أي مستقبل ينتظر النظام العربي بعد ما بدت أطرافه عاجزة عن القيام بأي دور يقطع الطريق على الغزو الأمريكي-البريطاني، وبعد أن صارت أراضي بعض أطرافه منطلقا لجحافل الغزو، بل ولإدارة عملياته منها، وهل ينهار هذا النظام وجامعته العربية بصورة نهائية بفعل نتائج هذا الغزو؟
أسئلة عديدة طرحها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان خلال الأمسية التي نظمها في إطار صالون بن رشد في الأول من أبريل حول “مستقبل النظام الإقليمي العربي” وأدارها بهي الدين حسن مدير المركز.
استهل بهي المناقشة بالإشارة إلى تزايد الشكوك حول وجود أي مستقبل للنظام الإقليمي العربي ولجامعته حتى من قبل غزو العراق بحكم أزمات عديدة سابقة كشفت العجز العربي بصورة فادحة مشيرا إلى أن قمة شرم الشيخ رغم إعلانها لرفض الحرب على العراق فإنها عمليا لم تنضم للمعسكر الرافض للحرب ولم تعلن دعمها للعراق. أشار إلى أن النظام يواجه عدة احتمالات أولها استمرار النظام القائم حاليا كما هو مع تأثره بعض الشئ بما يحدث في العراق، والثاني الذوبان في المشروع الشرق أوسطي المطروح منذ اجتماعات مدريد عام 1996، المبني على إعلان برشلونة، والثالث الذوبان في الإطار الأورومتوسطي، أما الاحتمال الرابع فهو نشأة إطار إقليمي جديد تحت عنوان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يضم إلى جانب الدول العربية كلاً من إيران وتركيا وإسرائيل، أما الاحتمال الأخير فهو إدراك إصلاح حقيقي وجذري بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني، يحيى النظام الحالي والجامعة العربية مسترشدا في ذلك ببناء وهيكلة الاتحاد الأوروبي.
ومن جانبه فإن د. محمد السيد سعيد- نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، أشار إلى أن النظام العربي فقد أي وجود له منذ فترة طويلة وأنه كان قائما بسبب وجود نوع من الضرورة لعمل عربي مشترك، رغم أن الشكل الرمزي المتمثل في الجامعة العربية قد فقد قدرته منذ فترة طويلة في تعميق أواصر الوحدة والتضامن ونقل الوضع العربي من وضعه الراهن المهزوم إلى وضع أفضل وأرقى.
وعبر سعيد عن اعتقاده بعدم وجود أسس موضوعية في التركيبة السياسية الحالية للنظام العربي تؤشر إلى إمكانية التجاوز الجذري لمنظومة الجامعة العربية مع عدم وجود قوى دفع كافية لإنشاء نظام عربي جديد. وذهب إلى أنه بدون موقف عاجل وقوي من المجتمعات المدنية والسياسية العربية فإنه يكون ممكنا تجاوز النظام العربي الحالي. مشيرا في ذلك إلى أن النظام العربي لم يبعث برسالة واضحة للإدارة الأمريكية تؤكد وقوفه ضد الحرب، ومؤكدا كذلك على أن قائمة الدول المستهدفة من الإدارة الأمريكية تضم عددا آخر من الدول العربية ليس فقط في إطار السعي إلى تغيير بنية التعليم والثقافة داخل هذه الدول، ولكن أيضا باستخدام كل أنواع الضغط، وفي مقدمتها الضغط العسكري على هذه الدول مدللا على ذلك بالتهديدات الأمريكية لسوريا. قال سعيد إن التهافت والتناقض الموجود في بنية النظام العربي القائم مكَّن اليمين الأمريكي المتطرف من جذب جانب من الرأي العام الأمريكي لتمرير مشروع الحرب.
أكد سعيد أن التشكيلة الحالية للواقع العربي ومؤسساته قد فقدت أي مغزى لوجودها، مشيرا إلى أن مغزى وجود الجامعة العربية هو الدفاع عن استقلال الدول الأعضاء بها. وأضاف أن النظام العربي لم يعجز فقط عن حماية استقلال أعضائه، وإنما أيضا يعجز عن طرح أفكار حقيقية لإصلاح الوضع الحالي. وأكد أن الإفلاس السياسي كان واضحا جدا في قضايا العراق، مشيرا إلى أن الدول الأوروبية قامت بعد الحرب العالمية الثانية باسترجاع الدول التي بدأت بالعدوان مثل ألمانيا ولم تستغن عنها في حين أن العراق -من بعد حرب الخليج الثانية- عومل معاملة غبية من قبل النظام العربي، وترك ملف قضيته بالكامل في واشنطن.
