بهي الدين حسن
مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسانخلال الأعوام الست التي تلت انقلابه العسكري على أول رئيس مدني منتخب، قاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عدة انقلابات سياسية وأمنية وتشريعية ودستورية وانتخابية. يتهيأ السيسي هذه الأيام لشن انقلابه الدستوري الذي يمكنه من التملص من النص الدستوري الحالي الذي يلزمه بمغادرة منصبه بعد ٣ سنوات، لكي يبقى في الحكم حتى عام ٢٠٣٤. من المحتمل أن يكون السيسي هو الضحية الرئيسية لانقلابه الأحدث، فبجانب إعطاء الجيش الغطاء الدستوري لازاحته، أعطي السيسي لمعارضيه من داخل وخارج نظامه هدف يوحد صفوفهم. بالإضافة إلى هذا تبين التجربة التاريخية في مصر أن رؤساء الجمهورية الذين يعدلون الدستور من أجل تمكينهم الاستمرار في الحكم، انتهى بهم الحال إلى خسارة مقاعدهم.
منذ اليوم الأول لانقلابه في ٣ يوليو ٢٠١٣ أكد السيسي أنه لن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية، وولي الحكم لقاضي كرئيس مؤقت لمدة عام ولكن السيسي كان الرئيس الفعلي منذ ذلك اليوم. خلال عام كان قد حنث بوعده ورشح نفسه رئيسا للجمهورية وبدأ انقلابه ضد حلفائه العلمانيين، فأطاح بوزرائهم وسجن شبابهم. خلال السنوات الأربعة لفترته الرئاسية الأولى خاض خلف ساتر دخان مكافحة الارهاب أوسع عملية قمع عرفها التاريخ المصري الحديث ضد نقاده و معارضيه السلميين، إسلاميين وعلمانيين. خلال عامه الأول كرئيس للجمهورية قاد في غياب البرلمان عملية انقلاب تشريعي، أصدر خلالها مئات القوانين والتعديلات القانونية المناقضة للدستور. وفقا لشهادة أحد مستشاري السيسي المنشورة (والذي يعتقله السيسي من بعدها وحتى الآن)، فقد شكلت الأجهزة الأمنية البرلمان قبل انتخابه صوريا، وفي أولى جلساته، قام البرلمان باعتماد القوانين التي أصدرها السيسي في غيابه في ساعات بدون مناقشة. قبل نهاية فترة حكمه الأولي أقال السيسي دون سابق إنذار رئيس أركان الجيش ورئيس أهم وأكبر جهاز استخباري في مصر ووضعهما رهن الاعتقال المنزلي، وعين مدير مكتبه رئيسا للمخابرات العامة وابنه الأكبر محمود السيسي في موقع الرجل الثاني فيه. ثم ألقي القبض على أبرز المرشحين المنافسين له في الانتخابات الرئاسية، فأودع رئيس الأركان الأسبق سامي عنان في السجن، وأودع أحمد شفيق القائد الأسبق لسلاح الطيران ورئيس الوزراء الأسبق رهن الاعتقال المنزلي، وسجن ضابط آخر كبير قدم استقالته ليرشح نفسه. كانت هذه فضيحة غير مسبوقة منذ عرفت مصر النظام الجمهوري قبل ٦٥ عاما.
بعد ”الانتخابات“ شن السيسي أوسع حملة اعتقالات للرموز السياسية العلمانية منذ عام ١٩٨١، وأقال وزير الدفاع الذي تشكك في ولائه لشخصه وعين مكانه قائد حرس قصره. بالتوازي مع قمع المرشحين للرئاسة من العسكريين أطلق السيسي حملة عسكرية كبيرة في سيناء ضد داعش، أسماها ” العملية الشاملة“ مصحوبة بحملة اعلامية صاخبة اعتبرها مراقبون حينذاك أنها تستهدف إبعاد الأنظار عن الفضيحة الانتخابية غير المسبوقة الجارية في القاهرة. كان مقررا للحملة أن تنتهي بعد ثلاثة شهور، لكن جرى مد أجلها لعام. بعد نهاية العام، توقف المتحدث العسكري عن إصدار بيانات باسم العملية الشاملة، دون أن يصدر بيانا ختاميا بإنجازاتها أو يعلن مصيرها، بينما مازالت داعش تواصل هجماتها، و تستغل جرائم الجيش ضد المدنيين في سيناء في دعاياتها.
