منذ 2014، يعاني سكان ليبيا كثيرًا من الصراعات المسلحة والهجمات العسكرية العشوائية الممتدة، والتي أصبحت المرافق العامة الأساسية والبنية التحتية أحد أهدافها المكررة. وفي خضم هذه الصراعات تمت التضحية بحقوق المواطنين السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية، وامتدت معاناة السكان الليبيين وغير الليبيين شرقًا وغربًا من انقطاع متكرر للمياه والتيار الكهربائي، وسوء الخدمات الطبية، فضلاً عن أزمة مالية طاحنة، وهذا كله بينما يتفشى وباء كوفيد- 19 في البلاد.
منذ مطلع أغسطس 2020، انتشرت دعوات التظاهر على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي 23 أغسطس انطلقت الاحتجاجات في مدن سبها وطرابلس وبنغازي، وتبعتها احتجاجات مماثلة في مدن سرت ومصراتة والزاوية وغات والجميل وأوباري.
رفع المتظاهرون في جميع أنحاء ليبيا مطالب مماثلة من أجل الحق في حياة كريمة، وتوفير الخدمات الأساسية، ووضع حد لتوغل الفساد. بينما واجهت السلطات في الشرق والغرب هذه المظاهرات بإجراءات عنيفة، وقمع للمتظاهرين واستهداف الصحفيين والنشطاء السلميين.
ففي طرابلس ألقت السلطات القبض على 6 متظاهرين، بينما قبضت على أكثر من 80 متظاهرًا في سرت و5 في بنغازي، فضلاً عن إغلاق الساحات العامة بالمدفعية الثقيلة لمنع التظاهرات في بنغازي في 23 أغسطس، وفي طرابلس منذ 28 أغسطس، ووصم المتظاهرين بالخيانة والتحريض ضدهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بما في ذلك الشخصيات العامة. وفي طرابلس أيضًا رفضت السلطات منح المتظاهرين تصريح للتظاهر وفرضت حظر تجوال لمدة أربعة أيام في 26 أغسطس. وذلك بعدما أسفرت المواجهات العنيفة وإطلاق النار عن المتظاهرين في طرابلس عن إصابات عديدة ومقتل أحد المتظاهرين. وفي سرت، لقي أحد المتظاهرين أيضا مصرعه بعد أن دهسته سيارة، كما لجأت السلطات لقطع جميع خدمات الإنترنت والاتصالات في المدينة، واعتقال أي شخص في حوزته معدات يمكن استخدامها لتثبيت شبكات الاتصال أو الانترنت عبر الأقمار الصناعية.
يأتي ذلك في سياق قمعي يخضع فيه الصحفيين والنشطاء السلميين والمتظاهرين لمحاكمات تعسفية، لا سيما أمام المحاكم العسكرية في شرق ليبيا. ووفقًا للمنظمة الليبية للإعلام المستقل، مثّل ما لا يقل عن 35 مدنيًا أمام المحاكم العسكرية منذ 2015، بينهم المصور الصحفي إسماعيل بوزريبة الزوي.[2]
ومن ثم، يدعو مركز القاهرة ومنظمات المنصة الليبية مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، والإجراءات الخاصة للأمم المتحدة، و اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب ، والاتحاد الأوروبي، إلى الضغط بشكل عاجل على جميع السلطات الليبية للإفراج عن كل المحتجزين تعسفيًا، وفتح تحقيق جاد في استهداف المتظاهرين والنشطاء، وضمان حماية الحق في التجمع السلمي والحق في حرية التعبير. كما يدعوا المجلس الرئاسي ومجلس النواب إلى:
- حماية المتظاهرين وعدم تقييد حرية التجمع السلمي؛
- وقف الملاحقة القضائية واستهداف النشطاء السلميين والصحفيين، بما في ذلك من خلال الإنترنت؛
- وقف محاكمة المدنيين وخاصة الصحفيين بتهم الإرهاب أمام القضاء العسكري؛
- الإفراج عن المتظاهرين والنشطاء والصحفيين في شرق وغرب ليبيا ومدينة سرت؛
- التحقيق الشامل في استهداف المتظاهرين والنشطاء؛
- وقف حجب الإنترنت وشبكات التواصل الأخرى في سرت؛
- وقف العمل بالقوانين والقرارات واللوائح المقيدة لحرية التعبير وللحق في التجمع السلمي ولتكوين الجمعيات، وخاصة قانون المطبوعات رقم 76 لعام 1972، وقانون تنظيم التظاهر رقم 65 لعام 2012، والقانون رقم 19 لسنة 2001 بشأن تنظيم الجمعيات الأهلية؛
- الامتثال لالتزامات العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وتفسيرات لجنة حقوق الإنسان لنصوصه المتعلقة بالحق في حرية التعبير، والحق في التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات، والعمل على إصدار قوانين جديدة في ليبيا تحترم هذه الالتزامات الدولية.
تأتي هذه الحملة الأخيرة على الحق في التجمع السلمي وحرية التعبير على النقيض من الطريقة التي رحبت بها سلطات شرق وغرب ليبيا بالمظاهرات ذات الدوافع السياسية التي انطلقت لدعمها في وقت سابق من هذا العام، على نحو يعكس ازدواجية المعايير والانتهاك الواضح لالتزامات ليبيا الدولية. كما ذكرت مؤخرًا لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، أنه يجب السماح للأفراد بالالتقاء بأمان سواء للتعبير عن أنفسهم أو الاحتفال أو التعبير عن مظالمهم، عبر الإنترنت أو دونه، علنًا أو سرًا، دون اتعرض لخطر المقاضاة أو تهديد حياتهم الخاصة. كما أنه بموجب التزامات ليبيا الدولية بحماية الحق في التجمع السلمي، يجب حماية المتظاهرين من العنف، سواء عنف متظاهرين آخرين أو عنف العناصر المسلحة التابعة أو غير المنتسبة للسلطات، فضلاً عن أن حجب الإنترنت وشبكات الاتصال الأخرى المستخدمة في تنظيم المظاهرات يعد انتهاكًا للحق في التجمع السلمي.
