هل العرب أدنى من بقية شعوب العالم؟ كان هذا التساؤل محور ندوة دعا إليها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في إطار صالون ابن رشد بمناسبة مرور 55 عاما على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو التساؤل الذي أوضح مجدي النعيم المدير التنفيذي للمركز في بداية الندوة أنه يتجاوز وصف حال العالم العربي الآن، حيث يدرك الجميع مدى تدهور مؤشرات التنمية والديمقراطية في هذا الجزء من العالم ومدى تخلفه عن بقية شعوب العالم في أكثر من ناحية.
قال النعيم إن الهدف من التساؤل هو الوصول لأسباب هذه الحالة التي عليها العالم العربي لافتا إلى أن الدول العربية تمثل 35% من الدول الأكثر استبدادا بينما نسبة هذه الدول هى 10% من إجمالي عدد بلدان العالم. أضاف أن الملاحظ في العديد من المؤشرات الخاصة بالفساد أو التنمية البشرية والإنسانية إن الدول العربية التي تحتل مراتب متأخرة بين دول العالم فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان والتنمية وفيما ينفق على البحث العلمي، تحتل في ذات الوقت مكانة متقدمة فيما يتعلق بشيوع الفساد. وأثار كذلك تساؤلات حول السبل المناسبة لأن يصبح فكر الديمقراطية وحقوق الإنسان ملكا للناس وليست مجرد جدول أعمال نخبوي مفروض من الخارج.
واستهل نبيل عبد الفتاح الخبير بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام ورئس تحرير تقرير الحالة الدينية سؤال متكرر ربما منذ ما قبل هزيمة يونيو 1967 وأنه سؤال قادم من بيئة للغضب والإحباط والتوتر. وكمدخل لمحاولة الإجابة عنه، طرح سؤالا آخر هو “لماذا تبدو الأنظمة الديكتاتورية والشعوب العربية بطيئة في إعمالها لمنظومات حقوق الإنسان عن غيرها من نظم وشعوب تنتمي إلى ثقافات أخرى، ولماذا ترفع بين الحين والآخر شعارات مضادة تبرر بها بطء تنفيذ قواعد حقوق الإنسان؟! وأوضح عبد الفتاح أن الشعوب والمجتمعات العربية ليست حالة فريدة في مجال بطء قبول وتمثل وهضم منظومات حقوق الإنسان، حيث هناك نظم ومجتمعات عديدة في أفريقيا وآسيا تتذرع دوما بالخصوصية الثقافية لتبرير عدم التزامها بالاتفاقيات الدولية التي وقعت وصادقت عليها، تأسيسا على أن الإعمال الكامل والمتكامل لمنظومة حقوق الإنسان يؤدي إلى نوع من التفكيك داخل هذه المجتمعات. أضاف عبد الفتاح أن الملاحظة الثانية تتمثل في أن البعض ينظر إلى منظومة حقوق الإنسان وإلى النظم الليبرالية والديمقراطية الغربية بمعزل عن السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي التي أنتجت هذه النظم السياسية والقانونية الغربية، مشيرا إلى أن البعض يتناسى دائما مسألة أن الديمقراطية الغربية وفي إطارها حقوق الإنسان وهى مسألة تعني تطور العلاقات بين الدول والمجتمع والمواطن في التجربة الغربية وعلى نشوء الفرد كفاعل اجتماعي وتبلور الهوامش المستقلة بين المجال العام والمجال الخاص والحقوق والحريات العامة، مشيرا لأن هذا التطور أخذ وقتا طويلا وصراعات حادة. أضاف أننا نتناسى أيضا أن حقوق الإنسان هى علمانية ونتاج لليبرالية الغربية والمذهب الطبيعي أكثر من كونها دينيةـ رغم أن القيم التي تنطوي عليها قد تجد ظلالها في الأديان والسماوية.