ترصد الدراسات الأكاديمية الرصينة بأقلام مصرية وغير مصرية أن الصراع السياسي اليومي بين كبار القادة العسكريين في الحكم والجيش هو العامل الثابت والحاسم في إدارة الدولة في مصر منذ الانقلاب العسكري الأول في يوليو ١٩٥٢. كما ترصد كيف أدي هذا الصراع الضاري إلي تخلف مصر على كافة الأصعدة، نتيجة استنزاف الموارد وانعدام الكفاءة. وكيف انعكس ذلك الصراع على مهنية الجيش وكفاءته بأضرار جسيمة. كيف كان هذا الصراع سببا رئيسيا في أكبر هزيمة عسكرية في تاريخ مصر الحديث في يونيو ١٩٦٧، بل كيف أثر هذا الصراع على الادارة اليومية للمعارك في حروب أخرى. في اليوم الأول للجنرال في منصب رئيس الجمهورية، يدرك أن عليه أن يوازن يوميا بين اعتبارين حيويين متناقضين. أولهما أن الجيش هو حاميه كممثل له في حكم البلاد. الثاني، أن الجيش خطر عليه ويجب أن يحمي نفسه من الأطماع السياسية لوزير الدفاع وأبرز القادة العسكريين في الحلول محله. هذه هي معضلة السيسي اليومية وكل رئيس سبقه خلال ٦٧ عاما مضت. السؤال الذي يبدأ جدول أعماله صباح كل يوم، هو كيف يحتفظ الجنرال الرئيس بتوازنه الدقيق طول الوقت وهو يسير على ذلك الحبل المشدود ولا يسقط، فيبتلعه الغضب الشعبي أو حاميه، أي جيشه!
اجتذب التعديل الذي يسمح للسيسي بالبقاء في الحكم ١٢ عاما اضافيا أنظار أغلب المحللين، على حساب تعديلات نوعية لا تقل خطورة تتصل بالسلطة القضائية ودور الجيش في النظام السياسي، ويترتب عليها تكثيفا لطابع حكم الفرد الديكتاتور. وفقا لتصريحات اثنين من كبار المسئولين الحاليين في المحكمة الدستورية العليا ومجلس الدولة، فإن هذه التعديلات تستهدف استكمال الهيمنة الكاملة للسيسي على القضاء، وهيمنة الجيش على الشأن السياسي في مصر. وقد يشي موقف القضاة إلى جانب مواقف معلنة من شخصيات هامة أخري في عهدي مبارك والسيسي إلى عدم توافر توافق داخل نظام السيسي حول هذه التعديلات. كما يلاحظ أن صياغة التعديل الدستوري الخاص بدور الجيش لا تنحصر باسناد إليه دستوريا للمرة الأولي دور الشرطي القامع، بل هي تمنحه ضمنا دور الحكم أيضا بين كبار اللاعبين السياسيين، بما في ذلك رئيس الجمهورية. النص لا يقول بذلك حرفيا، لكنه ينطوي على هذا المعنى بوضوح لا لبث فيه. يعزز من ذلك أن هذا هو بالفعل الدور الذي لعبه الجيش مرتين خلال عامي ٢٠١١ & ٢٠١٣، وبدون حاجة لنص دستوري، الأمر الذي أدي لإقصاء الرئيسين السابقين حسني مبارك ومحمد مرسي. هل يعي السيسي أن تعديلاته على الدستور هي سلاح خطير ذي حدين؟ أحدهما يمنح غطاء دستوريا للجيش ليقوم بعزله مع أول أزمة كبرى قادمة، بينما يمنح الثاني الجيش التبرير اللازم لتحويل مصر لحمام دم كبير على النمط السوري يغرق فيه معارضيه.
من المستبعد أن يكون السيسي غير مدرك لمدى خطورة المغامرة ” الدستورية“ الجديدة على مستقبله، لكنه اختار مبكرا منطق الهروب للأمام بدلا من التراجع والتصحيح. هو يدرك تماما أنه لن يكون بمأمن في اليوم التالي لنهاية حكمه في يونيو ٢٠٢٢ ما لم يعدل الدستور الحالي. فهو متهم في تقارير حقوقية مصرية ودولية منشورة بارتكاب جرائم تفوق بعدة أضعاف ما سبق أن أتهم به الرئيس الأسبق حسني مبارك، بينها مسئولية مباشرة عن مذبحة كبرى على الأقل. لذا يظل بقائه في الحكم مدى الحياة هو الضمانة الوحيدة له، حتى لو كان الثمن هو الإخلال الجسيم بالتوازن الدقيق بين رئيس الجمهورية والجيش حاميه وعدوه اللدود!
لقد دخل الرئيس السابق محمد مرسي التاريخ باعتباره الحاكم الذي أقنع بممارساته عامة المصريين بأن الإسلام ليس حلا في السياسة. على الأرجح سيعرف التاريخ عبد الفتاح السيسي بأنه الجنرال الذي أقنع عامة المصريين بأن الجيش ليس حلا في السياسة، بل يجب إخراجه منها بغير رجعة.
Photo: Mars 2018. — Panneaux géants dans la ville du Caire durant la campagne électorale de la présidentielle. Khaled Desouki / AFP
Share this Post