اعتبر سعيد أن الإفلاس السياسي العربي هو تعبير أيضا عن إفلاس التحالفات الحاكمة اجتماعيا وسياسيا في معظم البلاد العربية. وأكد محمد السيد سعيد الحاجة إلى وجود نظام عربي قوي داعيا في هذا الإطار إلى تحالف على المستوى اللا رسمي بين مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والسياسية والمثقفين العرب، للبحث عن جامعة عربية بديلة وطرح مشروع ديمقراطي بديل لإنقاذ العمل العربي من وضعه الحالي والقيام بالتعبئة للدفاع عن كل بلد عربي يتعرض للغزو والعدوان، وأكد على أن الحاجة للجامعة العربية ليست فقط حاجة ثقافية، لكنها أيضا حاجة دفاعية واقتصادية وسياسية، مشيرا إلى أن قائمة الاستهداف الأمريكية قد بدأت بالفعل باللغة العنيفة الموجهة لسوريا والتوقعات بتوجيه ضربة لحزب العمل ولبنان وليّ ذراع السعودية إلى جانب الموقف الخشن في ذهن اليمين الحاكم في أمريكا تجاه مصر.
وبدأ أسامة سرايا رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي حديثه بالتأكيد على أن الأزمات الماضية والحالية في الوضع العربي لا يتصور معها خلق نظام عربي جديد، وقال إنه لا توجد بنية أساسية لنظام اقتصادي أو سياسي عربي، معتبرا أن بعض القضايا الكبرى مثل القضية الفلسطينية وحرب 1967 قد تم علاجها من خلال نظام جزئي داخل النظام العربي وليس من خلال النظام العربي ككل. وأشار إلى أن التماسك العربي نفسه أصبح مهلهلا وأن هناك تنافسات سياسية واقتصادية بين البلدان العربية ساعدت على تفكك النظام العربي وجعلته أضحوكة في حرب الخليج الثانية والحالية. انتقد سرايا ما وصفه بتحميل الآخرين –خاصة أمريكا وإسرائيل- مسئولية انهيار الوضع العربي لكنه لم ينف وجود مسئولياتهما في نفس الوقت. كما انتقد سعي البعض لنظام عربي جديد لمجابهة أمريكا وأوروبا وإسرائيل وقال إن مثل هذا النظام يكون قاصرا جدا ووضع عدة شروط لأي نظام عربي جديد ذكر منها أولا ألا يكون نظاما للحكومات فقط، وإنما يشمل الشعوب والمجتمع المدني العربي، وثانيا أن يضع هذا النظام في اعتباره أنه موجود في إطار عالمي وليس في فراغ، فلابد له أن يراعي الأوضاع الإقليمية والدولية ويراعي –والكلام لسرايا- أن منطقة الشرق الأوسط أصبح فيها شركاء وتجمعات مختلفة مثل تركيا وإسرائيل. أما أخيرا فهو أن يراعى التناقضات الموجودة بين أعضائه وألا يقوم على الشعارات والأحكام العامة، حتى لا يفقد مصداقيته.
اعتبر سرايا أن بداية أي نظام عربي جديد لابد أن تكون من تطوير مصر لاقتصادها، وأن يكون بها نظام سياسي يصلح أن يكون نموذجا لبقية الدول العربية، وقال إن في مصر بعض الانفتاح، لكنه لم يصل بعد للدرجة المطلوبة. وأشار إلى أن استمرار الوضع العربي الحالي حرم كثيرا من النخب من أن تمارس عملها في المجتمعات العربية وأدى إلى الجمود فيها، بما غذى الصراعات في العالم العربي.. وحذر من أن تؤدي الأزمة الراهنة –أزمة الحرب على العراق- إلى انهيار التماسك السياسي لمؤسسة الجامعة العربية، وقال إنه يجب الحفاظ على هذا البناء رغم هشاشته وضعفه لأن انهياره تحت مطرقة العدوان على العراق سوف يعني عدم القدرة على بناء نظام جديد. قال سرايا إن أزمة الحرب على العراق هى أكبر زلزال سيهز الكيان العربي وهو زلزال خطير جدا وتداعياته غير معروفة وغير محددة بشكل كبير، مشيرا إلى تصوره بأنها ستغير الواقع العربي تغييرا كبيرا للغاية وسيكون التغيير حاكما للحكومات العربية من الداخل محذرا من أن الحكومات التي لم تستجب له سوف تسقط، ليس فقط بتأثيرات الخارج، ولكن نتيجة للداخل وللرأي العام العربي الذي برز بشكل واضح في الفترة الأخيرة، رغم عدم وجود قوة منظمة له.
