مسعود الرمضاني
«بيت الديمقراطية يشتعل» هكذا كتب احد علماء الاجتماع الغربيين، منبها الى مخاطر مستقبل الديمقراطية في العالم، بدءًا بأعرق الديمقراطيات في أوروبا والولايات المتحدة وانتهاء الى الديمقراطيات الحديثة ذات التركيبة الهشة، والسبب أن هذه «القيمة الانسانية» قد تعيش لحظاتها الاخيرة ، يتهددها خطر ما سمي بـ الديمقراطية غير الليبرالية Illeberal Democracy ، والتي تعني ان «القيادات التي وقع انتخابها ديمقراطيا والتي تقوي حكمها إما عبر اعادة انتخابها او عبر الاستفتاء ، كثيرا ما تتجاهل الحدود الدستورية المرسومة لسلطتها وتحرم بالتالي مواطني بلدانها من حقوقهم وحرياتهم» والخطر اليوم أن عدد هذه الديمقراطيات غير الليبرالية يتصاعد ،ولا يكاد ينجو اي بلد من سعيرها، مهما كانت عراقة المؤسسات الدستورية لديه.
استهداف المؤسسات:
في مقال «مابعد الديمقراطية والشعبوية» (2019) يعتبر عالم الاجتماع البريطاني، كولين كروش Colin Crouch ، ان أسوأ لحظة عرفتها الديمقراطية البريطانية في تاريخها كانت يوم 3 نوفمبر 2016 حين نشرت صحيفتان بريطانيتان، معروفتان بميولاتيهما المحافظة، في الصفحة الاولى صورا لثلاثة قضاة من المحكمة العليا تحت عنوانين مثيرين للاستفزاز: « أعداء الشعب» و»القضاة ضد ارادة الشعب» وكان «ذنب» هؤلاء القضاة هو انهم تمسكوا بالشرعية وسيادة القانون حين قالوا «يجب أن يكون للبرلمان رأى حول مغادرة بريطانيا أو بقائها في الاتحاد الأوروبي» ولا يجب الاكتفاء بالاستفتاء» ، واستهداف القضاة المستقلين يعني انه ، عندما يتعلق الأمر بالشعبوية « فان البرلمان ، تماما مثل المحكمة العليا ، هو عدو محتمل لإرادة الشعب».
المفهوم الشعبوي للديمقراطية:
ويرى كولين كراوش ان هناك اليوم مواجهة حاسمة بين مفهومين مختلفين للديمقراطية اليوم : هل هي تلك التي تحمل مفهوما ليبراليا ، أي مجموعة من المؤسسات التي تضمن التعبير عن ارادة الشعب ولكنها تضمن ، في نفس الان، حوارا ونقاشا موسّعا ودائما من أجل تحصينها ضد كل ميولات التسلط، بما فيها تسلط اولئك الذين يتحدثون باسم تلك الارادة ؟ ام انها «الديمقراطية الشعبوية» التي تعني تعبيرة الشعب المباشرة في لحظة ما ، أي في يوم استفتاء، حين تكون الخيارات محدودة و»الارادة ضيّقة»؟ ليختم بالقول إن البلدان التي توصف بأنها «ديمقراطيات مستقرة وناجحة» حسمت الصراع في صالح المفهوم الاول.
ويلتقي كراوش مع الباحث الالماني فيرنر مولر Werner Muller الذي يرى ان الشعبوية «تزعم انها حركة ديمقراطية أو ديمقراطية راديكالية ، لكنها تقف تماما على النقيض منها» من ذلك أنها ترى وجوب تنزيل ارادة الشعب على «أرض الواقع «، وبما انه لاتوجد ارادة مشتركة ومتناسقة لكل الشعب على أرض الواقع ،لذا يجب استخراج «الشعب الحقيقي» الطاهر والمقموع والمجدي والمخلص من عموم المواطنين… ومع البحث عن «الشعب الحقيقي» يبدأ طحن الديمقراطية.
أزمة الديمقراطية؟
الفكرة الأولى التي تراود مخيالنا عند حديثنا عن الديمقراطية ، هي التداول السلمي على السلطة ، وهذا منذ زمن الفيلسوف اليوناني ارسطو ،الذي كتب في «السياسات» انها نظام يمارس من خلاله المواطنون الحكم «على أساس التناوب» ، وهي قاعدة يقتنع من خلالها أفراد شعب ما بانهم ليسوا دائما محكومين، لكن هذه القاعدة اندثرت، اذ من السذاجة اليوم الاعتقاد في وجود تداول ممكن بين الحاكم والمحكوم: اليست هناك دائما حواجز لايمكن اختراقها بين «نحن» الشعب و»هم» الحاكمون /الاحزاب؟ « والادهى ان الضجر وغياب الثقة في إمكانيات تغيير الواقع أصاب الناخبين في مختلف أنحاء العالم ، مما جعل نسبة المشاركة في اي انتخابات تصل الى حدودها الدنيا ، حتى في أعرق الديمقراطيات.
