ورقة موقف
استنادًا إلى إعلان وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر 2020، ومشاورات ملتقى الحوار السياسي الليبي بقيادة الأمم المتحدة؛ أسفرت عملية السلام الليبية عن تشكيل حكومة مؤقتة جديدة في 10 مارس 2021، وتكليفها بتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 24 ديسمبر 2021.
فبعد سنوات من النزاع والانقسام الوطني، وتدمير البنية التحتية المدنية، وتدهور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك الحق في الوصول للمياه والرعاية الصحية والكهرباء، تحظى هذه المحاولة الأخيرة لتحقيق السلام بإجماع وطني أقوى؛ مقارنةً باتفاق الصخيرات في 2015، فضلًا عن الدعم الواضح على المستوى الدولي. إلا أن الوضع ما زال هشًا، بما يحتم على ألمانيا والجهات الفاعلة الأوروبية الأخرى، معالجة الافتقار للمحاسبة وسيادة القانون في ليبيا باعتبارهما أولوية؛ وذلك لضمان تلبية الشروط الأساسية لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، ووقف النزاع والحيلولة دون التقسيم الفعلي للبلاد.
وفي إطار السعي لتحقيق تلك الأهداف، تغدو الاستراتيجية الأوروبية المشتركة والمتماسكة بشأن ليبيا أكثر فاعلية. ومن ثم؛ على الدول الأوروبية، ومن بينها ألمانيا، ضمان قدرة الاتحاد الأوروبي على التضافر خلف هذه الأهداف، لحين التوصل لتوافق. فالقيادة والمبادرة من الدول والمؤسسات المستعدة للعمل بالتوصيات المُفصّلة في نهاية هذا الموجز، سيكون لهما دور حاسم.
تُعد القيود المستمرة على الحريات العامة الأساسية والمجال العام هي المشكلة الرئيسية الأولى، هذا بالإضافة إلى تهديدات الجماعات المسلحة، وعرقلة مسئولي الإدارة والأمن الوطني لعمل المجتمع المدني وتقييد حرية تكوين الجمعيات وحرية التعبير والصحافة؛ من خلال تطبيق قرارات ومراسيم تنفيذية غير قانونية. يتضح ذلك في إصرار مفوضية المجتمع المدني العام الماضي على تطبيق قرار المجلس الرئاسي رقم 286 لسنة 2019، رغم عدم قانونيته وطبيعته القمعية. كما سلّطت منظمات المجتمع المدني الليبية الضوء على الحاجة للإصلاح الفوري لقطاع الإعلام، وتحسين إطاره القانوني، والامتناع عن محاكمة الصحفيين بسبب عملهم، لا سيما المحاكمات العسكرية الجائرة.
تُمثّل الحملات الانتخابية وقتًا حاسمًا لحرية التعبير والمناظرات؛ وللإعلام دورًا مهمًا خلالها. ويُشكّل الحق في حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات حجر الزاوية للديمقراطية التمثيلية والحق في المشاركة السياسية، وبدونها لا يمكن اعتبار الانتخابات حرة ونزيهة. كما أن لمنظمات المجتمع المدني دورًا إشرافيًا ورقابيًا مهمًا أثناء العمليات الانتخابية. لذا، يجب حماية المجتمع المدني الليبي المستقل، بما في ذلك المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين وأعضاء السلطة القضائية والصحفيين، باعتبارهم شركاء رئيسيين لألمانيا والاتحاد الأوروبي في جهود الرامية لضمان السلام والاستقرار.
يُشكّل نفوذ الجماعات المسلحة في جميع أنحاء البلاد واستمرار الإفلات من العقاب، عقبات رئيسية أمام تنظيم الانتخابات وإعادة توحيد المؤسسات الوطنية، بالإضافة إلى عرقلته للجهود الرامية لإعادة إرساء سيادة القانون. إذ تتواصل الإفادات بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في ظل إفلات شبه كامل من العقاب، بما في ذلك القتل خارج نطاق القانون والإخفاء القسري والعنف الجنسي، والاحتجاز والاعتقال التعسفيين. فعلى مدار العام الماضي، تم الكشف عن عشرات المقابر الجماعية حول ترهونة، ويتواصل العثور على الجثث. وفي 8 أبريل 2021، شهد مركز احتجاز في طرابلس إطلاق نار؛ مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة اثنين آخرين في واحدة من عدة هجمات عنيفة تعرض لها المهاجرون مؤخرًا في مراكز الاحتجاز المتكدسة، وقد أخفق نظام العدالة الوطني في التحقيق في هذه الانتهاكات الجسيمة ومحاسبة الجناة.