وذهب الدكتور جمال عبد الجواد رئيس وحدة العلاقات الدولية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام إلى أن توقعات البعض بموقف قوي للجامعة العربية والنظام العربي في أزمة الحرب على العراق ومفاجأتهم بمستوى أداء الجامعة والنظام العربي فيها هو أمر يدعو للصدمة وينم عما وصفه بالسذاجة. وأكد أن الجامعة العربية لا تقوم على بنية تحتية حقيقية، حيث لا توجد دول مستقرة، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، مشيراً إلى أن هناك دولا عربية تتعامل مع بعضها البعض على أنها تمثل تهديدا لها، كما هو الحال فيما بين المغرب والجزائر وبين سوريا والعراق وبين السعودية واليمن، وغير ذلك من الأمثلة وقد اتخذ هذا التعامل درجات متفاوتة وصلت إلى الاحتلال كما في حالة العراق والكويت. وأشار إلى أن الحديث عن نظام إقليمي لابد أن يسبقه اختفاء هذه التهديدات ووجود مصالح غير متفاوتة بين أعضاء هذا النظام. وقال إن توقع أداء أفضل لهذا النظام العربي هو توقع مبالغ فيه وغير واقعي، مشيرا إلى التناقض البينيوي الذي فرض على هذا النظام لفترة حين سادت الأجندة الخاصة بالقومية العربية في نظام يقوم على الدولة القطرية، وفي نفس الوقت تدعو هذه الأجندة لذوبان هذه الدولة في النظام العربي. وقال إن أطراف النظام أنفسهم لا يصدقون هذه الأيديولوجيا، حيث لا يمكن التوقع بأن دولة عربية ستسلم بأن تختفي وتذوب في كيان أكبر، مدللا على ذلك بفشل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا.
واعتبر عبد الجواد أن النظام الإقليمي العربي يقوم على تهميش لدول لصالح الدول المحيطة بإسرائيل باعتبارها القلب الساخن للأحداث في المنطقة العربية، مشيرا إلى أن هناك بعض الدول التي تكاد ألا تظهر في بيانات القمة العربية واجتماعات وزراء الخارجية العرب، بما يعني أن النظام العربي وأيدلوجيته لا يعكس مصالح هذه الدول وأنه غير معني بمصالحها حتى صارت مصالح دول مثل مصر وسوريا ولبنان وغيرها هى الأهم وذات الأولوية باعتبار أنها دول الجوار لإسرائيل. واعتبر أيضا أن مظهر التضامن العربي الرئيسي في مختلف الأزمات حتى الآن هو التضامن الدبلوماسي واللفظي مع أية دولة عربية تكون في مواجهة أو أزمة مع طرف غير عربي، واصفا النظام العربي بأنه تحول في جوهره إلى نظام لتبادل الدعم الدبلوماسي.
توقع عبد الجواد أن تؤدي الحرب على العراق إلى تعميق أزمة النظام العربي، مرجحا دخوله في مرحلة من الانقسام الشديد والشك وعدم الثقة بين دوله، مشيرا إلى أن هذه الانقسامات ستكتسب طبيعة أيديولوجية وستؤدي إلى درجة أقل من التعاون والعمل العربي المشترك. واعتبر وجود الجامعة العربية يمثل ضرورة ثقافية في المقام الأول، وليست ضرورة مصلحية، وقال إنه لا يوجد دليل حتى الآن على أن أمن الدول العربية في وجود الجامعة العربية هو أفضل منه في غيابه معتبرا أنه لا توجد مصلحة محددة واضحة تبرر وجود الجامعة. وذهب إلى ضرورة وجود تحالف بين الدول الراغبة في الإصلاح بداخلها أولا بطريقة صحيحة والدول التي لها قدرة على العمل معا، معتبرا أن هذا التحالف يمكن أن يخلق قوة جذب لبقية الدول الأعضاء في النظام العربي تدفعها للعمل المشترك في اتجاهات محددة. وقال إن الدول القادرة على إعادة حكم القانون في مجتمعاتها ستكون قادرة على التقارب معا، مؤكدا أن تحقيق مصلحة مشتركة لا يقتضي وجود قومية واحدة. وقال إننا إذا لم نستغرق في الخصوصية العربية فإن يمكننا أن نفهم ظروفنا بشكل أفضل.
Share this Post