مسعود الرمضاني
حين كنّا طلبة استهوتنا السياسة وافتتنا بالأيديولوجية؛ فكنّا نرى الوطن خارج أسوار جامعتنا بأحلامنا الطوباوية: وطن المساواة والرفاه، الوطن الذي افتقدناه أيام طفولتنا وصبانا، نحن الذين أسعفتهم المدرسة العمومية وكنّا نعتقد أن ذلك ممكنًا بمجرّد توفر الإرادة، إرادتنا التي نمتلكها نحن «الثوريون» فقط، والتي سيقبل بها الشعب، والعالم؛ لأنها حقيقة «ثورية» ثابتة وسرمدية.
وإن ظلّ الأمل في غد أفضل (بمواصفات أخرى أحيانًا) يراودنا بعد ذلك، إلا أننا اكتشفنا سريعًا أن الأمور أشدّ تعقيدًا من «حقائقنا الثورية الثابتة». وأن كل الأحلام، التي كنّا نراها جميلة، قد تتبخر بمجرد اصطدامها بصخور الواقع الذي يفترض التفاوض وتقديم التنازلات، ما يعني تجزئة الحلم والتخلي عن بعضه أو جلّه، حتى لا نقبره أو نحوّله إلى كابوس.
مواصلة البعض عيش الحلم المتعالي عن الواقع نفسه، وبالشروط نفسها حتى سنّ متقدمة، لا يضرّ كثيرًا بالبلاد طالما ظل هؤلاء الحالمون بعيدين عن مركز السلطة والنفوذ، لكن ماذا لو كان خطاب السلطة مبنيّا على الأحلام والأوهام نفسها دون قراءة إكراهات الواقع وتشعبه؟ وكيف يكون موقف الحاكم حين يقع هذا التصادم المرير ويدرك الشعب الكريم، الذي كان يحمل بدوره أوهامًا حول قيادته الملهمة، أن الوعود التي تعلّق بها بفطرته وحماسه وتلقائيته لا يمكن أن تتحقق بمجرد الشعارات المضخمة؟ وأن السياسة هي فن الممكن وليست خطابات الاستعلاء؟
هنا مربط الفرس، وهنا يتحول الحلم/الوهم لإحباط وتهتز الثقة وتتوالى التوترات الاجتماعية؛ لأن السياسي الفطن هو من يقرأ خريطة الواقع بكل ملابساته قبل أن يتخذ المواقف النهائية ويقدّم الوعود الجازمة، حتى يحافظ على مصداقية يحتاجها في كل مشواره.
خطابات السيد قيس سعيد الاقتصادية والاجتماعية بعد 25 يوليو 2021 تحمل كثيرًا من الطوباوية، ربما اعتبارًا لمحدودية تجربته السياسية، وكذا اهتمامه الذي ظلّ منصبًّا على برنامجه الانتخابي ورؤيته الفريدة للبناء الديمقراطي. وأعتقدُ أن محدودية التجربة السياسية، وضبابية قراءته للأدوار الإقليمية والدولية تسببت في قراءته الخاطئة لاستعداد «الدول الشقيقة والصديقة ووقفتهم الصادقة لسد الاختلالات في التوازنات المالية»، إذ كان يعتقد «أن لدينا أشقاء وأصدقاء صادقون يقفون معنا في كل المجالات، خاصةً الأمني والاقتصادي». ولعل هذا الاعتقاد، الذي يبدو راسخًا لديه، هو ما دفعه لشنّ هجوم على المؤسسات المالية الدولية، رافضًا الأوامر التي تسديها للدول الفقيرة، مبيّنًا، أمام شعب مبهور بكلام يسمعه لأول مرّة من قيادته، أن تونس دولة ذات سيادة، لا تقبل بالأوامر ولا بالشروط ولا بارتهان إرادتها الوطنية.