في 12 أبريل 2021، أصدر المسئولون الليبيون قرارًا يوضح مناخ الإفلات من العقاب السائد في البلاد، بعد إطلاق سراح عبد الرحمن ميلاد المعروف باسم «بيجا»، مهرب بشر مزعوم، والذي يخضع لعقوبات الأمم المتحدة. بيجا هو رئيس وحدة خفر السواحل الليبي في الزاوية، ووفقًا للإفادات الواردة، رقَّته حكومة الوفاق الوطني لرتبة رائد في مارس الماضي. وبالمثل، تعد واقعة مقتل محمود الورفلي، القائد في القوات المسلحة العربية الليبية والمطلوب للمحكمة الجنائية الدولية لمسئوليته عن جرائم حرب، في 24 مارس 2021 في بنغازي، حالة أخرى من قضايا العدالة التي تُركت لتتولاها المجموعات المسلحة. فبعد اغتيال الورفلي بأيام ألقي القبض على حنين وأيمن العبدلي، أبناء المحامية والناشطة حنان البرعصي –والتي اغتيلت في بنغازي في نوفمبر 2020 بعدما تحدثت علانية عن انتهاكات الميليشيات– وهما الآن مشتبه بهما في مقتله. وقبل القبض عليهما، تعرضت حنين العبدلي للإخفاء القسري بعد ساعات من تسميتها –خلال بث مباشر– ضمن أفراد على صلة بمقتل والدتها.
في 25 أبريل 2021، ألغى رئيس حكومة الوحدة الوطنية زيارة رسمية لبنغازي، بعدما أعاد لواء طارق بن زياد فريق أمني تابع للحكومة –واللواء المذكور هو جماعة سلفية مدخلية شبه عسكرية تابعة لصدام حفتر (ابن خليفة حفتر). وتُسلّط تلك الواقعة الضوء على الإمكانات التخريبية للمجموعات شبه العسكرية خلال العملية الانتخابية واستمرار الانقسام الوطني.
وفيما سهلت اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 اتخاذ إجراءات حاسمة لبناء الثقة، فالتقدم المحرز في إصلاح قطاع الأمن ما زال محدودًا للغاية حتى الآن، رغم أن اتفاق وقف إطلاق النار تضمن بندًا بشأن تحديد وتصنيف كل المجموعات المسلحة الوطنية؛ تمهيدًا لتفكيكها، وإعادة دمج الأفراد، بعد فحصهم، في مؤسسات الدولة. ويبدو أن اللجنة العسكرية المشتركة تفتقر للدعم السياسي الكافي لمعالجة تلك المسألة الحرجة. فحتى الآن، لم يعين رئيس الوزراء دبيبة وزيرًا للدفاع، ربما بسبب عدم تمكن أي شخص حتى الآن من الحصول على الدعم من المجموعات المسلحة كافة.
في هذا السياق، تأتي ضرورة إجراء عمليات محاسبة دولية قوية؛ لمنع استئناف النزاع وحث جميع الأطراف على احترام الاتفاق السياسي. ورغم ما مثلته بعثة تقصي الحقائق في ليبيا، المُشكّلة في يونيو 2020 للتحقيق في انتهاكات وتجاوزات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي منذ 2016، كخطوة أولى مهمة؛ إلا أن قيود الميزانية والمصاعب المتعلقة بالجائحة قد عرقلت عملها.
علاوةً على ذلك، ورغم تأكيد اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020 على انسحاب القوات الأجنبية؛ إلا أنها لا تزال متمركزة في البلاد، لا سيما في القواعد الجوية في الجفرة والخادم والوطية، بما في ذلك المتمردين التشاديين المتمركزين في الجفرة، المسئولين الآن عن مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي في 20 أبريل، وخاصة بعدما وظفتهم مجموعة فاجنر الروسية ودربتهم إلى جانب القوات المسلحة العربية الليبية، على استخدام أسلحة قدمتها الإمارات العربية المتحدة. الأمر الذي يعزز إمكانية تجدد النزاع و/أو تقسيم غير رسمي للبلاد، ويهدد معالجة القضايا البنيوية في البلاد بالتوقف. وفي هذا السياق، يوفر الإعلان الأخير بشأن استعداد المسئولين الأتراك سحب المرتزقة السوريين، فرصة للجهات الفاعلة الدولية للضغط من أجل سحب القوات الأجنبية على كلا الجانبين، وخاصة إذا تم سحب المرتزقة المقاتلين في صفوف القوات المسلحة العربية الليبية.
على مدى العامين الماضيين، أدى الافتقار إلى الاشتباك السياسي المتماسك من قِبَل الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء إلى توسع نفوذ الجهات الحكومية وغير الحكومية التي تهدد الحدود الجنوبية لأوروبا وسيادة القانون الدولي. وتُمثّل إعادة بناء استراتيجية أوروبية مشتركة ومتماسكة، لتعزيز السلام المستدام ودعم سيادة القانون في دول الجوار الجنوبي؛ أمرًا بالغ الأهمية لمصالح أوروبا الأساسية الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية، في المنطقة والعالم.
