أكد محللون وخبراء سودانيون ومصريون أن هناك عوامل عدة تدفع في اتجاه التعجيل بتوقيع اتفاق سلام نهائي في السودان وأن في مقدمة هذه العوامل رغبة الإدارة الأمريكية الحالية في توقيع هذا الاتفاق والذي حددت له شهر أغسطس المقبل إلى جانب الإرهاق الذي حل بالشعب السوداني جراء الحرب المستمرة منذ سنوات طويلة بين شماله وجنوبه.
جاء ذلك في ندوة نظمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في إطار صالون ابن رشد تحت عنوان : “السودان: من مباحثات السلام إلى أحداث دارفور” أشار فيها مجدي النعيم المدير التنفيذي للمركز إلى أن توقيع إطار اتفاق ماشاكوس قبل عام قد لقى ترحيبا حذرا من مختلف الأطراف وذلك لأسباب عدة منها أنه لم يتناول مستقبل الديمقراطية في السودان ولم يعالج كل قضاياه إلى جانب أنه أعطى السيطرة الكاملة لحزب الحكومة على مجريات الأمور ولم يطرح للمناقشة مع كل أطراف الصراع في السودان.
وأوضح أن الأوضاع في السودان قد شهدت من بعد توقيع اتفاق مشاكوس تغيرات هيكلية كان لها أثرها المباشر على سير الأحداث في السودان، حيث شهد سبتمبر الماضي انقطاع مفاوضات السلام وتجميد الحكومة السودانية مشاركتها فيها بسبب العمليات العسكرية من جانب الحركة الشعبية ومطالبتها بفصل الدين عن الدولة في أكتوبر، ثم توقيع مذكرة التفاهم بين الحكومة والحركة من أجل وقف العمليات العسكرية واستئناف المفاوضات وبموجبها توقفت العمليات العسكرية، حتى مارس 2003. وأضاف النعيم أنه في يناير من العام الحالي استئناف المفاوضات في نيروبي، وفي أبريل من نفس العام اتفقت الحكومة والحركة على السماح لعمليات الإغاثة في مناطق العمليات وفي مايو الماضي تم استئناف المفاوضات وتوقيع اتفاق شراكة في المرحلة الانتقالية.
استطرد النعيم، مشيرا إلى أنه في الفترة من أغسطس 2002 حتى مايو 2003 صدر إعلان القاهرة وترتبت عليه ردود أفعال سلبية من جانب الحكومة السودانية التي انتقدته بشدة وعادت إلى ما وصفه بممارسات سنوات الظلام فتفشت حالة من التعذيب للمعارضين وطالت ممارسات شبيهة الطلاب وتم تعطيل صحف وحدثت حالة تغيير واسعة النطاق لقادة مؤسسات المجتمع المدني.
تساءل النعيم حول موقف السودانيين من السنوات الانتقالية الست، وهل يتحقق السلام خلال تلك المرحلة الانتقالية وهل تنجح الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في توحيد أهدافها من أجل سودان جديد؟!
جدل واسع
وتحدث الدكتور إبراهيم النور أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، فقال إن اتفاقية ماشاكوس تركت مشاكل وجدلا واسع النطاق لا يمكن حسمه أو التراجع عنه، خاصة بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق ووقوفها –أمريكا- على رؤوس الجميع.
أشار النور إلى أن لهجة الخطاب السياسي للرئيس البشير لجأت إلى مفردات الخطاب السياسي القديمة، بينما شن هجوما كاسحا على الموقعين على إعلان القاهرة وعلق عليه بأن الخرطوم لن تعود علمانية وهى اللغة التي استخدمها من أجل تعبئة الرأي العام السوداني والعربي ضد الإعلان مما كان سببا في نشوب صراع بعد صدور الإعلان حال دون إقرار عملية السلام في وقت كادت تقترب فيه من النهاية.