لكن مرت الأشهر متثاقلة، وتدهورت الأوضاع الاقتصادية أكثر، وبدأ الرئيس يدرك حجم صعوبة الأوضاع. وإذا ما استثنينا القرض الذي قدمته الجزائر، والذي لا نعرف الكثير عن اشتراطاته المالية والسياسية، عدا ما يرشح أحيانًا عبر وسائل إعلام أجنبية حول صراع القوى الإقليمية التي تتنافس على موطئ قدم في المنطقة؛ فإن بقية الدول، وخاصة الخليجية ظلت مترددة أمام وضع داخلي ضبابي وغير مستقر، وضغوطات خارجية باتت مكثفة من أجل إنهاء حالة الاستثناء. وهذا هو موقف السعودية مثلًا خلال زيارة وزير الشئون الاجتماعية الأخيرة إلى الرياض، حين عبرت عن استعدادها لمساعدة تونس، لكن لن يتم ذلك إلا بعد أن تلتزم تونس بخطة «الإصلاح» التي يشترطها صندوق النقد الدولي، أي وبوضوح: دون تلك الخطة، لا مساعدة سعودية وكذا بالنسبة للدول «الصديقة».
إذًا، وبعد محاولات هنا وهناك، تبيّن للحكومة أنه لا مفر من الالتزام بما يفرضه الصندوق، خاصةً وأن ميزانية 2022 بحاجة لاقتراض حوالي 19 مليار دينار خلال هذه السنة. وبينما عبّرت الحكومة عن استعدادها للتفاوض مع هذه المؤسسة الدولية وتقديم الإصلاحات المطلوبة، بل وهيأت الميزانية الجديدة لذلك؛ فإن هناك شروطًا أخرى تتعدّى تجميد الأجور وتقليص نفقات الدعم وإعادة هيكلة أو خصخصة المؤسسات العمومية المشرفة على الإفلاس، فإلى جانب ذلك يشترط صندوق النقد الدولي موافقة الأطراف الاجتماعية، اقتناعًا منه باستحالة تمرير إصلاحاته الموجعة دون أن يكون الاتحاد العام التونسي للشغل، أهم طرف اجتماعي، قابلًا بها.
وهنا يجد الاتحاد والحكومة نفسيهما أمام تحديات تستوجب حوارًا أوسع من مجرد موقف موحد حول «إصلاحات» صندوق النقد الدولي: إذ كيف سيقبل الاتحاد بتجميد الأجور ورفع الدعم وهو المدرك للوضع الاجتماعي التي ما انفكت تسوء لمنخرطيه؟ وما هو المقابل الذي ستقدمه الحكومة للاتحاد؟ وكيف سيكون الحوار مع حكومة ما فتئت ترفض باستعلاء أن تفاوض وتقبل بالمنظمة الشغيلة شريكًا في الحوار السياسي والاجتماعي؟ وفي صورة حصول تفاوض، هل سيتخلى الاتحاد عن دوره السياسي الذي التزم به خلال العقود السابقة والقبول بتفاوض محدود في الزمن والمقاصد؟ وماذا عن طريقه «الثالث» في التموقع في الخريطة الوطنية؟
والأهم من الأسئلة، هناك دروس عديدة يمكن أن نستخلصها من أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة ونحن ننتظر المساعدات والقروض التي ستزيد من ارتهان اقتصادنا وإرادتنا الوطنية، لعل أهمها أن يتناسق خطابنا مع قراءة متأنية لواقعنا، وإلا فقد الخطاب السياسي المصداقية داخليًا وخارجيًا، وكذلك لابد أن ندرك أن أوضاع البلاد تتطلب أكثر من مجرد حسن النوايا ونظافة اليد والخطب الرنانة ومهاجمة الخصوم والمعارضين، وأنه لابد من التواضع والقبول بحوار داخلي يجمع كل الأطراف السياسية والاجتماعية، فبدونه لن تكون لنا مصداقية مع أي طرف. ولسنا في حاجة للمؤسسات المالية الدولية والشركاء الأجانب كي نعي ذلك، فقط نحتاج للفطرة السليمة والعقل السياسي الذي يترفع عن الغطرسة والاستبداد بالرأي.
المصدر: الشارع المغاربي
Share this Post