حظيت الانتخابات الرئاسية الفلسطينية التي انتهت في التاسع من يناير بفوز محمود عباس “أبو مازن” مرشح حركة فتح، باهتمام واسع، حيث شكلت هذه الانتخابات اختبارا صعبا لدى الفصائل الفلسطينية المختلفة وقدرتها على معالجة أمورها بطريقة ديمقراطية تتفادى من خلالها مخاوف اندلاع العنف والاحتكام للسلاح. كما أن هذه الانتخابات التي جرت على أساس تعددي وبمراقبة دولية إلى جانب هيئات الرقابة المحلية، تلقي بظلالها على واقع عربي مخز لا تزال فيه بعض النظم التي تخلصت من الاحتلال منذ عدة عقود ترفض أن تقر لمواطنيها بحقهم في اختيار من يحكمهم من بين أكثر من مرشح. كما ينظر إلى هذه الانتخابات باعتبارها محطة أساسية قد تكون كاشفة لآفاق التطور والإصلاح داخل مؤسسات السلطة الوطنية وتعزيز دور المجتمع المدني، ولفرص التوافق على برنامج وطني يلبي تطلعات الشعب الفلسطيني في السلام والتخلص من نير الاحتلال.
في هذا الإطار كان مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان قد نظم أمسية ثقافية في إطار صالون بن رشد قبيل أسبوعين من إجراء الانتخابات، وذلك تحت عنوان “الانتخابات الفلسطينية: هل تشكل نقطة تحول باتجاه احترام حقوق الإنسان وحكم القانون”. تحدث خلالها كل من د. سمير غطاس- مدير مركز مقدس للدراسات السياسية بغزة، وفاتح عزام- مدر برنامج دراسات اللاجئين والهجرة القسرية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ود. محمد السيد سعيد- نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وأدارها عصام الدين محمد حسن- رئيس تحرير سواسية”.
بدأ سمير غطاس حديثه بالأمسية مؤكدا أن الديمقراطية لا تمثل بالنسبة للفلسطينيين خيارا نخبويا بقدر ما هى خيار حياة لأنها بالنسبة لهم شرط للتحرر والتنمية والحياة، مشيرا إلى أن التداخل الفلسطيني مع إسرائيل يفرض على الجانب الفلسطيني أن يكون متفوقا في كثير من الجوانب، خاصة في التجربة الديمقراطية، خاصة أن 18% من سكان إسرائيل هم عرب يعيشون في كنفها ولابد أن يكون النموذج الفلسطيني الوليد ديمقراطيا لأن ذلك يمثل أحد الشروط الأساسية لاستمرار وحدة الشعب الفلسطيني.
وأكد أن هناك رغبة فلسطينية حقيقية تتجاوز النخب إلى شرائح الشعب الفلسطيني المختلفة في المطالبة بإصلاحات وحياة ديمقراطية حقيقية.
وذهب غطاس إلى أن الوضع الفلسطيني السياسي الديمقراطي متقدم عن الوضع العربي بشكل عام وإن كان لا يزال يلبي أو يمثل طموح الشعب الفلسطيني، مشيرا إلى أن الضغوط باسم الاحتلال التي كانت تمارس على الرئيس الفلسطيني الراحل عرفات من جانب شارون وبعض الأطراف الأخرى كانت جزءا من سياسة شارون ومن ثم سياسة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مدللا على ذلك بوجود دول عربية كثيرة تفتقد لأبسط قواعد الديمقراطية، ومع ذلك لم تمارس عليها مثل هذه الضغوط معتبرا أن ذلك يدلل على النفاق والمكاييل المزدوجة للمجتمع الدولي في النظرة لهذه الأمور.
وأوضح غطاس أن أغلب التقديرات عن مرحلة ما بعد عرفات كانت متشائمة نظرا لمكانة عرفات لدى الشعب الفلسطيني وإمساكه بكل الخيوط الفلسطينية في يده، إلا أن الجانب الفلسطيني –والكلام لغطاس- استطاع وبشكل لافت تجاوز كل هذه التقديرات وتجاوز محنة غياب عرفات بسرعة معتمدا في ذلك على ثلاث مسائل: الأولى: توظيف اللحظة العاطفية التي نجمت عن فقدان عرفات. الثانية: قدرة حركة فتح على استنفار وضعها كقبيلة سياسية استطاعت أن توحد شتاتها وفصائلها التي انقسمت إليها في السنوات الأربع الماضية. أما الثالثة فقد تمثلت في اعتماد وسائل ديمقراطية في الحوار بين مختلف الفصائل الفلسطينية، وهذا ما جنب الفلسطينيين السقوط في الاضطرابات الأمنية أو السقوط في حرب أهلية.
وأكد غطاس أن الرئيس المنتخب لا بديل أمامه سوى تعميق الخيار الديمقراطي باعتباره شرطا حاسما لإنجاز عملية التحرر.
