مصر: دليل البرلمانيين حول قانون التجمهر 10/1914
في ٢٠ سؤال وجواب
أثار تقرير مركز القاهرة دراسات حقوق الإنسان الصادر في ٣١ يناير الماضي حول قانون التجمهر 10/1914، بعنوان “نحو الإفراج عن مصر” جدلًا كبيرًا في أوساط الرأي العام، وتناولته وسائل الإعلام المحلية والدولية بكثير من الأسئلة، فضلًا عما طرحه بعض السادة أعضاء مجلس النواب – ومن بينهم السيد رئيس لجنة الشئون التشريعية والدستورية– من تساؤلات محورية حول أهم مستخلصات التقرير. في هذا الدليل يستعرض الخبراء القانونيون بالمركز بشكل موجز أبرز تلك الأسئلة، ببعض من التوضيح والتفسير والجواب. علمًا بأن هذا الدليل الموجز لا يغني بالطبع عن الرجوع لنص التقرير والوثائق التاريخية الملحقة به، ولا يمكن أن يكون بديلًا عن جلسة عامة يفترض أن يخصصها مجلس النواب لمناقشة هذه القضية الشائكة التي تمس السلطة بروافدها الثلاثة (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، بحضور ممثلي مركز القاهرة وبمشاركة أسر ضحايا هذا القانون الملغي، من خلال البث التليفزيوني المباشر للمناقشة.
في 18 أكتوبر 1914، أصدر حسين رشدي باشا –رئيس مجلس النظار (مجلس الوزراء) – قانون التجمهر رقم 10 لسنة 1914، إبان الحرب العالمية الأولى، ضاربًا بالقواعد القانونية لإصدار القوانين في ذاك الوقت عرض الحائط، مغتصبًا سلطة التشريع من الخديوي عباس حلمي الثاني حاكم مصر، مستغلًا سفره لتركيا لقضاء شهر رمضان، ولم يعد الخديوي مرة أخرى لمصر بأمر من سلطة الاحتلال حتى تم تنصيب السلطان حسين كامل حاكمًا لمصر عوضًا عنه.
كعادته قبل السفر للخارج، أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني قرارًا بتفويض محدد وواضح لرئيس مجلس النظار كنائب عنه فقط للنظر في أعمال الحكومة (القرارات التنفيذية) وإصدار الأوامر بشأنها، ولم يمتد التفويض لسلطة إصدار القوانين. وبالتالي فقانون التجمهر الذي أصدره رئيس مجلس النظار صدر بالمخالفة لتفويض (الأمر الكريم) الخديوي.
لم يكن إصدار قانون التجمهر المخالفة الوحيدة التي ارتكبها حسين رشدي، فقد أصدر أيضًا قرارًا بتأجيل انعقاد الجمعية التشريعية[1]، متجاوزًا بذلك التفويض الصادر له من الخديوي، و متعديا على القانون المنشئ للجمعية، والذي خلا من نص يبيح تأجيل انعقادها.
الأدلة كثيرة، لكننا سنكتفي ببيان دليل واحد، والمتعلق بتأجيل انعقاد الجمعية التشريعية. بحسب مذكرات أحمد شفيق باشا،[1] جاء فيها تحت عنوان: “رسالة انتقاد من عباس إلى رشدي” نصًا: “لاحظت أن بعض قراراتكم اتخذت بحجة أنكم لم تصلكم منا أوامر بخصوصها، فكان الواجب عليكم من باب الحيطة أن تتأكدوا من وصول برقياتكم لنا، وكان عليكم إرسال صورة برقياتكم بالبريد أو برسول خاص. ولو أنكم استعملتم هذه الطريقة لما حصل سوء تفاهم، مع أنه لم يصلنا منكم شئ من 27 أغسطس إلى 22 أكتوبر، ففي هذه الظروف الصعبة، كان من الواجب، بالنسبة للمسائل المهمة، ألا تتخذوا أي قرار قبل أن أعطيكم موافقتي عليه، فمثلًا بخصوص تأجيل الجمعية التشريعية، علمنا أن ردنا لكم بالبرق لم يصلكم، فكان عليكم أن تطلبوا منا الرد تحريريًا.”[2]
يتألف القانون من 4 مواد، أضيفت لهم مادة (3 مكرر) عام 1968 في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.
