أجمع عدد من الخبراء والمثقفين علي تعدد الأسباب والدوافع في قضية التحرش الجنسي بما يصعب معه التركيز علي عنصر واحد منها وتحميله المسؤولية عن تفاقم الظاهرة في الآونة الأخيرة، وكانت العديد من حوادث التحرش الجنسي قد شغلت الرأي العام المصري في الفترة الأخيرة، خاصة أن بعضا من تلك الحوادث كان جماعيا، وجرت وقائعها في أشهر شوارع القاهرة، ما دفع الكثيرين إلي إطلاق صيحات تحذير ودعاوي إلي مناقشات أكثر جدية للقضية بحثاً عن علاج لها، وفي هذا الإطار جاءت ندوة “التحرش الجنسي والخطاب الديني” التي عقدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في إطار صالون ابن رشد وأدارها المدير التنفيذي للمركز معتز الفجيري.
وفي بداية الندوة أكد الفجيري أن قضايا المرأة تعد جزءا هاما من قضايا المواطنة وعدم التمييز، مشيرا إلي أن مصر أصبحت مثار حديث في المحافل الدولية المختلفة بسبب موضوع التحرش، كما أن بعض شركات السياحة أصدرت مؤخرا تحذيرات للسائحات من إمكانية تعرضهن للتحرش الجنسي في مصر، وقال الفجيري أن النقاشات التي تناولت الموضوع كانت تركز علي الأبعاد القانونية والأمنية والسياسية، فيما أغفلت التركيز علي الخطاب الديني والثقافي.
لكن الكاتبة الصحفية كريمة كمال اعتبرت في بداية حديثها أن ربط قضية التحرش بالمعتقد الديني وحده كعامل مؤثر يحمل فصلا تعسفيا للمعتقدات عن الأعراف والتقاليد لدي الشعب المصري، إضافة إلي عوامل أخري كالظروف الاجتماعية والاقتصادية، لافتة في الوقت نفسه إلي أن استغلال الدين في العديد من القضايا الاجتماعية صار أمرا زائدا عن الحد.
واستطردت مشيرة إلي أن المجتمع المصري متدين بطبعه، إلا أن مظاهر هذا التدين الزائف زادت في الفترة الأخيرة، مؤكدة أن الخطاب الديني فيما يخص قضية التحرش الجنسي يأخذ النصوص الخاصة بالمرأة كما هي ، أو يقدم لها تفسيرا حسب المزاج والهوى، مشيرة إلي أن الخطاب الديني السائد في مصر ينظر إلي المرأة علي أنها مخلوقة لإمتاع الرجل ، ويسجنها في تلك النظرة ، وأن الشباب يتعامل مع المرأة أيضا متأثرا بتلك النظرة.
وذهبت كريمة كمال إلي أن هناك غياب لرد فعل الخطاب الديني تجاه حوادث التحرش الجنسي الأخيرة ، مرجعة ذلك – في رأيها – إلي الرغبة المستمرة في إلقاء اللوم علي المرأة وتسببها في تلك الحوادث، لافتة إلي ارتفاع نسبة المحجبات اللاتي تعرضن لتحرش جنسي، ومعتبرة أن التحرش بالنساء يمثل نوعا من أنواع العنف ضد المرأة ، وينطلق من نظرة دونية ونمطية لها، وانتقلت كمال إلي الحديث عن واقعة التحرش الأخيرة الخاصة بالفتاة نهي رشدي والتي قادت إلي محاكمة المتحرش بها والحكم بسجنه ثلاث سنوات وقالت أن ردود الأفعال تجاه الحادثة كانت متباينة ، وأن الغالبية العظمي اعتبرت أن نهي أخطأت بالإبلاغ عن المتحرش، ولفتت كمال إلي إن ضباط الشرطة المنوط بهم تلقي البلاغات في قضايا التحرش قد يقومون بما هو أكثر من التحرش، لأنهم انعكاس لثقافة المجتمع المحيط بهم، مضيفة أن النساء أنفسهن يعتبرن أن من العيب الإبلاغ عن وقائع التحرش إذا تعرضن لها، ما يؤدي إلي السكوت عن حالات كثيرة منها ، وحتى السكوت والتستر على حالات اغتصاب نتيجة الخوف من الإدانة المجتمعية.
وخلصت كمال إلي أن المرأة هي التي تستطيع التغيير وأنها لو ظلت قابلة بالأوضاع الحالية وصامتة إزاءها فلن يحدث أي تغيير.
برامج تأهيلية
وبدأ الدكتور عمرو الورداني أمين الفتوى ومدير التدريب بدار الإفتاء حديثه مستعينا بنتائج العديد من الدراسات التي تناولت موضوع التحرش، حيث كشفت هذه النتائج عن أن 9% من المرضي النفسيين في إحدى الدراسات تعرضوا لانتهاكات جنسية في بعض من مراحل حياتهم، و60% من الفتيات في دراسة أخري تعرضن للتحرش، وكشفت دراسة أخري أن مول تجاري سعودي جرت به 89 حالة تحرش جنسي كان الفاعل معلوما في 83 حالة منها، فيما أشارت دراسة أخري إلي وقوع 20 ألف حالة اغتصاب سنويا في مصر، وأن 57% من الطالبات الجامعيات في الأردن تعرضن لمضايقات من أساتذتهن.
اعتبر الورداني أن تلك الإحصائيات وغيرها تؤكد أن هناك حالة من حالات “شيوع الفوضى”، ما يستوجب معها تفاعلا جديا ومشروعات فعالة، وليس فقط مجرد كلمات، وأورد خمسة عشر سببا لقضية التحرش الجنسي، من بينها التبني المجتمعي لثقافة “الوصم” ما يجعل العبء ملقي بشكل دائم علي المرأة، إضافة إلي تبني ثقافة التكتم والتعتيم وغياب الوعي العام بعناصر الجسد وكيفية التعامل معها أو غياب التربية الجنسية.