أوضح الدكتور النور أنه بفعل ممارسات الحزب الحاكم لم يعد الأساس الهيكلي للسودان القديم موجودا، وذلك بعد أن تغير هيكل التركيبة السكانية فأرجع السبب في ذلك إلى الفشل التنموي الذي دمر أسس الحياة في الريف السوداني، مما أدى إلى تحول أكثر من 36% من سكان الريف إلى سكان مدن، وهو الأمر الذي أدى بالتبعية إلى تحويل الخرطوم من كونها مدينة تضم 2 مليون مواطن بنسبة 15% من جملة السكان إلى مدينة تضم 7 ملايين نسمة، حيث يمثل المواطنون النازحون من الجنوب والمناطق المهمشة في السودان 60% من سكانها.
أوضح النور أن هذه التطورات صاحبها تغير في التركيبة الخاصة بالنخبة المتعلمة والمهنية بسبب النزوح والهجرة الطوعية أحيانا والقسرية في أغلب الأحيان لمعظم السكان بمن فيهم ناشطو الحركات الاجتماعية، كما تغيرت النخبة الاقتصادية ونشأت شرائح جديدة منها في ظل المد الإسلامي في قطاع البنوك والذي ترتب عليه نشأة اقتصاد جديد في الريف والمدينة وتغيرت القواعد الاجتماعية لكل أطراف المعادلة السودانية في الشمال وفي الجنوب.
وفي كلمته المكتوبة والتي قرأها مجدي النعيم، قال الدكتور حيدر إبراهيم مدير مركز الدراسات السودانية يمر بظروف بالغة الخطورة يصعب معها التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه مستقبله خاصة في ظل الضغوط التي تمارسها قوي خارجية على طرف الصراع والتي ظهرت بشكل واضح بعد أحداث سبتمبر وما أسمته الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب ضد الإرهاب، حيث وصفت السودان ضمن ما أسمته بمحور الشر،وبسبب تلك الضغوط لم تستطع، سواء الحكومة أو الحركة استرداد المواقع المتفق عليها رغم التحالفات الشمالية واستمرار الأزمة الاقتصادية في البلاد، وهو الأمر الذي يعني –حسب إبراهيم- أن السودان أمام خيارات مفتوحة، وذلك باستخدام سياسة العصا والجزرة الأمريكية والتي على أساسها يتوقف شكل السودان المرتقب.
وتوقع إبراهيم النور أن يشهد السودان عودة التحالفات من جديد حيث يكون هناك جنوب برؤية واحدة في مقابل شمال تحكمه أجنحة وتيارات متعددة، حيث هناك: جناح ماشاكوس الموالي للغرب والولايات المتحدة الأمريكية وجناح المعارضة الشمالية وهو الأمر الذي لا يمكن معه أن يستقيم وضع السودان.
دعا إبراهيم الحزب الحاكم إلى إجراء انتخابات مبكرة خاصة بعد حالة التردي الواضحة على كافة الأوضاع الاقتصادية والتعليمية والإعلامية والتي تسللت إلى منظمات المجتمع المدني ذاته مؤكدا على أهمية دور المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني في إقرار عملية السلام.
قبول الآخر
من ناحيته فقد أعرب د. عبد الغفار محمد أحمد أستاذ الأنثروبولوجي ومدير برنامج الشرق الأوسط لبحوث السكان والعلوم الاجتماعية عن تفاؤله الحذر إزاء الوضع في السودان، مرجعا ذلك إلى ما تحمله عناوين بعض الصحف السودانية، مما يثير القلق بشأن المستقبل، وبخاصة بشأن قدرة الأحزاب السياسية القائمة على المساهمة في إقرار عملية السلام.
وأشار إلى أنه لا يمكن أن تسود ثقافة واحدة في السودان، بما يستوجب أن تتاح الفرصة للثقافات المحلية أن تنمو بما يمثل ضمانا وحيدا لأي عملية سلام في السودان، حيث يحتوي ذلك على فكرة قبول الآخر الذي يختلف في الدين والعرق والثقافة.
