من الصعوبة بمكان الفصل بين التطلعات الرامية لتحقيق استقلال الجامعات وصيانة حرية البحث العلمي والحريات الأكاديمية ورفع يد الدولة وأجهزتها الأمنية داخل الجامعات، من ناحية، وبين تبني برنامج شامل للإصلاح في مصر، ذلك ما أكدته مداولات الأمسية الثقافية التي نظمها مركز القاهرة في إطار صالون بن رشد تحت عنوان: “هل يمكن إصلاح الجامعة قبل تحقيق استقلالها؟!. وقد شارك في مداولاتها المفكر المعروف د. نصر حامد أبو زيد، د. محمد أبو الغار الأستاذ بطب القاهرة والقيادي بحركة 9 مارس لاستقلال الجامعة، ود. محمد السيد سعيد نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. وأدار المداولات سيد ضيف الله الباحث بمركز القاهرة.
استهل د. نصر أبو زيد النقاش بالإشارة إلى أن الجامعة المصرية تعرضت لحالة من “الخصاء الفكري”، انتهت إلى فريق من الأساتذة “المخصيين فكريا” رغم كونهم خبراء في مختلف المجالات بما يجعل تحقيق استقلال الجامعة أمرا بعيد المنال.
أضاف أبو زيد أن مؤسسة الجامعة كان مطلوبا منها طوال الوقت أن تأتي بالعلم الحديث دون الدخول في إطار الفكر الذي أسس لهذا العلم مشيرا إلى أن هذه كانت هى الصيغة التي أحدثها عصر الإصلاح الديني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وتمثلت في أننا نستطيع أن نستورد من أوروبا التكنولوجيا الحديثة وأن نستورد منها العلم وليس الفلسفة ولا الأخلاق أو الأفكار واعتبر أبو زيد أن أفضل من عبر عن هذه الأفكار هو سيد قطب لكنها متجذرة في خطاب الإصلاح الديني، وبالتالي مشكلة الجامعة المصرية –في رأي أبو زيد- منذ اللحظة الأولى لميلادها هى في أن المجتمع سياسيا ودينيا احتاج إليها لكن حاجته إليها كانت مشروطة بألا تدخل في الفكر وكل محاولة للاقتراب من الحدود الفكرية الحداثية كنت تقابل بهذا الحسم.
وأضاف أبو زيد بعد عام 1925 أمكن ضرب أي محاولة للفكر في الجامعة وشهدت تلك الفترة استقالة أحمد لطفي السيد وتحويل طه حسين إلى وزارة المعارف لافتا إلى أن مؤسسة الجامعة ورغم أنها ولدت عليلة إلا أنها لم تكن مريضة مرضا كاملا وكانت تقاوم واستمرت مقاومتها، ولكن مع الضغط السياسي وتأميم كل فكر بعد عام 1952 انتهت الجامعة وسقطت، مشيرا إلى أن حركة التطهير في الجامعة في عام 1954 شملت أسماء من أقصى اليسار الشيوعي حتى اليمين الإسلامي.
وقال إن عملية الإخصاء الفكري هذه مستمرة وتتزايد في عمليات الإشراف على الماجستير والدكتوراة حيث تحول الأساتذة بحكم هذه البيئة التي تعيد إنتاج نفسها طوال الوقت إلى “مستبدين” لا يقبلون من الطلاب سوى التسليم الكامل لما يريدونه منهم، مضيفا أن هذه العملية ما زالت تتم أيضا حتى في لجان “الترقية العلمية” مشيرا إلى حالات لشباب حاولوا اقتحام هذه الأسوار فحرموا من الترقية حيث التفكير ممنوع والمطلوب فقط هو أن تكون تكنوقراط.
وأكد أن المشكلة ليست في تغيير قوانين الجامعة رغم أهمية ذلك ولكن في كيفية إعادة الفصل بين السياسي والفكري وأكد أن الحل الوحيد لذلك هو “الاستقلال التام” للجامعة لكنه أشار إلى أن ذلك لن يتحقق بين يوم وليلة لوجود أجيال من الأساتذة هم أبناء هذه العملية المستمرة من “الإخصاء الفكري”، والتي وصلت إلى غايتها القصوى في اللحظة التي نعيشها حاليا.
أضاف أبو زيد: إن دعوته لاستقلال حقيقي كامل للجامعات لا يستثنى منها الأزهر وقال إن “أزهر مستقل” يمكن له أن يتحول إلى مؤسسة فكرية وأن الخطوة الأولى لتحقيق إصلاح الأزهر تتمثل في أن التعليم الديني لا يجب أن يكون سوى في مرحلة الجامعة والدراسات العليا حيث الانقسام بين التعليم الديني والتعليم المدني في مصر منذ عصر الحداثة يقسم المجتمع ويشقه إلى مجتمعين طوال الوقت، مشيرا إلى أن المراحل الابتدائية وحتى الثانوية يجب أن يكون التعليم فيها موحدا لكل المصريين ثم تبدأ الدراسات الدينية في مرحلة الجامعة بالأزهر.