وتابع أن من بين الأسباب حالة الازدحام بما يسمح باختراق خصوصيات الآخرين، وكذلك انتشار حالات الاقتراب غير المحسوب بين الجنسين في الأماكن العامة والوجود غير المنضبط في بعض منها كالجامعات، إضافة إلي العشوائيات التي تمثل بيئة أساسية لانتشار مثل هذه الظاهرة، وضغط المثيرات الجنسية وانتشار البطالة وغياب الأمن والتدعيم الاجتماعي، والمخدرات وزنا المحارم، ووجود خطاب ديني يصور المرأة علي أنها للجنس فقط، وقال الورداني أن هذا الأخير لا يمثل الخطاب الديني، ويتغافل عن حقيقة دور المرأة وضرورة التفاعل معها.
أشار الورداني إلي وجود برنامج بدار الإفتاء لإعداد وتأهيل الدعاة للقيام بما يسمي بالإرشاد والدعم الاجتماعي، وذلك في شكل جديد من أشكال الدعوة، حيث يتضمن البرنامج إكساب الداعية مهارات جديدة تضم التعريف بالظاهرة وأسبابها ودور الواعظ في التعامل معها وكيفية تقديم الدعم للضحية، مضيفا أن هناك مشروع آخر لجمع الفتاوى والأحكام المتعلقة بالموضوع تمهيدا لإصدارها في كتاب بهدف توعية الدعاة أنفسهم.
التحرش التاريخي
كذلك رأي أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة عين شمس الدكتور قدري حفني أن الدراسات أجمعت علي وجود أسباب متعددة لظاهرة التحرش الجنسي، ومن بينها أسباب تتعلق بالفقر وتدهور القيم الدينية وانتشار القنوات الإباحية والملابس الفاضحة وعدم كفاية العقوبة، معتبرا أن ربط الأمر بالخطاب الديني وحده يحمل تضييقا للموضوع وتحميلا للخطاب الديني بما لا يحتمل، حيث أن النص الديني قابل للتأويل، وطرح الدكتور حفني عددا من التساؤلات ومنها هل تقتصر ظاهرة التحرش علي مجتمع بعينه أو فترة تاريخية بعينها؟ ولماذا يكون التفسير غير الصحيح للدين هو دائما الأكثر انتشارا في المجتمع؟ وإذا كان الفقر سببا للظاهرة فلماذا تحرش الرئيس الأمريكي كلينتون بموظفة البيت الأبيض مونيكا؟ ولماذا يحدث التحرش في بريطانيا وفرنسا وبلاد الخليج وإسرائيل؟
ولفت الدكتور حفني إلي أن التاريخ شهد في بعض من مراحله قصرا للتحرش علي النساء الإماء، بل وكان التحرش بهن مطلوبا في مناطق كأسواق النخاسة حيث يتم “تقليب” جسد المرأة التي ينظر إليها في هذه الحالة علي أنها “بضاعة للبيع”، وأكد الدكتور حفني أن بقايا وذيول فترة الرق لا تزال موجودة، وأن المتحرش ينظر لامرأة حطي الآن علي أنها “بضاعة” هو محروم منها، مشددا علي أن التحرش موجود عبر مختلف الثقافات والطبقات، مشيرا إلي أن الإنسان في علاقاته الاجتماعية تختلط لديه قيم التملك مع قيم العواطف.
وأكد الدكتور حفني علي ضرورة تشديد العقوبة في حوادث التحرش الجنسي وتلفع في اتجاه “أنسمة” العلاقات بين الناس، وتمييزها عن علاقات الملكية، مشيرا إلي أن هناك خطاب ديني إسلامي في غاية التحرر ويعطي للمرأة حقها.
ظاهرة قديمة
المحامية والنشطة الحقوقية أميرة بهي الدين تساءلت في البداية: لما كل هذا الاهتمام المفاجىء بقضية التحرش، وكأنه لم يكن هناك تحرش من قبل، لافتة إلي أن الحكم في قضية نهي رشدي استند إلي قانون العقوبات الصادر في عام 1940 والذي كان يعاقب علي جريمة هتك العرض والتحرش بأنثى ومضايقتها بالفعل أو القول، مؤكدة أننا لا نحتاج قانونا جديدا في هذا الشأن، حيث القانون موجود بالفعل ومع ذلك فالتحرش أيضا موجود في الشارع وجهات العمل والمحاكم وغيرها، بين تحرش لفظي وبدني.
ورأت أن البعض يعتبر الأنوثة هي الخطيئة، مشيرة إلي أن التحرش الجماعي يمثل ظاهرة انحراف سلوكي أجرامي ونوع من العنف الاجتماعي، ولفتت إلي إن النظرة للجسد بطريقة تحط منه هي نظرة موجودة في التراث، وقالت أن الشعب المصري متدين بالفعل، ولكن هناك انتشار لظاهرة التدين الشكلي ولطقوسي وغياب التقوى الفعلية.
واعتبرت أن الخوف من الفضيحة الاجتماعية والإدانة المسبقة للضحية وراء الإحجام عن الإبلاغ عن العديد من حوادث التحرش، مشيرة إلي أن الآباء والأمهات أنفسهم يلتمسون الأعذار للجاني كما أن رجال الشرطة يحملون ثقافة التماس الأعذار للجاني وإدانة الضحية.
Share this Post