ومن ناحية ثانية توقع عبد الغفار توقيع اتفاقية للسلام قريبا، وقال إن هذه الاتفاقية جاهزة وقد ظهرت ملامحها في الورقة الاستراتيجية الصادرة عن واشنطن، مؤكدا أن مختلف الأطراف السودانية ستوقع على هذه الاتفاقية قسرا. وقال إن ما يجعل هذه الاتفاقية جاهزة هو أنها مفروضة من النظام العالمي القائم على القطب الواحد وهى الولايات المتحدة والتي لها مصالح وأهداف تسعى لتحقيقها، مشيرا إلى وجود ثلاثة أنواع من اللوبي في أمريكا تهتم بالشأن السوداني وهى اللوبي الأسود واللوبي المسيحي واللوبي الاقتصادي، خاصة في الجانب البترولي منه والذي أصبح مسيطرا بعد اتجاه الولايات المتحدة للبحث عن البترول في أفريقيا للحد من نفوذ بترول منطقة الخليج العربي.
أضاف عبد الغفار أن هذه الأمور تفرض أن يتم التوقيع على اتفاق السلام قبل نهاية العام الحالي وقال إن السلام والعمل له يبدأ بعد توقيع الاتفاقية حيث يجب طرح القضايا المختلفة وتحديد كيفية معالجتها ومن ذلك قضايا البناء والاستقرار والنازحين والتنمية وبناء الخدمات المدنية التي تعرضت لارتباك شديد، خاصة في الصحة والتعليم إلى جانب أجهزة الأمن والقوات المسلحة، مؤكدا على الحاجة إلى خلق التعليم الوسطي. وقال إن هناك إشكاليات أخرى لمرحلة ما بعد التوقيع هى بمثابة الديناميت الذي يمكن أن يفجر الأوضاع في أية لحظة ومنها إشكالية الأقاليم الأخرى مثل إقليم دارفور الذي كان دولة قائمة بذاتها ثم انضمت للسودان. ودعا إلى الاستفادة من تجربة الدولة المجاورة للسودان في استيعاب الاختلافات العرقية والثقافية. كما هو الحال في أثيوبيا.
وبدأ حلمي شعراوي مدير مركز البحوث والدراسات العربية والأفريقية حديثه، مشيرا بسخرية إلى تفاؤله بإرادة الرئيس الأمريكي بوش الذي قرر حل المشكلة في السودان وأنه بالقطع سيحلها لأنه رجل يستطيع أن يفعل ما يقول ويقول ما يفعل، وأكد شعراوي أن 14 أغسطس سيشهد توقيع اتفاق السلام النهائي، حسب تحديد بوش لهذا الموعد الذي حدد من قبل موعد توقيع بروتوكول ماشاكوس وتم له ذلك بالفعل وفي نفس الموعد.
أضاف شعراوي أن قضية السودان دخلت في إطار النظام العالمي، وهو ما يستوجب على كل المهتمين بمستقبله أن يتبنوا سياسات جدية تنطلق من رؤية صحيحة للأوضاع العالمية الراهنة. واعتبر جوهر الأزمة المزمنة في السودان يتمثل في مواقف حادة تتبنى عمليات الإقصاء والاستبعاد لقوى ضد أخرى وإقليم ضد آخر ومذهب ضد مذهب وعقيدة ضد عقيدة، بما يخالف جوهر قضية حقوق الإنسان التي تقوم على رفض الإقصاء والاستبعاد والعزل. وأشار إلى أن عوامل وظروفا تاريخية أفرزت نوعا من البرجوازية في الخرطوم انتفعت بالإسلام والعروبة فأكملت هيمنتها الأيديولوجية على كل السكان، مشيرا إلى أن هذه الهيمنة أخذت شكلها المتطرف على يد الإنقاذ مما أدى إلى انفجار أمور كثيرة لم يكن لها لتنفجر لو لم يكن هناك موضوع العزل والإقصاء.
أكد شعراوي وجود ما لا يقل عن عشر نقاط خلاف رئيسية بين طرفي اتفاق ماشاكوس ومنها اقتسام السلطة والثروة والجيش والدولة وحدود الإقليم الجنوبي وفترة الانتقال والمبادرات المختلطة منتقدا رفض الحكومة أن يكون جارنج نائبا للرئيس وقال إن جارنج رجل مثقف ومتميز ويفهم الأمور بشكل جيد وقال إن الحلول السياسية القائمة على التمايزات بين القوى الاجتماعية يجب أن تؤخذ بحذر للمستقبل.