وبينما تجددت الآمال بفضل تقدم العملية السياسية في ليبيا؛ لا يزال الوضع الأمني غير مستقرًا، وهو ما يضاعف من الافتقار إلى العدالة والمحاسبة. وفي هذا الصدد، يجب منح الأولوية لحقوق الإنسان وسيادة القانون لضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة في ديسمبر، دون أن تتسبب في تجدد النزاع. كما أن استمرار التركيز على تلك القضايا البنيوية أمر حاسم لانتشال ليبيا من الأزمة بشكل مستدام، دون تكرار للأخطاء المرتكبة خلال محاولات عقد السلام السابقة.
وللحفاظ على تقدم عملية السلام ووقف تصاعد النزاع أو التقسيم الفعلي للبلاد؛ يتحتم على ألمانيا، وغيرها من الدول الأوروبية، تركيز الجهود على التوصيات التالية:
- ضمان التزام السلطات الليبية بخارطة طريق ملتقى الحوار السياسي الليبي، لا سيما المبادىء الأساسية لحقوق الإنسان المُلحقة بخارطة الطريق، التي تم تطويرها بالتشاور مع المجتمع المدني الليبي؛ على أن تكون تلك المبادئ بمثابة الأساس لضمان احترام الحقوق والحريات الأساسية؛
- البناء على المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وعلى قرار مجلس الأمن بالأمم المتحدة رقم 2570، ودعم جهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والسلطات الليبية، والعمل معهم عن كثب وعلى وجه السرعة؛ من أجل وضع إطار قانوني شفاف ومتماسك لإصلاح قطاع الأمن؛ كما ينبغي تشكيل لجنة فنية متخصصة لفحص أعضاء المجموعات المسلحة ووضع استراتيجية لتفكيكها وإعادة دمج أفرادها ونزع سلاحهم وإعادة تأهيلهم؛
- الضغط على السلطات الليبية لضمان تهيئة الظروف لعقد انتخابات حرة ونزيهة، من خلال إلغاء القرارات التنفيذية التعسفية والقوانين التي تنتهك الحريات العامة، وتمكين المواطنين الليبيين من التسجيل للتصويت وضمان قدرتهم على الوصول بأمان لمراكز الاقتراع، بالشكل الذي تم إبرازه في خارطة طريق حقوق الإنسان الصادرة عن منظمات المنصة الليبية؛
- تدريب أعضاء المفوضية العليا للانتخابات الوطنية على المعايير الدولية للانتخابات؛ لضمان نزاهة وشفافية العمليات الانتخابية؛
- ضمان مراقبة الانتخابات من قِبَل بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات؛ إذا طلبت السلطات الليبية، ودعم الجهات الفاعلة المحلية لنشر مبادرات مستقلة لمراقبة الانتخابات؛
- وضع شروط على أي دعم مالي أوروبي أو ثنائي للسلطات الليبية قبل الانتخابات، وربطه بالخطوات الملموسة التي اتخذت من أجل إصلاح قطاع الأمن واحترام استقلال القضاء، بالإضافة لحماية حريات التعبير وتكوين الجمعيات؛
- ضمان تمديد ولاية البعثة الأممية المستقلة لتقصي الحقائق في ليبيا في سبتمبر 2021، وتوفير الموارد الكافية لتنفيذ مهمتها؛ إذ تعد البعثة حاليًا بمثابة الآلية الوحيدة القادرة على التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد ودعم جهود المحاسبة؛
- توظيف جميع أنواع النفوذ الأوروبي، الدبلوماسي والمالي والاقتصادي، بما في ذلك العقوبات المستهدفة؛ لردع مفسدي السلام، والضغط على الجهات الفاعلة الليبية والأجنبية لقبول وتنفيذ سحب القوات الأجنبية؛
- الإدانة الصارمة لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان ومعطلي العملية السياسية سواء من الجهات الفاعلة الليبية أو القوات الأجنبية، بما في ذلك الهجات على الصحفيين والمجتمع المدني؛
- مراجعة عمليات نقل الأسلحة –بما في ذلك خدمات ما بعد البيع– والتعاون الأمني مع الدول التي تمتلك وجودًا عسكريًا في ليبيا؛ لضمان عدم المجازفة بالمساهمة في انتهاك حظر الأسلحة المفروض من قِبَل الأمم المتحدة، بالإضافة إلى اشتراط التعاون بوقف أي تورط عسكري مباشر أو غير مباشر في ليبيا (بما في ذلك تمويل الجهات الفاعلة الأجنبية).
الصورة: رويترز / حازم أحمد
Share this Post