- يعاقب هذا القانون التجمع المكون من 5 أشخاص على الأقل، بالحبس 6 أشهر أو الغرامة التي لا تزيد عن 20 جنيه، لو رأى ضباط الشرطة أن التجمع مخل بالسلم العام، أو رفض المجتمعون الأمر الصادر بالتفرق. ولما لم يكن هناك ضوابط لتحديد مدى وجود إخلال بالسلم العام من عدمه، يرتهن هذا بالأساس برغبة رجل الأمن في تفريق المجتمعين، فضلًا عن أن القانون –على عكس ما يعتقد غير المتخصصون- يجيز فض التجمعات ولو كانت في مقهى -ليس على سبيل المبالغة- ولعل القضية المعروفة إعلاميًا بـ “معتقلي القهوة”، دليل على ذلك، فقد كان التجمهر من بين الاتهامات الواردة فيها.[1]
- يعاقب القانون على النية، فقد قرر العقوبة لو كان الغرض من التجمع ارتكاب جريمة ما (بما في ذلك المخالفات المحددة عقوباتها سلفا في قانون العقوبات) حتى ولو لم ترتكب الجريمة.
- يقر القانون بالمسئولية الجماعية لكل المشاركين في التجمع عن أي فعل مخالف للقانون، حتى وإن كان مرتكبه شخص واحد. في مخالفة صارخة لمبدأ شخصية العقوبة.
- القانون تضمن عبارات فضفاضة وواسعة تخضع لتقديرات ضباط الشرطة في المقام الأول، منها مثلًا:”الإخلال بالسلم العام”، “ارتكاب جريمة ما”، دون تحديد المقصود بهذه العبارات.
تكشف مراسلات بين الملك وسلطة الاحتلال (مرفقة بالتقرير)، أن ثمة محادثة تمت بين الديوان الملكي في مصر والمندوب السامي البريطاني، بتاريخ 6 مايو 1928، جاء فيها أن فترة الشهر المقررة دستوريًا للاعتراض على قانون إلغاء التجمهر تنتهي في 9 مايو، وأنه إذا لم يعترض الملك على الإلغاء فسوف يصبح قانون الإلغاء صادرًا في ظرف 3 أيام. ولذلك طلب الملك من سلطة الاحتلال التدخل لإثناء البرلمان عن هذا الإلغاء.
استغلت الحكومات” الوطنية” المتعاقبة منذ عام 1952 قانون التجمهر لقمع كافة الاحتجاجات الشعبية، فعقب هزيمة الجيش في يونيو ١٩٦٧ أدخل الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر تعديلًا على قانون التجمهر بإضافة المادة 3 مكرر التي تضاعف الحد الأقصى للعقوبات المقررة لأي جريمة تقع أثناء التجمهر لتصل في بعض الأحوال للسجن المؤبد. وقد سبق هذا التعديل، إصدار وزير داخلية عبد الناصر، عام 1964، قرارًا يجيز قتل المتجمهرين والمتظاهرين على حد سواء. وفي 1971 في عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات صدر قانون الشرطة متضمنًا نصًا يبيح قتل المشاركين في التجمعات وإن كانت سلمية، باستخدام الأسلحة النارية بدءًا من الخرطوش وانتهاءً بالأسلحة سريعة الطلقات، وذلك كله استنادًا لقانون التجمهر (الملغي).
كما تم توظيف قانون التجمهر –إن جاز القول- لقمع كافة الاحتجاجات السلمية المتعاقبة منذ ذلك الحين، وأبرزها انتفاضة 18، 19 يناير 1977 التي اسماها السادات زورًا بانتفاضة “الحرامية”، وسار على الدرب نفسه الرؤساء المتعاقبين من مبارك وحتى الرئيس الحالي.
