مسعود الرمضاني
أذكر ذاك المقال للصحفي المتميّز سيمون تيسدال، الذي صدر في يومية «الغارديان» البريطانية، في بداية شهر اوت الماضي حول تونس، أي أياما قليلة بعد الاجراءات التي اتخذها قيس سعيد والتي بموجبها انفرد بالسلطة بمباركة من شرائح شعبية هامة و احزاب سياسية وبعض قيادات المنظمات الحقوقية المعتبرة ، ومنها حتى تلك التي لها عراقة في الدفاع عن دولة المؤسسات، حمل المقال فكرتين مهمتين احداهما وردت في العنوان : «تونس تؤكد ان الديمقراطية تتعثر حين لا تفضي الى الرفاه» والثانية في المقدمة حين قال ان الضمني دائما لدى الغرب عند مساندة الحركات الديمقراطية في العالم ان الشعوب تسعى تلقائيا الى حرية الاختيار ونظام الانتخابات والحكومات التي تعكس ارادة الاغلبية ، لكن ماذا لوكان هذا الافتراض خاطئا؟ ماذا لو كانت الاغلبية تعتقد ان الديمقراطية لاتنفع ، بل وعديمة الجدوى ؟ مضيفا ان الانقلابات على الحرية السياسية تحدث بمساندة اغلبية الشعب وهو ما سيبهج كل المستبدين في كل مكان، ولئن كانت الفكرة الواردة في العنوان تبدو بديهية اذ منذ سنوات الثورة الاولى تتالت صرخات التنبيه بان شرط نجاح الانتقال مرتبط بتحقيقه العدالة الاجتماعية وانهاء الحيف والقهر الاجتماعي، وان كل اخفاق في ذلك سيعيد الديكتاتورية … إلا أن فكرة مدى استعداد الشعب التونسي للتضحية بحريته السياسية وحقه في تكوين جمعيات واحزاب مستقلة واعتبار الديمقراطية ترفا يمكن الاستغناء عنه تستحق وقفة تأمل…والتأمل يعني، اساسا، الوقوف على (بعض) اسباب نجاح مرحلة الهدم ، أي مسار ديسمبر – جانفي 2011 وصعوبة مرحلة البناء ، أي العشر سنوات الماضية.
التقاء بين طموحات النخب ومطالب الشعب:
قبل انتفاضة الحوض المنجمي (2008) وسيدي بوزيد (2010) عاشت تونس عقودا من الصراع المرير بين نخب (طلابية ، حزبية ، نقابية) تنادي بالحرية والديمقراطية والحقوق وتقارع مبدأ الرئاسة مدى الحياة الذي ارساه بورقيبة وكرسه بن علي بعده، وكانت السجون تمتلئ من حين لآخر بمناضلين من كافة الاتجاهات ، مناضلون عارضوا سلميا النظام السياسي الابوي القائم عبر تحركات سلمية لا تتجاوز نشريات سياسية ومقالات صحفية و تحقيقات اقتصادية حول الفقر ومظاهرات احتجاجية ، ومحاولات تأسيس احزاب مدنية، طيلة هذه العقود، واذا ما استثنينا بعض الانتفاضات التي لا تتجاوز اليوم الواحد والتي تُقمع بالحديد والنار ، كالإضراب العام الذي اقرّه الاتحاد العام التونسي للشغل لأول مرة في تاريخ تونس المستقلة يوم 26 جانفي 1978 أو انتفاضة الخبز في جانفي 1984، فان التحركات الشعبية ظلت نادرة ومحدودة زمنيا ، مما اعطى الانطباع داخليا وخارجيا ، ان الشعب التونسي مرتاح لأوضاعه وان الديمقراطية لا تهم الا نخبه التي تبحث عن رفاه لا يعني عامة الشعب المكتفي «بالحق الانساني في الغذاء المتوفر» ، على حد تعبير جاك شيراك الشهير عند دفاعه على نظام الرئيس بن علي.
أهمية انتفاضة الحوض المنجمي تكمن ، اضافة الى حيزها الزمني الممتد الذي تجاوز الستة اشهر وكشفها لزيف «المعجزة الاقتصادية التونسية» التي عمقت تهميش المناطق الداخلية ، في طابعها الجماهيري الشامل حيث جمعت نقابيين واصحاب شهائد عليا معطلين عن العمل وتجار وحرفيين ونساء وفتيات وربات بيوت ، التقوا حول شعارات بلورتها النخب النقابية والسياسية وهضمها واستجاب لها السكان المحليون، وان انتهت بقمع غير مسبوق الا ان الانتفاضة كانت تدريبا مهما لثورة اتية ، هي بدورها جمعت مزيجا غير مسبوق بين شعارات النخبة والمطالب الشعبية في سمفونية رائعة لم يسبق لتونس ان عرفتها منذ الاستقلال، الثورة التونسية التي انطلقت من سيدي بوزيد في اواخر 2010 ، حملت نفس هذا الزخم، وانتشرت مثل النار في الهشيم في كل المناطق التي تشكو الحيف والفقر ، واثمر المزيج بين مطالب شعبية (التوازن الجهوي و الشغل والعدالة الاجتماعية) واخرى نخبوية (الحرية والديمقراطية والتداول على السلطة) انقلابا في موازين القوة لم تعد السلطة تتمكن من السيطرة على مساره.