السياق:
انطلقت المظاهرات في 23 أغسطس، في طرابلس ومصراته والزاوية، حيث تم إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين لتفريقهم في طرابلس مما أسفر عن إصابة عدد من المتظاهرين والقبض على 6 منهم بينهم الناشط “مهند الكوافي”، ومدير شبكة راديو الجوهرة “سامي الشريف”، الذي تم القبض عليه من ميدان الشهداء بطرابلس أثناء مظاهرة تنتقد المجلس الرئاسي، وتم نقله وفقًا لزملائه وشهادات جمعتها منظمة العفو الدولية لبرج أبو ليلى، الخاضع لسيطرة مليشيا النواصي تحت قيادة مصطفى قدور. وفي مصراته ورغم عدم استهداف المتظاهرين، ألقت الاستخبارات والغرفة المشتركة في مصراته القبض على “عبد اللطيف أبو حمرة” في 23 أغسطس، أثناء تغطيته حملة توعية ضد وباء كوفيد- 19بالقرب من مدينة بني وليد. وفيما أنكرت وزارة الداخلية محاولة المتظاهرين التواصل معها مسبقًا، أصدرت بيان بأن التظاهر يستوجب أذن مسبق من السلطة التنفيذية وفقًا للقانون رقم 65 لعام 2012. وفي 26 أغسطس أصدر المجلس الرئاسي قرار 559 بحظر التجوال لمدة 4 أيام.
في 25 و26 أغسطس تجددت التظاهرات مرة أخرى، وشاركت فيها نقابة المحاميين في طرابلس، وقد شنت صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي حملات تشهير واسعة بحق المتظاهرين مطالبة بالقبض عليهم بتهمة الخيانة، فأصدرت رئاسة أركان الجيش الليبي بيان رقم 24 الصادر في 26 أغسطس يتهم المحامين والمتظاهرين بـ “الغوغائية وخيانة الوطن”.
ورغم إغلاق الساحات العامة بالمدفعية الثقيلة، استمرت الاحتجاجات في العاصمة طرابلس وامتدت في 26 أغسطس إلى عرادة وتاجوراء والجميل وأوباري وسبها ومصراتة. وفي 28 أغسطس، لقي المتظاهر”سند عمر المقرحي” مصرعه في طرابلس نتيجة إطلاق مسلحين النار لتفريق المتظاهرين.
وفي 28 أغسطس أيضًا، أصدر رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق القرار رقم 562 بوقف عمل وزير الداخلية “فتحي باشاغا” مؤقتا وإحالته للتحقيق، بعدما أشار باشاغا لمسئولية الجماعات المسلحة عن العنف في قمع المتظاهرين، وبعد ساعة من صدور القرار أعلن وزير الداخلية قبوله المثول أمام لجنة التحقيق على أن يكون التحقيق علنيًا ومباشرًا.
وفي الشرق، في سرت انطلقت مظاهرات مؤيدة لسيف الإسلام القذافي، في 24 و25 أغسطس، قابلتها بالرصاص الحي المجموعات التابعة للبحث الجنائي التي تضم عناصر سلفية متطرفة تابعة للقيادة العامة، كما لقي المتظاهر “ناصر عويدات” مصرعه دهسًا، وتضررت 7 بسيارة تابعة للبحث الجنائي، وتم القبض على أكثر من 80 متظاهرًا. وأخيرا تم قطع خدمة الانترنت والاتصال عن المدينة، واعتقال كل شخص يحاول معالجة الشبكات أو الاتصال بالإنترنت عبر الأقمار الصناعية. وجدير بالذكر أنه في 11 أغسطس، اعتقلت أجهزة الأمن الداخلي أربعة مدنيين في سرت على خلفية الاشتراك في مظاهرات سلمية دعمًا للنظام السابق، وقد تم إطلاق سراح ثلاثة منهم، بينما لا يزال مصير الشخص الرابع مجهولاً.
وفي بنغازي، انتقد بعض النشطاء عبر صفحات التواصل الاجتماعي تردي الأوضاع المعيشية وخاصة في سياق جائحة كورونا، فأصدر مدير أمن بنغازي ووزير داخلية حكومة الثني في 11 أغسطس المراسلة الداخلية رقم 3656 والذي يتهم خمسة أشخاص بزعزعة أمن الدولة وإطلاق دعوات للتظاهر. وقد تم اعتقال شخصين منهم من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للقيادة العامة، بعد ظهورهما في مقاطع فيديو مؤيدة لسيف الإسلام القذافي. ثم أغلقت قوات مسلحة تابعة للقيادة العامة الساحات العامة التي من المزمع أن يلتقي فيها المتظاهرين في 23 أغسطس، لترهيب المتظاهرين ومنع أي تجمع.
أما في مدينة القبة حيث مقر إقامة رئيس البرلمان الليبي “عقيلة صالح” خرجت مجموعة من المتظاهرين في 25 أغسطس مطالبين بتحسين الأوضاع المعيشية ومحاربة الفساد.
[1] المنصة الليبية: ائتلاف حقوقي ليبي أسسه مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عام 2016، وتضم المنصة حاليًا 13 منظمة حقوقية.
[2] علمت أسرته يوم الثلاثاء 28 يوليو 2020 بالحكم الصادر ضده- قبل شهرين- من محكمة عسكرية بالحبس لمدة 15عامًا بتهم تتعلق بعمله الصحفي.
الصورة: رويترز / حازم أحمد.
Share this Post