يتفق التجمهر والتظاهر في أن كلاهما تجمع لعدد من الأشخاص، لكن التجمهر بحسب القانون جريمة في حد ذاته سواء ترتب عليه جرائم من عدمه، أما التظاهر فيبقى بحسب القانون وسيلة للتعبير عن الرأي ولا عقوبة عليه في حد ذاته، طالما تم تنظيمه وفقًا للقواعد التي يقرها القانون. فضلا أنه وبحسب قانون التظاهر، يُسأل عن الجرائم الواقعة أثناء المظاهرة مرتكبها فقط ولا تمتد مظلتها لتشمل كافة المتظاهرين، بخلاف التجمهر الذي يفترض المسئولية المشتركة للمتجمهرين عن الجرائم التي ترتكب أثناءه، وهذا يتنافى مع مبدأ شخصية العقوبة التي اقرها الدستور.
أيضًا تختلف ضوابط تفريق التجمع وفقًا لقانون التجمهر عنها بحسب قانون التظاهر، فبالنسبة للأخير يتعين على قوات الشرطة أولًا مطالبة المشاركين بالتفرق، ثم استخدام خراطيم المياه، يعقبها الغاز المسيل للدموع، ثم يجوز استخدام الهراوات إن رفضوا التفرق. وفي حال عدم جدوى هذه الوسائل أو وقوع أعمال عنف يجوز للقوات استخدام الطلقات التحذيرية، ثم قنابل الصوت والدخان، يعقبها استخدام طلقات الخرطوش المطاطي، ثم طلقات الخرطوش غير المطاطية، وأخيرًا استخدام الأسلحة النارية في حالات حددها القانون، إلا أنه ف وبحسب قانون التجمهر يجوز استخدام الأسلحة النارية ومن ثم القتل بطريقة مباشرة.
وبالتالي، فإن كل مظاهرة غير مخطر بها تعد تجمهرًا في نظر الشرطة مخلا بالسلم العام. ومن ثم يطبق قانون التجمهر حتى لو لم يسفر عنه جرائم
هذا ما يحدث بالفعل، إذ يطبق قانون التجمهر على المظاهرات غير المخطر بها. فبدلًا من تطبيق نصوص قانون التظاهر 107 /2013الذي يقرر عقوبة الغرامة التي لا تقل عن 10آلاف جنيه ولا تجاوز 30ألف جنيه على التظاهر دون إخطار، يطبق قانون التجمهر بإعتبار أن هذه التظاهرة، ما هي الا تجمع مخل بالأمن العام أو تهدف إلى ارتكاب جرائم. وهذا ما حدث .
يؤسس قانون التجمهر في مواده لفكرة المسئولية المشتركة للمشاركين في التجمعات عن الجرائم التي ترتكب خلالها، ومن ثم يشرعن للأحكام الجماعية، و لذا استخدمته بعض المحاكم مؤخرًا كأساس في إصدار أحكام جماعية بالمؤبد والإعدام على المتظاهرين. فبحسب القانون تفترض المحاكم أن مجرد المشاركة في التجمع تستوجب علم المشاركين بأهدافه غير المشروعة، فإذا ارتكب أحد المشاركين جريمة يعد كافة المتجمعين شركاء فيها. وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض باعتبار أن: “الفقرة الثانية من المادة 3 من القانون رقم 10 لسنة 1914 بشأن التجمهر قد نصت على أنه إذا وقعت جريمة بقصد تنفيذ الغرض المقصود من التجمهر فجميع الأشخاص الذي يتألف منهم التجمهر وقت ارتكاب هذه الجريمة يتحملون مسئوليتها جنائيًا بصفتهم شركاء إذا ثبت علمهم بالغرض المذكور.”