في تنكرّ النخب:
وبما ان النخب السياسية هي التي استلمت السلطة بعد انتخابات ديمقراطية ، فقد كان المتوقع ان يستمر هذا التواصل الذي اسس الى مرحلة التحام وثقة لم يعرفها تاريخ تونس الحديث واثمر ثورة الهمت العالم ولكن في كل المراحل الانتخابية فازت احزاب تنكرت لمن انتخبها واستفادت من الحكم ماديا ومعنويا واقتصر مجال اهتماماتها على استدامة حكمها و محاولات السيطرة على اجهزة الدولة لتنعم برخاء السلطة وجاه المناصب، وليس هذا فقط ، بل ان غياب التجربة في الحكم والتجيير ضد كل المهارات والخبرات وغلق باب الحوار مع كل مختلف ، كلها عوامل عجّلت بأضعاف التجربة الحزبية التونسية وسرعت الانقضاض عليها …وكان من نتائجها تكريس قطيعة يصعب رأبها بين النخب (السياسية، خاصة) وبين عامة الشعب، قطيعة تحولت الى عداء مستحكم و احيانا كفرا بالمبادئ التي تأسست عليها الثورة.
الديمقراطية وثقافتها:
ولكن هل نمتلك نحن ثقافة ديمقراطية تؤهلنا للانتقال ؟ سأبدأ بتعميم مستفز ، وهو اننا ، في اغلبنا ، يمينا ويسار وما بينهما ،لا نمتلك تلك الثقافة ، وان علاقاتنا بالآخر المختلف هي علاقة نفور وعداء ورفض ، أي ان عقلية الاستبداد، التي انتفضنا ضدها، تسيطر على جل النخب ، اكانت هذه النخب في السلطة أم في المعارضة أم ايضا في المنظمات التي تدافع عن قيم… وبما ان «فاقد الشئ لا يعطيه» بداهة ، فانه لا يمكننا ان نؤسس لشيء لا نمتلك ادوات بنائه.
و بعبارة اخرى ،ان نجحنا في زحزحة نظام استبدادي منغلق ، فهذا لا يعني اننا كنّا نحمل فكرا نقيضا ، لان ذلك يستوجب جملة من الشروط الاجتماعية والثقافية وحتى التاريخية لتحقيق التحول الذهني الذي يقبل برحابة صدر بتعدد الآراء والتعايش والحق في الاختلاف ، ذاك التحوّل الذي يتخلى نهائيا عن الفكر الاطلاقي والتعميم ويساهم في نشر ثقافة الاحترام والتسامح تجاه الاخر المختلف … هذا لم يتحقق بعد الثورة حيث حورب المختلفون اما من داخل شرنقة الدين أو الايديولوجيا أو المصالح الضيّقة ، وكلها لا يمكن ان تؤسس الا الى انقسام حاد وتحدث شرخا مجتمعيا يصعب علاجه، بل والاخطر انه، في مجتمعات حديثة العهد بالتنوع ، يؤسس الى كفر بكل الافكار الديمقراطية والحداثية.
وللتذكير ، لم تؤسس الافكار الحداثية ، بما فيها الديمقراطية ، بالصدفة أو الفطرة، بل تسربت ثقافة ثورية فككت كل البنى الذهنية القديمة : الدين المتحجر والايديولوجيا المنغلقة والفكر الابوي المتسلط و السلطة السياسية المطلقة والثأر البدائي … وهذا التفكيك واعادة البناء احدثته نخب ثقافية وسياسية واجتماعية عقلانية مستنيرة… اما عندنا فانه في غياب حاضنة شعبية واعية ونخبة سياسية وثقافية ومدنية تحمل القيم الديمقراطية والحرية تظلّ الشعارات فاقدة لكل محتوى وتظل محاولات التسلط تطل برأسها من حين لآخر ويظل المستبد يقتنص الفرصة لينقضّ على ديمقراطية هشّة غير قادرة على حماية ذاتها.
المصدر: جريدة المغرب
Share this Post