أشار نبيل عبد الفتاح إلى أن المجتمعات العربية والإسلامية تواجه فيها العلمانية دروبا من الجهل الديني والتشكيك الأخلاقي في الاصطلاح ومحمولاته مرجعا ذلك إلى اعتبارات سياسية محضة من بعض الجماعات الإسلامية السياسية وبعض النتوءات في الحركة القومية التي تتخذ ضد العلمانية الغربية. أكد عبد الفتاح أنه لا توجد لدينا حتى هذه اللحظات دراسات وافية وبالتحديد دراسات ميدانية حول أسباب تعثر تطبيق مبادئ حقوق الإنسان. وأشار إلى أنه رغم غياب هذه الدراسات فإن هذا لا يمنع وجود شواهد عامة يلتقطها الباحثون والمراقبون في خطابهم في تفسير الحالة المذرية لحقوق الإنسان والإعاقات البنائية إزاء تقبل وهضم موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان، مشيرا لأن التركيز دائما يكون على محور الدولة بوصفها المحتكرة للعنف المشروع وعلى الممارسات الطغيانية للحكام معتبرا أن ذلك ليس كافيا لفهم التدهور في أوضاع حقوق الإنسان في المجتمعات العربية.
وأشار عبد الفتاح إلى أنه لا ينبغي إغفال مسألة الإطار الثقافي والذي تتأثر به النخب الحاكمة وأيضا أجهزة الدولة وآليات عملها موضحا أن الإطار الثقافي يحتوي على تاريخ من التركيب والمكونات لأنظمة ثقافية عديدة ومتباينة تم إنتاجها على مراحل زمنية عديدة وتؤثر تأثيرا كبيرا على عملية تأسيس الدولة وعلى النظام السياسي وعمله. وذكر عبد الفتاح أن أنظمة الرقابة السائدة في العالم العربي والضغوط والانتهاكات التي توجه لحقوق الإنسان ليست قاصرة فقط على الممارسات المتعلقة بالدول والنظام السياسي، ولكن هناك أيضا انتهاكات تقع من بعض القوى والجماعات السياسية. مشيرا إلى أن هذه الانتهاكات تشكل في كثير من الأحيان جزءا من ثقافة جماعية، ولافتا إلى التداخل الذي يحدث بين الرقابات والانتهاكات المختلفة التي تأتي من أعلى أو من اسفل.
أضاف عبد الفتاح أن مقولة تعثر ميلاد الفرد كفاعل اجتماعي في غالبية المجتمعات العربية لا سيما في إطار المجتمعات الانقسامية لا تزال تمتلك بعضا من الوجاهة التفسيرية لضعف ثقافة حقوق الإنسان وأيضا ضعف هضم القيم الليبرالية، مشيرا إلى أن ميلاد ووجود الفرد النفسي والاجتماعي هو مدخل لتأسيس الفردية في نسيج الثقافة والقيم السياسية والأخلاقيات في أي جماعة أو مجتمع.
مطالب نخبوية
وعبر عبد الفتاح عن اعتقاده عن أنه حتى هذه اللحظة لا تزال المطالب الديمقراطية وحقوق الإنسان مطالب نخبوية ولم يتحول هذا المطلب النبيل إلى مطلب اجتماعي يجد قوة اجتماعية تساعده وتدعمه، وبالتالي –والكلام لعبد الفتاح- فإن القول إن الديمقراطية ستأتي على أسنة الدبابات والبوارج الأمريكية والغربية في المنطقة تبدو من قبيل التبسيط الشديد بصرف النظر عن الاعتبارات المتعلقة بالوطنية أو القومية في المنطقة العربية، لكن في نفس الوقت –والاستدراك مازال لعبد الفتاح- فإن النظر إلى الديمقراطية باعتبارها مجرد مطلب داخلي تحتاج إلى قدر من المراجعة نتيجة التداخل الشديد في العلاقات بين المجتمعات وبين الدول من خلال القنوات الفضائية والإنترنت ووجود مجال عام إنترنتي حاليا ولم يعد مجالا عاما محاصرا داخل المجتمعات العربية بالقيود الأمنية والبيروقراطية والتسلطية وإما هناك مجال عام. وبالتالي فإن تأثيرات الخارج تطرح إمكانيات واسعة النطاق للأثر والتفاعل بين المتغيرات الداخلية والمتغيرات الإقليمية والعالمية. ويندرج في هذا الإطار أن الديمقراطية وحقوق الإنسان أصبحت شرطا من شروط تقديم المنح والقروض والمساعدات الخارجية بما يساهم في الحد من غلواء النظم التسلطية القائمة.