ولكن من الخطأ اعتبار أن الديمقراطية تعيش لحظاتها الاخيرة ، اذ هناك تعبيرات ديمقراطية اخرى ما فتئت تنتشر منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وهي ديمقراطية الشارع أو ديمقراطية الاحتجاج ، ولعل تعبيراتها جاءت في العقد الماضي ، من خلال «احتلال وول ستريت» مرورا بمظاهرات الربيع العربي واحتجاجات اذربيجان سنتي 2011 و2012 ووصولا الى «السترات الصفراء».
ديمقراطية الاحتجاج:
وإن كانت هذه التعبيرات ناتجة عن قدرة الديمقراطية على التأقلم الا انها اظهرت في نفس الوقت عجز الأحزاب السياسية التقليدية على حل الاشكاليات المطروحة ، مما قلّص من عدد منخرطيها ( على سبيل المثال ، انخفض عدد منخرطي الحزب الاشتراكي الفرنسي بحوالي عشر مرات خلال أربع سنوات من 200 ألف الى حوالي 22 ألف) واضعف مصداقيتها ، و دفع بعديد المناضلين والنشطاء الى البحث عن «طرق نضال افقية شاملة وتشاركية» ، «فكل الحركات الاجتماعية رفضت باسم هذه الديمقراطية الافقية ، وجود قيادات ميدانية وتسلسل هرمي وتنسيق بين هذه الحركات والنقابات والأحزاب ، وذلك تفاديا لنزوات «الشخصنة» وميولات الاستبداد بالرأي والبيروقراطية والاستحواذ، كما رفضت الدخول في انتخابات تعتبرها «عالم تسويات مريبة وخدع.» (أنظر عدد لوموند ديبلواتيك (جانفي 2022))، لكن مثلما اشارت الصحيفة الشهرية الفرنسية ، يتحول البحث عن النقاوة في مثل هذه الحالات الى عدم جدوى وتنطفئ جذوة التحركات بعد مدة من اشتعالها، ففي أكتوبر 2011 ، كانت حركة «احتلال وول ستريت» تضمّ ملايين الأشخاص في 952 مدينة عبر 82 دولة ، و»كانت أكبر حركة تعبئة في تاريخ العالم» ، ثم فجأة انطفأت، كما لم تتمكن حركة السترات الصفراء في فرنسا من تحقيق جل مطالبها، رغم تعبئتها غير المسبوقة.
وما يمكن استخلاصه هو ان هذه الحركات الاحتجاجية ، رغم قوتها وسرعة تعبئتها وعلاقاتها الافقية ، فانها غير قادرة لوحدها على بناء مؤسسات مستقرة او تقديم حلول بعيدة المدى لازمات هيكلية اقتصادية واجتماعية، زادتها العولمة النيوليبرالية تعقيدا، فهي في اقصى الحالات قادرة على تحقيق جزء صغير من المطالب أو تغيير بعض القادة السياسيين.
المنطقة العربية:
اما في المنطقة العربية، فان احتجاجات الربيع العربي التي قادتها ،في أغلبها ، حركات عفوية وغير منظمة فهي، وإن نجحت في ازاحة حكام جثموا على انفاس شعوبهم لعقود و وظفوا حكمهم لخدمة مصالحهم ومصالح عائلاتهم ، الا ان النتائج خيّبت الامال نتيجة لعودة الصراعات العرقية والدينية والاحكام العسكرية والازمات الاجتماعية المتتالية،، مما شكك في ضرورة التغيير وافقد الثقة لدى البعض في حاجة المنطقة التي رزحت طوال تاريخها تحت الاستبداد الديني والسياسي والتدخلات الخارجية الى الحرية والعدالة، وهذا ما جعل استاذ القانون الأمريكي والكاتب ، نوح فيلدمان يقول ان «الربيع العربي جعل حياة الشعوب أسوأ مما كانت عليه من قبل».
ومع ذلك ،هل مازال الحلم في الحرية والديمقراطية والعدالة ممكنا؟ رغم الأزمات المتتالية والصعوبات الخارقة، افضل، شخصيا ، ان اكون ، مثل بطل الكاتب الفلسطيني، ايميل حبيبي، «متشائلا «ومتفقا مع خلاصة نوح فيلدمان حيث يكون «الاحتمال الأكبر (في المستقبل القريب) هو استمرار الديكتاتورية ولكن النضال من أجل وضع أفضل يظل حاملا لمعنى عميق» ذلك المعنى الذي يعطي المغزى لوجودنا.
المصدر: جريدة المغرب
Share this Post