السبب الرئيسي في تطبيق هذا القانون رغم إلغائه، منذ 89 عامًا، هو تملص الملك فؤاد -باعتباره صاحب السلطة في إصدار القوانين –من واجبه الإلزامي بنشر قانون الإلغاء في الجريدة الرسمية. إذ أن النشر يعد إجراء لازمًا لإتمام الإجراءات الفنية القانونية لتفعيل الإلغاء. وھذا ما دفع مركز القاهرة لإقامة طعن أمام محكمة القضاء الإداري لإلزام رئیس الجمھورية، ورئیس الوزراء، ووزیر العدل، ووزیر الصناعة، ورئیس مجلس إدارة الهيئة العامة لشئون المطابع الأمیریة، بإلغاء القرار السلبي للسلطة التنفيذية بعدم نشر قانون إلغاء التجمهر بالجریدة الرسمیة. ومن ثم تفعیل إنهاء العمل بھذا القانون بصورة مطلقة
ثمة أثار عديدة قد تترتب على الحكم بإلزام السلطة التنفيذية بنشر إلغاء قانون التجمهر بالجريدة الرسمية، مع أهمية التفرقة بين حالتين، الأولى: تتعلق بمن تمت معاقبتهم بموجب قانون التجمهر ونفذوا العقوبة كاملة، أما الثانية: فتتعلق بالمحبوسين حاليًا بموجب قانون التجمهر وقوانين أخرى.
بالنسبة للحالة الأولى، يحق لهم مقاضاة الدولة طلبًا للتعويض، جراء امتناعها عن نشر إلغاء القانون بالجريدة الرسمية، الأمر الذي تسبب في محاكمتهم بموجبه، أو تشديد العقوبة عليهم بموجبه تطبيقًا للمسئولية المشتركة بين جميعم.
أما في الحالة الثانية، فثمة نوعان من المسجونين، المعاقبون على التجمهر باعتباره الاتهام الوحيد الموجه لهم بموجب المادة (1) من قانون التجمهر، وهؤلاء يفترض أن تسقط عنهم العقوبة المقررة بمجرد نشر إلغاء قانون التجمهر. أما المدانين بجرائم عديدة ترتكز أساسا على الاتهام بالتجمهر، فيتعين تعديل العقوبات المحكوم بها لصالحهم، باعتبار أن قانون العقوبات و قانون التظاهر أصلح للمتهم، وبما يقتضي تحديد المسئولية الجنائية لكافة المدانين عن الجرائم التي وقعت تنفيذًا للتجمهر وليس المسئولية المشتركة، الأمر الذي يستتبعه إسقاط الادانة بالتجمهر كظرف مشدد للجريمة.
أثار تقرير مركز القاهرة حالة من الجدل داخل البرلمان، وطالب بعض أعضاء البرلمان الحكومة بالرد على الوثائق التي استند إليها التقرير. فإذا اعترفت السلطة التنفيذية بالخطأ الممتد لـ 89 عامًا، يجدر بها تصحيحه ونشر إلغاء قانون التجمهر بالجريدة الرسمية مزيلًا بتوقيع رئيس الجمهورية، ولا حاجة لانتظار حكم القضاء الإداري.
في 29 أبريل 1989 أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمًا يقضي بتوافق المادتين 2، 3 من قانون التجمهر مع الدستور، وهذا الحكم لا يعني إعادة قانون التجمهر للحياة، لأن المحكمة لم تبحث المخالفات الجسيمة التي ارتكبها حسين رشدي باشا رئيس مجلس النظار عند إصداره للقانون، ولم تتطرق إلى إلغائه من قبل البرلمان المصري في 1928. وذلك لأنها كانت مقيدة بما طلبه رافع الدعوى فقط وقتها، لكن ما بني على باطل فهو باطل أيضًا.
بالطبع لا، ذلك لأن القانون صدر باطلًا بالأساس، وألغاه مجلسي النواب والشيوخ، ونال موافقة الملك فؤاد على الإلغاء بمجرد مرور فترة الشهر المنصوص عليها في دستور 1923 دون اعتراض منه، وما بني على باطل فهو باطل بالضرورة.
في حقيقة الأمر لسنا بحاجة لهذا القانون، ذلك لأن قانون العقوبات كافي لتوقيع العقاب على كافة الجرائم، وخاصة التي يرتكبها أكثر من شخص. لأنه تضمن نصوصًا تعاقب على الاشتراك أو المساهمة في الجريمة.