عبر عبد الفتاح عن اعتقاده بسهولة رفض أية إصلاحات تأتي من الخارج لأسباب سياسية وأخلاقية.. الخ، لكن في ذات الوقت فإن النظم السياسية الحاكمة في العالم العربي بخطابها الشمولي والتسلطي عليها أن تستجيب للمتغيرات الداخلية وللأصوات الداخلية الداعية للديمقراطية. أشار عبد الفتاح في النهاية إلى أنه بدون تحول المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان من مطالب نخبوية إلى مطالب اجتماعية تؤيدها قوى اجتماعية، فإن ذلك سيظل يشكل عائقا أساسيا لدى الحركة السياسية الداعية للديمقراطية وإعمال منظومة حقوق الإنسان في العالم العربي.
ثم تحدثت الباحثة اللبنانية دلال البزري التي اعتبرت أن هناك أسبابا أساسية عدة تجعل العالم العربي معاديا بالفعل لمقولات حقوق الإنسان إضافة لما ذكره نبيل عبد الفتاح وذكرت من هذه الأسباب تبني الدعوة إلى حقوق الإنسان من قبل الولايات المتحدة التي تنتهك تلك الحقوق، وكذلك أن العرب تعودوا منذ استقلالهم على نهج تفكير واحد يقوم على الرفض التام لما يأتي به الغرب وأمريكا. وأضافت كذلك أن العرب طوال الوقت أسرى لفكرة المؤامرة الخارجية مشيرة إلى أنه في وقت الحرب الأهلية في لبنان وكانت كل المليشيات تتقاتل، لكن الجرائم كانت جرائم تنسب جميعها إلى العدو الإسرائيلي في الوقت الذي كانت هذه الجرائم تتم بأيدي أبناء الطرف المحلي الذي يخوض الحرب.
وانتقدت البزري ما وصفته بالطغيان في التركيبة الذهنية للأصولية الإسلامية لدى الشعوب العربية، وفهم الإسلام وكأنه هو السلاح، مؤكدة أنه من الصعب الحديث عن حقوق الإنسان بهذه الطريقة وسط ما وصفته بزخم الهيمنة الإسلامية. كما طالبت منظمات حقوق الإنسان بألا يقتصر عملها ونشاطها على “النداءات” و”المناشدات”، مشددة على أهمية البحث في المداخل المناسبة لجعل المفاهيم العالمية لحقوق الإنسان أكثر اتصالا بالبيئة العربية
وتحدث الكاتب والباحث والناشط العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان فأشار إلى أن هناك إشكالية تتعلق بالحركة العربية لحقوق الإنسان متضمنة عناصر أساسية أولها رؤية أن فكرة حقوق الإنسان هى فكرة غربية في الأساس وأن هذه الحركة جزء من الحركة الدولية لمحاصرة بلدانها والتأثير على سياساتها وبالتالي هوياتها، أما العنصر الثاني فيتمثل في أن الحكومات ذاتها تطلب من المنظمات أن تساندها في الدفاع عن السيادة والاستقلال الوطني دون البحث في إصلاحات سياسية وإصلاح نظم التعليم وغيرها، مشيرا إلى أن الحركة العربية لحقوق الإنسان تقع في حيرة أمام ذلك وتتعرض لتوجيه السهام إليها والطعن في وطنيتها. أكد شعبان أن هناك تحديات مهمة واجهت وتواجه المجتمعات والمنطقة العربية بشكل عام، مشيرا إلى أن هذه التحديات تنعكس على حركة حقوق الإنسان والمجتمع المدني في البلدان العربية بشكل خاص ومن هذه التحديات موضوعات الحداثة والعولمة وما بعد الحداثة، مشيرا إلى أن الذين يواجهون العولمة يقصدون مواجهة آثارها السلبية وأن دعوتهم هذه لا تعني أنهم يستطيعون أن يضعوا أنفسهم خارج نطاق العولمة، ولكن عليهم أن يساهموا في الاستفادة من إيجابيات العولمة في عولمة فكرة حقوق الإنسان وعولمة التضامن.
