رجب سعد يكتب لمركز رفيق الحريري للشرق الاوسط
دستور لا يحمي الحقوق والحريات: ليبيا تكتب دستورها
في 29 يوليو 2017 صوّت 43 عضوا، من بين ستين عضواً هم أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع دستور ليبيا، على مسودة مشروع الدستور. حسم التصويت جدل طويل ومعقد امتد لأكثر من 3 سنوات بهدف التوصل إلى مشروع يحظى بتوافق أغلبية الثلثين زائد واحد بين أعضاء الهيئة (المعروفة إعلامياً بلجنة الستين) التي تم انتخابها في 20 فبراير/شباط 2014. وهكذا سيكون على البرلمان طرح المشروع للاستفتاء الشعبي، ووفقا للإعلان الدستوري، الذي يحكم ليبيا في الوقت الحالي – يجب موافقة ثلثي المقترعين لإقرار المشروع، واعتباره دستورا للبلاد.
خلال السنوات السابقة تصاعدت الخلافات داخل الهيئة بشأن مقر العاصمة، وتوزيع الثروات الطبيعية، وشكل العلم، والنشيد الوطني، وتوزيع أعضاء مجلس الشيوخ، وحتى ديباجة الدستور. لكن الخلافات الأكثر عمقاً دارت حول الضمانات الدستورية لحقوق الإنسان والحريات، وحقوق المواطنة والمساواة، خصوصا في ظل الجدل حول موقع الشريعة الإسلامية في الدستور.
منذ بداية الثورة الليبية تصدر الحديث عن دور الشريعة الإسلامية الخطاب السياسي والثوري، وقامت غالبية الأطراف بمغازلة المزاج الديني المحافظ “والمتشدد” الذي شهد رواجًا في ليبيا بعد الثورة. ففي 23 أكتوبر 2011، وخلال الاحتفال بتحرير ليبيا، استهل المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي كلمته بالسجود على أرض ميدان الاحتفال، قبل أن يؤكد للشعب الليبي أن “أي قانون مخالف للشريعة الإسلامية هو موقوف فورا”. وتماشياً مع هذا الاتجاه، نصت المادة الأولى من الإعلان الدستوري الصادر في 2011 على أن الإسلام دين الدولة، والشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع. وفي ديسمبر/كانون الأول 2013، وقبل فترة وجيزة من انتخاب الهيئة التأسيسية، حاول البرلمان الليبي استباق تشكيل الهيئة التأسيسية بإعلانه أن “الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع في ليبيا.
استهلك الوصول إلى توافق حول موقع الشريعة الإسلامية في الدستور نحو 3 سنوات من عمر الهيئة التأسيسية لحسمه؛ وكانت الصيغة الأولى التي صدرت في 2015 موغلة في التشدد وتؤسس لدولة دينية، حيث نصت على أن “الإسلام دين الدولة، وأحكام الشريعة الإسلامية مصدر كل تشريع، ولا يجوز إصدار أي تشريع يخالفها، وكل ما يصدر بالمخالفة يعد باطلا”. كما ألزمت المادة الدولة بسنّ التشريعات اللازمة لمنع نشر وإشاعة العقائد المخالفة للشريعة الإسلامية والممارسات المنافية لها، فضلا عن النص على تحصين هذه المادة من التعديل.
وانتهى النقاش حول هذه المادة في عام 2017 إلى الصيغة التالية في المادة 6: “الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر التشريع”، وفي المادة 195 التي تنظم إجراءات تعديل الدستور، تم تحصين المادة الخاصة بمرجعية الشريعة الإسلامية من التعديل مستقبلاً.
تخفيف الحمولة الدينية في هذه الصياغة الجديدة لا يعني أن حقوق الإنسان والحريات باتت في مأمن من إمكانية العصف بها. فوضع الشريعة الإسلامية مصدراً وحيدًا للتشريع دون وجود تعريف واضح لها وضوابط لإلزام المُشرّع بها، وعدم إضافة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان إلى مصادر التشريع، سيجعل مصير الحقوق والحريات رهنًا بتفسير الأغلبية التي ستهيمن على مجلس النواب وفهمها للشريعة، والتي هي بطبيعتها خاضعة لقراءات متعددة طبقاً لاختلاف المذاهب الفقهية. لم يقلل من خطر هذه الصياغة الفضفاضة وضع مشروع الدستور للمعاهدات والاتفاقات الدولية – ومن بينها تلك المرتبطة بحقوق الانسان – في مرتبة فوق القانون، لأنه أبقى هذه المعاهدات والاتفاقيات في مرتبة أدنى من الدستور، ما يعني واقعياً إمكانية تعطيل أي آليات حقوقية لحماية الحقوق والحريات طالما رآها المُشرّع مخالفة لأحكام الدستور.
لم يهتم مشروع الدستور أيضا بوضع ضمانات لتحقيق المساواة بين المواطنين؛ فعلى الرغم من حظر كافة أشكال التمييز بين المواطنون والمواطنات أمام القانون فإن المقترح تتضمن مواد تميز بين الليبيين سواء على أساس الجنس أو الدين؛ فالمادة 69 تشترط لعضوية مجلس النواب أن يكون “ليبيا مسلمًا”، كما تنص المادة 99 الخاصة بشروط الترشح لرئاسة الجمهورية على أن يكون المرشح ليس فقط ليبيا مسلمًا، وإنما يجب أن يكون “لوالدين مسلمين”. ومن غير الواضح في شروط الترشح لرئاسة الجهورية إن كان سيسمح للمرأة بالترشح على المنصب أم لا.
