يُهنئ مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان الرباعي الراعي للحوار الوطني التونسي لحصوله على جائزة نوبل للسلام، وذلك لدوره المحوري في بناء ديمقراطية تعددية في تونس، بناءً على ترشيح رئيس الجمهورية التونسية المنتخب الباجي قائد السبسي.
لقد تمكن الرباعي الراعي للحوار الوطني التونسي المكون من تحالف يضم منظمات مجتمع مدني حقوقي ونقابات مهنية وعمالية ورجال أعمال –هم الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الاتحاد التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (نقابة الاعراف)، والهيئة الوطنية للمحامين– من إيجاد صيغة توافقية لخارطة طريق تجمع بين مختلف الأطياف السياسية، وذلك بعد أن وصلت حدة التوتر السياسي في عام ٢٠١٣ إلى حد التوعد بحل المجلس التأسيسي المنتخب المكلف بكتابة الدستور الجديد للبلاد، والتهديد بموجة غير مسبوقة من العنف السياسي، فضلًا عن بعض الدعاوى المطالبة بتدخل الجيش التونسى لتولي مقاليد الحكم، وذلك على خلفية تصاعد حدة التوتر بين “جبهة الإنقاذ الوطني” الممثلة للكتلة العلمانية التونسية وبين ائتلاف السلطة الثلاثية المشتركة [الترويكا] الحاكم، الذي يضم “حزب النهضة” الإسلامي واثنين من حلفائه غير الإسلاميين هما “التكتل” و “حزب المؤتمر من أجل الجمهورية.
إن قبول المكونات المؤسسية والأمنية للدولة التونسية، وكذلك حركة النهضة الإسلامية، لنتائج المباحثات الماراثونية التي قادها المجتمع المدني التونسي، قد جنَّب تونس ويلات تعثر الانتقال الديمقراطي وانتكاسه –التي لا تزال تعاني منها كافة بلدان الربيع العربي.
لم تكن الأزمة السياسية عام ٢٠١٣ هي المرة الأولى التي تقدم فيها مكونات المجتمع المدني التونسي حلولًا واقعية، وخريطة طريق شاملة تجنب الدولة التونسية مخاطر التعثر في الانتقال الديمقراطي.
بعد الثورة، خلقت الدولة التونسية بيئة مواتية تُمكِّن “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة” من القيام بدورها، كهيئة تعبر عن أبرز مكونات المجتمع المدنى التونسى. فقد لعبت “الهيئة” دور القاطرة السياسية والتشريعية منذ ٢٠١١ وحتى أول انتخابات عامة في تونس، وهي الفترة التي أسست لانفتاح المجال العام في تونس وانتصار التوجه الديمقراطي.
ففيما كانت الدولة التونسية تتبنى مقترحات بقوانين خاصة بتحرير العمل الأهلي والانتخابات –بما فيه تعيين هيئة دائمة للانتخابات ومناصفة النساء للرجال في القوائم الانتخابية وتحرير الصحافة المرئية والمسموعة والمكتوبة من استبداد الدولة البوليسية– كانت بعض الأنظمة السياسية في بلدان الربيع العربي تؤجج الاحتراب الأهلي بين فصائل شعبها، بل وتعتدي –جنسيًا– على النساء المشاركات في المجال العام بدعوى الكشف عن عذريتهن.
كانت الدولة التونسية على قدر من المسئولية والوعي السياسي والأخلاقي في ٢٠١١ عندما سمحت بتحرير العمل الاهلي وفتح المجال العام أمام مكونات المجتمع المدني للنضوج السياسي. وفي أقل من عامين ساهم المجتمع المدني في منع انزلاق تونس نحو مصير دول عربية أخرى كسوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر، التي تتبارى نظمها السياسية والأمنية على تصفية المجتمع المدني وتصويره كشريك في مؤامرة عالمية لتقسيم البلدان.
إن التقدير الذي حظت به مكونات المجتمع المدني التونسي الحقوقية والنقابية ورجال الأعمال، ربما جاء توبيخًا لبلدان عربية أخرى آثرت تصفية المجتمع المدني والسياسي لحماية أنظمة سياسية مستبدة ومترهلة، على حساب تحقيق تنمية متكاملة مستدامة تقود لمزيد من التقدم والرفاهية.
يأتي تكريم الشعب التونسى، في اليوم نفسه الذي تمكن فيه مبعوث الأمين العام إلى ليبيا برناندينو دي ليون من التوصل إلى اتفاق بين الأطراف الليبية المتصارعة، حول تشكيل حكومة وحدة وطنية ليبية، وهي خطوة مهمة تحول دون المزيد من الانزلاق نحو مستنقع الحرب الأهلية والتقسيم في ليبيا.
لم يكن ممكنًا للأطراف الليبية التوصل إلى هذا الاتفاق دون رعاية ووساطة دولية، ليس فقط بسبب تعقيدات الوضع العسكري في ليبيا وانخراط بعض الدول العربية في عملية تقسيمها وتفتيتها، عبر تشجيع الحل العسكري وتفضيله على الحل السياسي، ولكن أيضًا لأن القذافي قام بتجريف المجال العام على مدى ما يقرب من ٤٠ عامًا من حكمه، تعمَّد خلالها إنهاء دور المجتمع المدني الليبي –الذي كان بمقدوره أن يتدارك الأوضاع قبل أن تصل إلى ما آلت إليه.
إن صدور التكريم الدولي الأول للمجتمع المدني التونسي من هيئة غير عربية، يكشف عن مدى ضحالة الرؤى السياسية التي تحكم غالبية النظم العربية الحالية، والتي أدت لنتائج كارثية في الصومال والسودان وليبيا وسوريا والعراق واليمن، بينما تبقى النماذج التنويرية النادرة في المنطقة كتونس، لتذكّرنا بالفرص الضائعة للإصلاح والنمو.
لا تزال الدولة التونسية تعاني من تحديات كبرى وتركة ثقيلة من الإشكاليات الاقتصادية والسياسية، وتحديات أمنية جمة مرتبطة بالوضع الإنساني المتدهور بالجارة الحدودية ليبيا. ولكن جائزة نوبل للسلام لم تأت فقط لتذكر الدولة التونسية بالنهج الصحيح الذي يجب أن تنتهجه وهي تواجه تحديات العدالة الانتقالية والتطرف العنيف والانتصار لحقوق الإنسان، ولكنها أيضًا رسالة للشعوب العربية بأن الحوار والحرية والتكاتف القائم على قبول الحق فى الاختلاف هو الطريق الصحيح.
Share this Post