وأشار عبد الحسين شعبان إلى عدد من العقبات الرئيسية التي واجهت حقوق الإنسان في المنطقة العربية تمثل بعضها في أشكال الحصار الدولي الجائر التي تعرضت لها بعض الشعوب العربية مثلما حدث مع العراق وليبيا والسودان وكنتيجة للاحتلال مثل الاستعمار الاستيطاني لفلسطين واحتلال العراق مؤخرا والقواعد العسكرية التي تمثل امتداد للوجود الأجنبي في المنطقة العربية. وأضاف إلى ذلك الحروب التي خاضتها البلاد العربية سواء في مواجهة إسرائيل أو عبر النزاعات الأخرى كالحرب العراقية الإيرانية والغزو العراقي للكويت وما نجم عنه من حرب الخليج والحصار على العراق حتى احتلاله وتفكيك مؤسساته المختلفة.
أشار شعبان إلى أن الحكومات العربية ادعت أنها ضحت بقضية التنمية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان من أجل التصدي للعدوان الإسرائيلي ولكن بعد مضي 55 عاما يتضح أنه لم تستطع هذه الدول إقامة التنمية والتقدم في أي مجال كما لم تستطع أن تعيد الأرض التي احتلتها إسرائيل بعد أن فقدت المبادرة تلو الأخرى موضحا أن انخراط العالم العربي في الحروب مع إسرائيل وعدم وجود تسوية سلمية للصراع تعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني دفع بالبلدان العربية نحو التسلح وتبديد المليارات لزيادة التسلح الذي تم استخدامه ليس ضد العدوان الخارجي، ولكن في كثير من الأحيان ضد شعوبها وضد من اعتبرته الحكومات عدوا داخليا. وأضاف أن واحدا من الإشكاليات التي تواجه المجتمعات العربية على المستوى الداخلي يتمثل في طبيعة الخطاب الديني السائد وأي دين نريد، وأين موقعنا من التعاليم الدينية، وهل ما نسمعه يوميا على المنابر وفي وسائل الإعلام له علاقة بالتعاليم الدينية، أم أنه اجترار لخطاب ديني تجريمي تحريمي استقصائي الغائي للآخر، داعيا إلى ضرورة المضي باتجاه إصلاح الخطاب الديني نحو مزيد من الانفتاح والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وبالتالي نعيد بناء أسس جديدة لوعي المواطن بالثقافة الحقوقية. وأوضح شعبان أن هذه معركة طويلة يدخل فيها دور التربية والتعليم ومراجعة المناهج التي تغذي الإرهاب وتغذي أحيانا فكرة إلغاء الآخر.
دعا شعبان إلى أهمية الإقرار بما تعانيه المجتمعات العربية من مشكلات ثقافية وعدم تعليق كل شئ على الخصم أو على الخارج. كما دعا إلى الاعتراف بالتقصير ليس فقط من جانب الحكومات، ولكن أيضا على صعيد مؤسسات المجتمع المدني، مرجعا ضعف هذه المؤسسات إلى أن كثيرا منها لا يمكنها العمل بحرية بسبب القيود القانونية إلى جانب ضعف البنى القانونية والدستورية في هذه البلدان بما أسهم في ضعف مؤسسات المجتمع المدني وهشاشة النخب أحيانا بمختلف مستوياتها، مشيرا إلى أنه من المؤسف أن الكثير من المثقفين كانوا يحرقون البخور للسلطان ويساهمون بهذا القدر أو ذاك في الدفاع عن الديكتاتوريات؛ مدللا على ذلك بما حدث في الحالة العراقية.
قال شعبان إن هناك تلازما بين ثلاثة أشياء: الوطنية والقومية والإنسانية وبين مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤكدا أنه لا يمكن لوطني أن يكون معاديا للديمقراطية حيث سيتحول في هذه الحالة إلى ديكتاتور وتكون وطنيته ناقصة ومجروحة وأنه لا يمكن لقومي ألا يؤمن بحقوق القوميات الأخرى، وقال إن الديمقراطية وحدها تقود للاستتباع ما لم تكن متلازمة مع البعد الوطني حيث لابد للديمقراطي أن يكون وطنيا.
وختم شعبان بالقول: تلقينا قنابل على الرؤوس تحت خطاب الديمقراطية وعلى مدى سنوات عشنا حصارا دوليا جائرا وجاءت الديمقراطية التي يرددونها –وليست التي نريدها- مصحوبة بآلام وعذابات لا حد لها، مشيرا إلى ما حدث للعراق من استباحة ومذلة وتحطيم بطريقة غادرة بعيدة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
Share this Post