يرحب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان باعتماد قضاة المحكمة الجنائية الدولية للمذكرة التي تقدم بها المدعي العام للمحكمة في يوليو 2008، وطالب فيها بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير بعد اتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور، استهدفت بشكل خاص قبائل الزغاوة والفور والمساليت.
ويأتي قرار المحكمة تأكيدا لما ذهب إليه المدعي العام من توافر معلومات ودلائل كافية لاتهام البشير وغيره من المسئولين من السودانيين بارتكاب جرائم خطيرة منذ تفجر الحرب في دارفور عام 2003، أفضت إلى سقوط نحو 300 ألف قتيل وتشريد ما يزيد على ثلاثة ملايين شخص وحرق مئات القرى باستخدام سلاح الجو السوداني، وتدمير وسائل العيش للسكان المدنيين واغتصاب الآلاف من النساء والأطفال.
إن المثول أمام المحكمة لا يعني بالضرورة قرارا بالإدانة، وإذا كان هناك ثمة فرصة لإثبات براءة المسئولين السودانيين، فإن مكانها المحكمة الجنائية الدولية التي تتمتع بأعلى قدر من ضمانات الاستقلال والحيدة، والتي يجري انتخاب قضاتها ومدعيها العام من خلال الجمعية العمومية للدول الأطراف في المحكمة. ومن المؤكد أن الضمانات التي ستتاح للمتهمين تفوق كثيرا أية ضمانات يمكن أن يوفرها القضاء السوداني، بما في ذلك حق المتهمين الماثلين أمامها في الطعن على الاختصاص الدولي للمحكمة، والحق في استئناف الأحكام التي قد تصدر بحقهم، فضلا عن إمكانية إعادة تكييف الاتهامات في ضوء ما سيقدمه دفاع المتهمين. كما أن العقوبات التي قد تصدرها المحكمة لا يندرج في إطارها عقوبة الإعدام، باعتبارها منافية للحق في الحياة، خلافا للقانون السوداني، والذي بمقتضاه تحكم المحاكم السودانية بعقوبة الإعدام، بما في ذلك في القضايا ذات الطبيعة السياسية.
لقد كان مأمولا منذ صدور مذكرة المدعي العام بتوقيف البشير في يوليو الماضي، أن يتحلى النظام السوداني بأعلى قدر من المسئولية تجاه شعبه، وأن يبرهن بإجراءات عملية ملموسة على توافر إرادة سياسية جادة للمحاسبة على الجرائم المرتكبة في دارفور، أو حتى للامتناع عن ارتكاب المزيد منها.
ولكن الحكومة سارت في الاتجاه المضاد، واستمرت في القصف الجوي لعشرات القرى بإقليم دارفور، ولم تتوقف الهجمات التي تشنها القوات الحكومية والميليشيات المسلحة الموالية للحكومة على السكان المدنيين ومراكز إيواء المشردين، وهو ما أدى إلى سقوط المئات من الضحايا وتشريد نحو 90 ألف من المدنيين. وفي ظل استمرار العمليات العسكرية على هذا النحو، فإن منظمات الإغاثة الإنسانية تواجه صعوبات جمة. وتشير التقارير المتاحة إلى أن هذه الصعوبات تحول دون وصول المساعدات الإنسانية إلى نحو 4 ملايين من سكان دارفور بحاجة ماسة إلى هذه المساعدات. كما أن نحو 170 من موظفي الإغاثة الإنسانية كانوا هدفا للاختطاف خلال العام الماضي، ولقى 11 آخرين حتفهم كنتيجة لاستمرار أعمال العنف والقتل.
وكان نظام الخرطوم قد رفض التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ورفض تسليم اثنين من المتهمين هما علي كوشيب وأحمد هارون اللذان اتهمتهما المحكمة في عام 2007، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وإمعانا في الاستخفاف بالمحكمة، فإن هارون -الذي يتولى منصب وزير الدولة للشئون الإنسانية!- أسندت إليه أيضا رئاسة اللجنة الحكومية المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان في جنوب وشمال السودان، والمشاركة في الإشراف على نشر قوات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي المكلفة بحفظ السلام في دارفور! جاء ذلك القرار ردا على طلب تسليمه للمحاكمة.