أضاف غطاس أنه لم يعد ممكنا استنساخ النموذج العرفاتي مرة أخرى، مشيرا إلى أن الوضع الفلسطيني مقبل على إعادة تقاسم الصلاحيات والسلطات بشكل مختلف لم يعهده إبان رئاسة عرفات. ودعا غطاس إلى ضرورة فصل منظمة التحرير عن السلطة الوطنية وأن تؤول رئاسة المنظمة إلى شخص آخر غير رئيس السلطة الوطنية.
ولاحظ غطاس أن ما يسمى بفصائل اليسار الفلسطيني فشلت جميعها في الإجماع على مرشح واحد يمثلها في الانتخابات. كما كان لافتا للنظر إحجام فصائل المعارضة الإسلامية عن الدخول بمرشح لها رغم أنها ولأول مرة قررت الدخول في الانتخابات البلدية والتشريعية، رغم أن هذه الانتخابات جرت على قاعدة أوسلو مثلها مثل الانتخابات الرئاسية. ولاحظ كذلك أن أعداد المرشحين المستقلين بلغت ضعفي عدد مرشحي الفصائل بما يحمل دلالة سياسية تؤشر إلى قرب احتدام صراع داخل نموذج المجتمع السياسي الفصائلي غير الصحي الذي تمثله 13 فصيلة أغلبها ليس له قواعد سياسية أو اجتماعية داخل الأراضي الفلسطينية وإنما يمثلون جزءا من إرث مرحلة بيروت والمنافي وأغلبها تم تخليقه في مكاتب أجهزة المخابرات العربية واستنفد أغلبها مهامه وبات ملحا إعادة تشكيل الخريطة السياسية الفلسطينية على أساس مجتمع مدني متحاور.
تغييرات حماس
وتطرق غطاس إلى مستقبل الانتفاضة في ظل الانتخابات معبرا عن اعتقاده بأن الانتفاضة –وبصرف النظر عن شكلها في الثلاث سنوات السابقة وغياب عرفات- كانت تحتاج لمراجعة مسارها ونتائجها التي آلت إليها حيث تأكد أن المخرج الوحيد لها هو اللجوء مرة أخرى لخيار الهدنة، وهو المخرج الوحيد الذي قد يحفظ ماء وجه الانتفاضة بعد تدهورها –حسب وصف غطاس- وتراجعاتها الأخيرة خاصة في العام الأخير.
كما عرج على موقف حركة حماس المقاطع للانتخابات معبرا عن توقعاته بأن حماس ستمارس استعراضا للقوة في الانتخابات الرئاسية القادمة للتأكيد على أن المرشح الذي سيفوز في هذه الانتخابات كان مرشحا ضعيفا وفي حاجة لأصواتها.
وقال غطاس إن إعلان حماس أنها خاضت الانتخابات البلدية الماضية على قاعدة المجلس الوطني بإعلان الدولة الفلسطينية وليس على قاعدة أوسلو ليس سوى تخريجة بلاغية لفظية لإدراكها بالأزمة التي ستواجهها، سواء على المستوى الداخلي أو المستوى الإقليمي والدولي إذا لم تشارك في هذه الانتخابات.
وأعرب عن اعتقاده بأن حماس تحرص على خوض الانتخابات الأدنى مثل البلديات لتخلق سلطة موازية للسلطة الرسمية سعيا لتحقيق النموذج الجزائري في التسعينيات، موضحا أن تحقق هذا النموذج يتطلب تفكيك السلطة، وحذر من أن تجاهل خصوصية الوضع الفلسطيني قد يقود عمليا إلى النحر أو الانتحار.
وأكد غطاس أن المساحة المتاحة في ضوء استحقاق انتخابات 9 يناير هى إصلاح الوضع الداخلي، لأن عرفات كان يعطل ويعيق كافة الإصلاحات الداخلية ويربطها بتحقيق تقدم في مسار التسوية السياسية. وأكد غطاس أن هناك مساحة واسعة بالفعل لإصلاح الوضع الداخلي الفلسطيني وإعادة ترميم البنية الداخلية التي دمرها الاحتلال وتقليل حجم الفساد وإقامة مجتمع مدني حقيقي وفصل القضاء عن السلطة، واحترام حقوق الإنسان والمواطن الفلسطيني.
استطلاعات ونتائج
فيما لفت فاتح عزام مدير برنامج دراسات اللاجئين والهجرة القسرية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى افتقاد البلاد العربية جميعا مراكز استطلاعات الرأي في الوقت الذي يوجد فيه في فلسطين العديد من المراكز التي تعمل بشكل دوري ومستمر على استطلاع آراء المواطنين الفلسطينيين في مختلف الأحداث وآخرها استطلاعات الرأي حول الانتخابات الرئاسية والتي قام بها المركز الفلسطيني للدراسات البحثية والمسحية والمركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي، مشيرا إلى أن هذه المراكز تقدم نتائج تحمل دلالات مهمة في تحليل العديد من الأمور والأحداث، ومن ذلك تأكيد استطلاعات الرأي الأخيرة أن الانتخابات ضرورة أساسية ليس لإضفاء الشرعية على التمثيل الفلسطيني فحسب، ولكن أيضا لفتح أبواب المستقبل وفتح آفاق جديدة وإمكانات للتحرك وكسر الجمود القائم والوضع المأساوي الذي وصل إليه الشعب الفلسطيني في السنوات الأخيرة.