وأكد أبو زيد أن الجامعات المصرية أصبحت في يد السلطة بشكل كامل حتى أن جامعة القاهرة التي أنشئت كجامعة علمانية بها كلية لا تقبل الطلاب المسيحيين وهو أمر يخالف الدستور لأن كل الجامعات تمول من جيوب دافع الضرائب المصري، وقال إنه يجب أن نبحث كيف نستعيد الدور الحقيقي للجامعة بعيدا عن الحسابات الموجودة في رءوس السياسيين ورجال الدين والفيلق الكبير من الأساتذة الذين أصبحوا جزءا من هذه المنظومة الفاسدة.
وظائف
وتناول الدكتور محمد أبو الغار أطراف الحديث، مؤكدا بداية أنه لا يمكن إصلاح الجامعة قبل استقلالها وقال إن الجامعة الحقيقية لها عدة وظائف في مقدمتها تعريف الطالب بالثقافة العامة والمعلومات ومعرفة ما يدور بالدنيا حوله ثم بناء شخصية الطالب، مشيرا إلى افتقاد الطالب المصري للشخصية المستقلة لتعرضه للضرب والاضطهاد في البيت ثم في المدرسة والجامعة بما لا يوجد معه ما يشعر الطالب بكيانه أو يدفعه للإبداع والقدرة على اتخاذ وتنفيذ القرارات.
أضاف الدكتور أبو الغار أن واحدة من وظائف الجامعة تتمثل في تعليم الخريج منها مهنة أو حرفة يتعيش عليها ورغم أداء الجامعة لهذه الوظيفة بطريقة سيئة حاليا إلا أنها –هذه الوظيفة- لم تعد لها أهمية حاليا بعد أن صارت الدرجة العلمية لا تؤهل أي فرد لممارسة ما تعلمه في الجامعة بالشهادة التي حصل عليها. وأشار إلى أنه بالنسبة لوظيفة التثقيف وإعطاء المعلومات العامة للطلاب فإنها لا تتم أبدا داخل قاعة المحاضرات لوجود ظروف مختلفة منها سوء هذه القاعات وانشغال الأساتذة.
ولفت الدكتور أبو الغار إلى أن صحافة الحائط أصبحت ممنوعة في الجامعة وإذا تم السماح بها فلابد وأن تعرض موادها على وكيل الكلية وعميدها والأمن بها، مشيرا إلى أن الجامعة في الخمسينيات كانت بها مسابقات فنية ومسرحية وموسيقية ورياضية وهو ما تفتقده الجامعة حاليا، وقال إنه رغم أن الكلام في السياسة كان ممنوعا في ذلك الوقت إلا أن الكلام في الثقافة كان مسموحا به وبشكل موسع في ظل تأييد الناس للمد الثوري في ذلك الوقت.
وأكد أبو الغار أن وظيفة “التعليم” في الجامعة تم تدميرها تماما بعد أن صار الاعتماد كلية على “المذكرات” لكل أستاذ في كل مادة فاختفى البحث والاطلاع في المكتبة من اهتمامات الطلاب، وباتت الجامعة أقرب إلى مدرسة ثانوي متطورة قليلا.
أكد أبو الغار أنه بدون حرية الجامعة واستقلالها فلا أمل في الإصلاح، مشيرا إلى أن الأمن يدير الجامعة بالكامل حاليا رغم أنه يفترض فيه حراسة المنشآت فقط، ولكن وظيفته امتدت إلى حراسة العقول ومنع الكلام والتفكير والاجتماعات بل الاعتداء على الطلاب واعتقالهم والهيمنة على نظام الأسر الجامعية حتى امتد الأمر إلى التدخل في تعيين المعيدين وسفر الأساتذة للخارج. وأكد أنه بدون إلغاء هذه الهيمنة الأمنية، فلا أمل في استقلال الجامعة أو إصلاحها، مشددا أيضا على ضرورة إنهاء الهيمنة الحكومية المتمثلة في التحكم في اختيار رؤساء الجامعات وعمداء الكليات وأحيانا رؤساء الأقسام بها وقال أبو الغار إن هذه الأمور أصبحت حاليا في يد لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم. وأكد أن تحقيق استقلال الجامعة لن يتحقق بالمقالات والخطابات وإنما بحركة موسعة للأساتذة تشمل الاعتصامات والإضرابات حتى يتم تحقيق استقلال الجامعة وحريتها.
إهدار
وأكد الدكتور محمد السيد سعيد أن الجامعة يفترض فيها أنها كائن اجتماعي متميز، ولذلك لا يستقيم معنى الجامعة مع الاستبداد كما لا يستقيم الجمع بين الاستبداد والفكر.