انفصال مستحيل
وأكد شعراوي استحالة حدوث انفصال للجنوب عن الشمال في السودان، مشيرا إلى أن النظام الدولي لن يقبل بدولة حبيسة (ليس لها منفذ بحري) في وسط دول حبيسة هى الأخرى، وأعرب عن اعتقاده بأن الجنوبيين يسعون بجدية لفكرة السودان الجديد الذي يمتد من أقصى الجنوب حتى حدود حلايب وأن هذا هو السودان الذي دافع عنه جارنج وقام بتصفية الانفصاليين مرتين لديه من أجله.
وانتقد شعراوي موقف الجامعة العربية من أزمة السودان، مشيرا إلى أنها وعلى امتداد تاريخها تركت القضايا الإشكالية العربية دون علاج، مدللا على ذلك بقضايا الأكراد والبربر والصحراء الغربية وجنوب السودان حيث اكتفت الجامعة في عملها بشعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، بما انعكس على طبيعة عملها، مشيرا إلى أن الجامعة تبدو الآن وبعد تولي عمرو موسى أمانتها العامة متتبعة لهذه القضايا وتسعى لأن يكون لها فيها دور بشكل أو بآخر.
وأكد على أهمية أن تعمل الجامعة العربية على تحريك وإغراء رأس المال العربي تجاه السودان، حيث توجد إمكانية لتنمية متكاملة حقيقية ومشتركة، لتنمية دول حوض النيل مجتمعة.
وعند فتح باب التعليقات للحضور، أكد سمير حسني مدير إدارة أفريقيا بالجامعة العربية اختلافه مع حلمي شعراوي في انتقاده للجامعة العربية، مشيرا إلى أن تدهور مشكلة السودان تواكب مع قدوم عمرو موسى أمينا عاما للجامعة العربية، الأمر الذي سمح بأن تلعب الجامعة دورا محددا وكانت هناك نقاط تفاعل مع الأزمة وهو ما لم يكن متاحا من قبل في عهد أمناء سابقين.
وأضاف أن أزمة السودان أصبحت على أولويات أجندة الجامعة، وهو ما ظهر في التصريحات واللقاءات والوفود التي ذهبت للسودان. أوضح حسني أن الجامعة لديها تعهدات والتزامات مع الصناديق التحويلية العربية لإقامة مشروعات تنموية حصرا في الجنوب السوداني.
وأكد جور كوج ممثل الحركة الشعبية لتحرير الجنوب في مصر والشرق الأوسط أن الجنوبيين جادون في السلام ويأملون في الوحدة بشرط أن تحترم حقوقهم في مختلف أجزاء السودان.
وأكد أمين حسن عبد الله الأمين العام المكلف بإدارة مكتب التحالف الفيدرالي الديمقراطي السوداني في مصر قد وجه –عبر مداخلة مكتوبة- الشكر لمركز القاهرة على اهتمامه بإقليم دارفور، ومساهماته في مناقشة المشاكل السودانية المزمنة، مشيرا إلى أن الحرب الدائرة في إقليم دارفور جزء من المشكلة السودانية التي تتحمل مسئوليتها النخب التي حكمت البلاد بشكل منفرد وأهملت مطالبة غالبية المواطنين بل واجهتها بالعنف المسلح والقهر السياسي الذي دفع أبناء الأقاليم المهمشة لحمل السلاح بدورهم بحثا عن توزيع عادل للسلطة والثروة بين المركز والأقاليم المهمشة. وأكد على أن إشكالية إقليم دارفور والسودان برمته يرتهن حلها بإمكانية التعايش على الواقع بين أبناء الوطن الذين فرقت بينهم انتماءات عرقية وثقافية ودينية وطائفية وجهوية، ويتطلب تخلي النخب الشمالية بحسب تعبيره عن أنانيتها المزمنة للوصول إلى آلية للحوار الجامع الهادف بعيدا عن الأهواء والأطماع وبما يؤمن قبول الآخر من الآخر.
Share this Post