أضاف عزام أن استطلاعات الرأي توقعت مشاركة أكثر من 90% من الناخبين في الانتخابات الرئاسية وأن 70% منهم سجلوا أنفسهم بالفعل إلى جانب توقع فوز أبو مازن بنسبة 55% ومنافسة مصطفى البرغوثي له بقوة بما قد يضعف –حسب عزام- من القوة التي سيتمتع بها أبو مازن عند انتخابه.
وأشار عزام إلى أنه من الواضح أن الولايات المتحدة وإسرائيل تريدان فوز أبو مازن وأنه بحكم تاريخه يتصورون أنه قادر على الاستمرار في عملية التفاوض مع إسرائيل بغير التعنت الذي واجههم به عرفات في الفترة الأخيرة.
ولفت إلى أن الجانب الآخر والمثير في مشهد الانتخابات هو موقف منظمتي حماس والجهاد الإسلامي واللتين تصران على الاستمرار في الانتفاضة وتحرير فلسطين بقوة السلاح، وفي نفس الوقت يبدون الاستعداد للدخول في المجال السياسي غير المسلح ويتنقلون بين الأمرين في الحديث والممارسات العامة، ورأى عزام أن الذي يمكن أن يصوتوا لحماس في حالة وجود حزب سياسي لها لن يتعدوا نسبة 17% من الناخبين الفلسطينيين.
وأكد عزام أن غالبية المجتمع الفلسطيني في الضفة وغزة يدعم خيار الهدنة والعودة للمفاوضات وحسب استطلاع الرأي يعتقد الكثيرون منهم أن بالإمكان التوصل لاتفاق مع حكومة شارون لما يتمتع به شارون من قوة كافية لتنفيذ اتفاقياته التي قد يصل إليها عبر المفاوضات، لكن عزام يرى أن استطلاعات الرأي تكشف عن أنه مع دعم الكثيرين في الضفة وغزة لوقف العمليات العسكرية فور انسحاب القوات الإسرائيلية، فإن هناك آخرين كثيرين ما زالوا يؤمنون باستمرار العمليات حتى بعد انسحاب إسرائيل من غزة.
وأشار إلى أن استطلاعات الرأي تكشف أيضا عن مطالبة أكثر من 90% من المشاركين فيها بمحاربة الفساد وإنهاء فوضى السلاح الذي يوجه ضد أبناء الوطن مشيرا إلى أن ذلك الأمر يختلف عن عسكرة الانتفاضة.
وحول إشكالية مشاركة اللاجئين الفلسطينيين من الخارج في الانتخابات أوضح عزام أن الانتخابات تجري على قاعدة أوسلو والمشاركة فيها وفق الاتفاق هى لمن يملك هوية وهذه الهوية مبنية على الهوية الإسرائيلية المعترف بها من قبل إسرائيل، ومن ثم فإن غير المقيم داخل الأراضي المحتلة لا يستطيع المشاركة في العملية الانتخابية.
ثقافة عربية
وتحدث الدكتور محمد السيد سعيد نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عن تحول الحالة الثورية الفلسطينية بشكل سريع إلى بيروقراطية سياسية وعسكرية أخذت فيها كل صفات البلاد العربية من تسلط وتعسف في استخدام السلطة، كما لم تقدم هذه الحالة قيادة ميدانية حقيقية في ظل مواجهة واحدة من أكبر القوى العسكرية في العالم.
واعتبر الدكتور سعيد أن أبو مازن سيكون مرشح البيروقراطية الأمنية السياسية وأنه سيكون استمرارا للمرحلة العرفاتية من حيث تجميع كل مقاليد السلطة في يده، مشيرا إلى أن المجتمع الفلسطيني يعاني حالة من اللامدنية في ظل عدم ضبط الجهاز العسكري عن طريق حكم القانون، مؤكدا أن الحالة المدنية للمجتمع الفلسطيني هى وحدها القادرة على القيام بعملية “غسيل” أو فرز للمؤسسات الفلسطينية في ظل ما مرت به هذه المؤسسات من بيروقراطية وفساد طوال السنوات الماضية وقال الدكتور سعيد إن ترك البيروقراطية تستمر في التحكم في المجتمع الفلسطيني لا يعني سوى استنساخ نموذج عربي جديد على أرض فلسطين وقيام دولة مثل باقي الدولة العربية بكل مشكلاتها وممارساتها السلبية وغير الديمقراطية، مشيرا إلى أن الثقافة السياسية العربية وما تحمله من صراعات أيديولوجية متعددة اقتحمت بشدة الثقافة العربية والفلسطينية ومزقتها على طريقة تمزيق الأوراق، معتبرا أن الانتخابات الرئاسية الفلسطينية هى الانتخابات الشرعية الأولى والانتخابات الأهم في التاريخ الفلسطيني.
Share this Post