وأشار إلى أن بداية نشأة الجامعة المصرية كانت مشروعا لدخول مصر عالم الجامعات والتعليم الجامعي والأكاديمي “حيث كانت لديها في ذلك الوقت بنيات مؤسسة بديلة خاصة بالحضارة العربية والإسلامية وتوقفت وجمدت عند مستوى القرون الوسطى وهى التي تمثلت في الكتاتيب والتعليم الديني وأشار سعيد إلى أن مشروع الجامعة المصرية ولد ناقصا ولم يكتمل، مؤكدا أن ما حدث بعد 1952 لا يمكن مساواته بما حدث قبلها بأي قدر من راحة الضمير والاستقامة الفكرية، مشيرا إلى ما شهدته هذه الحقبة من إهدار الاستقلال ومصادرة الحريات الأكاديمية كامتداد لمصادرة الحريات العامة وإهدار حكم القانون حيث عاش الوطن بعد عام 1952 في علمية مصادرة مستمرة للحريات العامة وإهدار لحكم القانون وهو ما طبق على الجامعة مثلما طبق على المجتمع بكل مستوياته وكان هناك إصدار قوانين ليتم اختراقها وصدرت معظم التشريعات والقوانين في أوضاع مؤقتة أو لأشخاص معينين أو لمعالجة حالة خاصة كتشريعات البرلمان والنقابات والحياة السياسية.
ورأى سعيد أن إنقاذ الجامعة مفتاحه ليس ضمان استقلال الجامعة فحسب وإنما الأهم هو ضمان تحول ديمقراطي حاسم في البلاد يقوم على سيادة الأمة والمواطنة وحكم القانون وحماية الحريات بالقانون وانصياع صاحب السلطة العامة للقانون مثله في ذلك مثل غيره من المواطنين.
أضاف سعيد أن هناك عمليات أخرى حديثه أقل جذبا للاهتمام وفي مقدمتها تشغيل الجامعة كرديف أو كحقل احتياطي للتجنيد لسلطة الدولة حيث جرت صياغة وبناء النخبة الوزارية والسياسية في مصر لفترة طويلة جدا حتى عام 1974 على الجامعة وأساتذتها مشيرا إلى أن استوزار أساتذة الجامعة بدأ قبل عام 1952، حيث حدث الخلط بين السياسي والأكاديمي وتم إهدار الأخير وصار الطموح الرئيس لأساتذة الجامعة وقتها هو تولي الوزارة أو الوظيفة البيروقراطية، وأشار د. سعيد إلى أنه في إطار المشروع النهضوي الناصري تم ابتكار شعار أن الجامعة لابد أن تخدم المجتمع فتم بذلك ضرب العقد المعرفي الأكاديمي وهو إحدى الركائز الأساسية لاستقلال الجامعة التي يفترض فيها تعليم الناس والسماح ببيئة للنقاش حول الاكتشافات والمعارف الحديثة وتعلم الناس آخر ما توصلت إليه المعارف الإنسانية في شتى المجالات.
وأكد د. سعيد أنه لإصلاح الجامعة فلابد من إصلاح مصر وإعادتها دولة ديمقراطية كشرط لضمان حل جانب أساسي في الموضوع وهو ضمان الحريات الأكاديمية وتمكين الجامعة من وضع نظمها الخاصة وأشار إلى أن الوضع الأكاديمي لا يقوم بالضرورة على المساواة، سواء في التحصيل أو المعرفة أو القدرات بما يعني أن تطبيق فكرة المساواتية والمفهوم الشعبوي لإدارة التعليم الجامعي يقود إلى كارثة. وقال إن النزعة الشعبوية تجعل علاقات التوزيع أهم من الإنتاج.
وأكد سعيد أن تحويل الشهادة الجامعية إلى معيار مقدس هو عيب في العقلية الشعبوية والبيروقراطية وتكريس لفكرة التعلق بالمكانة كبديل عن التمتع بكرامة حقيقية. وقال إن الاستبداد في بلادنا لم يقتصر على مصادرة الحريات العامة، ولكنه فرض أيضا مستويات من انعدام الكفاءة في كل القطاعات.
أضاف أن الفضاء العام في مصر بدءا من الربع الأخير من القرن التاسع عشر كان به مسرح وسينما وإضرابات سياسية ومقاه ثم صحف ومجلات وكان في صدارة هذه العملية المثقفون والمبدعون ثم حدث أن شغل هذا الفضاء عسكريون ورجال شرطة، مما أدى إلى إهدار منظم للتعليم وضرب للجامعات بشكل حاد.
وأكد سعيد على ضرورة استرداد الحريات الأكاديمية واستقلال الجامعات وأن يضع أساتذة الجامعات قوانينهم بأنفسهم والسعي لمشروع للنهضة المصرية يقوم على تسريع التراكم في مجال راس المال الرمزي أكثر من رأس المال السلعي وتمكين الجامعة من أن تتفاعل بحرية مع الطلاب وتطبيق النظم الأكاديمية المتطورة في العالم.
Share this Post