وكان مقترح مشروع الدستور الصادر في أبريل/نيسان 2016 قد ألزم الدولة بسن القوانين التي تكفل حماية المرأة، ورفع مكانتها في المجتمع، وحظر التمييز ضدها، والقضاء على الثقافة السلبية والعادات الاجتماعية التي تنتقص من كرامتها، والاعتراف بحق المرأة في منح الجنسية الليبية لأبنائها، ولكنه ترك للقانون كيفية تنظيم هذا الحق، مما يهدد هذه المكاسب. إلا أن الهيئة قامت بحذف الإشارة في مشروع الدستور لحق المرأة في منح الجنسية لأبنائها.
ويعزى هذا التراجع عن دعم حقوق المرأة في جانب منه إلى ضعف تمثيلها في الهيئة التأسيسية، حيث تتكون الهيئة من ستين عضوًا يمثلون الأقاليم الرئيسية في ليبيا برقة وطرابلس وفزان، بنسبة 20 عضو لكل إقليم. ولكن القانون خصص نسبة 10% فقط للنساء، بالإضافة لمقعدين لكل من الطوارق والتبو والأمازيغ. وقد تعرض هذا التقسيم لانتقادات واسعة من المدافعين عن حقوق المرأة، كما قاطع الأمازيغ الانتخابات، وظل المقعدين المخصصين لهم شاغرين.
واستمراراً لهذا الاتجاه المعادي للحقوق والحريات، على الرغم نص مشروع الدستور على صيانة حق التعبير والنشر؛ إلا أن الصياغة قيدت هذا الحق بما أسمته حظر “التحريض على الكراهية” دون تعريف واضح، وهذا تعبير فضفاض في ظل عدم وجود حدود واضحة ومتفق عليها تفصل بين حرية التعبير وخطاب الكراهية؛ ومن ثم فإن الباب سيكون مفتوحا أمام السلطة التنفيذية لقمع حرية التعبير والفكر والإبداع، وربما يطال التقييد النقد الذي يوجه لمؤسسات الدولة كالبرلمان والجيش.
هذا التوسع في السلطة التقديرية للجهات التنفيذية طال حق التظاهر والتجمع السلمي أيضاً، حيث أعطي المشروع لقوات الأمن الحق في استخدام القوة “في حالة الضرورة”، وهي صياغة ملتبسة وتمنح قوات الأمن حق تفسير “حالة الضرورة” واتخاذ قرار استخدام القوة ضد المتظاهرين السلميين طبقا لرؤيتها. وهي صيغة تنزع الحماية عن المتظاهرين السلميين من بطش وعنف الشرطة وقوات الأمن.
في ظل هذه الرؤية المقيدة لحقوق الإنسان في مشروع الدستور الليبي، نص المشروع على إنشاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان، لتكون مهمته “ترسيخ قيم حقوق الإنسان والحريات العامة الواردة في الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية”. إلا أن الصياغة لم تنص على استقلال المجلس وإدارته الذاتية لميزانيته بما لا يجعله خاضعا للحكومة، كما تم اغفال النص على أن يضم تشكيل المجلس الوطني نسبة من المدافعين عن حقوق الإنسان؛ وهو ما يخالف مبادئ باريس لإنشاء الهيئات الوطنية لحقوق الإنسان.
من المخيب للآمال أن يكون المشروع الصادر عن الهيئة التأسيسية المنتخبة لا يوفر الحماية لحقوق الإنسان، بل يفتح المجال أمام انتهاكها. إن تضحيات الشعب الليبي طوال عقود كانت تفرض على الهيئة التأسيسية ألا تهدر الفرصة التاريخية لوضع دستور لدولة ديمقراطية تحترم وتصون حقوق الإنسان. جدير بالذكر أن إقرار المشروع لم يعني التوصل إلى التوافق الفعلي؛ إذ أصدر 10 أعضاء بالهيئة بيانا أعربوا فيه عن رفضهم للطريقة التي صدر بها المشروع، واتهموا رئاسة الهيئة وأنصارها بـ “على التصويت على المشروع كحزمة واحدة، ودون قراءته والاطلاع عليه”.
كان الأجدى أن تكتفي الهيئة، في ظل عجزها عن إتمام مهمتها في صياغة دستور يلبي مطالب الثورة الليبية وتعزيز الحق في الكرامة والمساواة والحرية، بإجراء تعديل على الإعلان الدستوري، وتؤجل صياغة الدستور لما بعد تجاوز الاستقطاب السياسي وعودة الاستقرار في ليبيا. ربما من المفيد الآن أن تطلق منظمات المجتمع المدني الليبية حملة واسعة النطاق لمناقشة موقع الحقوق والحريات في مشروع الدستور؛ فقد يساعد هذا المواطنين الليبيين على اتخاذ القرار المناسب لهم قبل التوجه لصناديق الاقتراع.
هذا المقال منشور على موقع مركز رفيق الحريري للشرق الاوسط
Share this Post