الدولية وبنصوص غير متوافرة في أصول المحاكم العربية وأهم ضماناتها الحماية من التعذيب، الاعتراف غير المفصل، خلو أحكامها من عقوبات قاسية أو إعدام، حق المتهم في الاستعانة بمهام، وفي الاستعانة في شهود إثبات ونفي، الحق في الطعن، مضيفا قضاة المحكمة الجنائية الدولية، مستقلين يتم اختيارهم طبقا لشروط موضوعية، وهناك استقلال مالي وإداري تتمتع به المحكمة، متساءلا هل التقاضي أمام المحكمة الدولية التي بها كافة الضمانات القانونية أم التقاضي أمام قضاء محلي مسيس وغير مستقل؟ معتبرا أن عدم التصديق على اتفاق “روما” لن يعفي من الجرائم المرتكبة في دارفور بعد يوليو 2002 مهما كان منصب المتهم أو موقعه، مشيرا إلى أن القرار رسالة إلى كل الأنظمة العربية بأن عدم التصديق لن يعفيها من المحاكمة على الجرائم.
وقال “خليل” إن أزمة اغتيال “رفيق الحريري” إنذار من المجتمع الدولي شديد اللهجة للنظم القانونية العربية وأن قرارات مجلس الأمن قد أكدت على السيادة الوطنية، موضحا أن العنف ضد المدنيين واستغلال النساء والاعتداء الجنسي على الفتيات هى جرائم ضد الإنسانية ذات طابع دولي وأن المادة 17 من نظام المحكمة الدولية تسأل هل تم تحقيق جدي ونزيه في الجرائم التي ارتكبت؟ وهل هناك نية إعفاء المسئولين عن الجرائم. وأضاف أن المحكمة الدولية دائمة الولاية وليست مؤقتة مثل محاكم يوغوسلافيا ورواندا.
إنهاء دائرة شريرة
وأضاف “مجدي النعيم” المدير التنفيذي لمركز القاهرة أن الحكومة السودانية تحاول أن تعكس أن قرار مجلس الأمن الأخير استهداف لها وللدولة وهذا أمر مشكوك فيه، فمساندة المجتمع الدولي للنظام في “نيفاشا” أكبر دليل على عدم إثبات هذا الأمر، بالإضافة إلى اجتماع المانحين في “أوسلو” والذي أعطى الحكومة أكثر مما طلبت، مشيرا إلى أن القرار جاء تتويجا لحزمة من القرارات تضع السودان في مسار جديد تحت الوصاية الدولية وأنه ليس مجرد محاكمة أفراد، وإنما بداية لإنهاء دائرة شريرة في تاريخ حقوق الإنسان .
كما لاحظ “النعيم” انقساما هشا في القوى السياسية السودانية والأطراف العربية وتذبذبات في الموقف تجاه الأزمة. وقال “النعيم” إن القرارات الخاصة بحد حركة مواطنين وتقييد حرية التصرف في أموال وبعثة الـ 10 آلاف جندي ومهامها المتعددة ودعم وإعادة هيكلة قوات الشرطة، ورصد موقف إطلاق النار ومواجهة الجماعات المسلحة ومساعدة الشمال والجنوب على بناء أجهزة القضاء والقانون، كل هذا يشكل مصادرة فعلية لسيادة السودان ومراقبة سلوك الأفراد.
Share this Post