إننا نؤكد استهجاننا لمحاولة النظام السوداني، وبعض الحكومات العربية التملص من استحقاقات العدالة في دارفور، استنادا إلى المعايير المزدوجة التي تطبقها بعض مؤسسات المجتمع الدولي، والتي كانت وما زالت تساعد على تحصين مجرمي الحرب الإسرائيليين وغيرهم من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية. إن التذرع بذلك هو ممارسة أيضا لازدواجية المعايير، ولا يعفي مجرمو الحرب في دارفور من تحمل مسئولياتهم الجنائية عما ارتكبوه من جرائم.
إن الفشل المؤقت في تقديم المجرمين في جريمة أو أكثر للعدالة، لا يمكن أن يتخذ مبررا لتعطيل إعمال العدالة في أي دولة أو على الصعيد العالمي، وإلا تلاشى مبدأ العدل ذاته وانهارت النظم القضائية في العالم كله. إن إفلات مجرم من المحاسبة لا يبرر المطالبة بإفلات المجرمين الآخرين!
إذا كانت الحكومات العربية جادة فعلا في إعمال معيار واحد للعدالة، فإن عليها أن تقوم بالتصديق على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. كما يتعين عليها أن تقوم باتخاذ التدابير التشريعية التي تسمح للنظم القضائية العربية بملاحقة جرائم الحرب وتقديم مرتكبيها للعدالة أمام المحاكم الوطنية، اتساقا مع انضمامها لاتفاقية جنيف الرابعة، وأسوة ببعض النظم القضائية الأوروبية التي تفسح مجالا بدأت المنظمات الحقوقية الفلسطينية في استثماره في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين. كما يتعين على بعض الحكومات العربية أن تعيد النظر في الاتفاقيات الثنائية التي أبرمتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، لتحصين جنودها ومسئوليها العسكريين من الملاحقة والمحاسبة على جرائم الحرب المنسوبة إليهم.
لقد كان من المتوقع أن تفشل مبادرة الحكومات العربية في إقناع المجتمع الدولي بتعديل موقفه، دون أن تقدم تعهدا ملموسا باتباع البشير سياسة مختلفة في دارفور. ارتكزت هذه المبادرة البائسة على الجمع بين فكرتين متناقضتين تنسف كل منهما الأخرى. فهى تطالب من ناحية بمنح البشير فرصة جديدة، وذلك بتجميد العملية القضائية لمدة عام، ومن ناحية أخرى تمارس الحكومات العربية الابتزاز، وذلك بالتهديد بأنه في حالة صدور قرار من المحكمة باستدعاء البشير للمثول أمامها، فإن النظام السوداني سيطلق الفوضى، أي بالتوسع فيما يجري بالفعل، من التنكيل بالسودانيين في دارفور والشمال والمراوغة في تنفيذ اتفاق السلام في الجنوب، وتسهيل الاعتداء على بعثات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية!
لو أن الحكومات العربية كانت قد اتخذت موقفا نقديا من جرائم نظام البشير في الجنوب ثم في دارفور، ومن مراوغته المتواصلة للتملص من تنفيذ القرارات الدولية واستهتاره بها على مدار ست سنوات، لربما ساعد ذلك على تصحيح هذه الأوضاع منذ فترة طويلة، ولكنها بموقفها الداعم له بشكل متواصل، ساهمت في الإضرار بالشعب السوداني، بل وبمستقبل نظام البشير ذاته.
إن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان يؤكد أن نظام البشير قد أهدر كل الفرص التي أتيحت له عبر ست سنوات للبرهنة على توافر إرادة سياسية لوضع حد للجرائم المتواصلة بحق الشعب السوداني في دارفور. ولم يعد ثمة فرصة لوضع حد لمعاناة سكان الإقليم، وتهيئة بيئة آمنة لعودة النازحين والمشردين، وتمهيد الطريق للسلم الأهلي على أسس عادلة، إلا من خلال توسيع وتعزيز دور الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الإنسانية في دارفور، ومساندة القرارات والإجراءات التي تقررها المحكمة الجنائية الدولية في هذه القضية
Share this Post