صباح اليوم، أصدر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ورقة موقف حول الحوار الوطني، الذي دعا إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في 26 أبريل 2022. ويعتقد مركز القاهرة أن هذا الحوار لا يستهدف الشروع في عملية إصلاح، أو الالتفات لأزمة حقوق الإنسان؛ نظرًا لغياب ضمانات التمثيل العادل للمعارضة في الحوار، وتجاهل السلطات لمطالبها، إلى جانب عدم جدية المبادرات المشابهة التي أعلنت عنها الحكومة سابقًا.
ورغم ترحيب المركز بقرارات العفو الرئاسي عن بعض المسجونين السياسيين؛ إلا أنه يؤكد أنها لا ترقى لتكون علامة على البدء في عملية إصلاح حقيقي، في ظل استمرار احتجاز عشرات الألاف، وتواصل عمليات القبض على العديد منهم. على الجانب الأخر، ونظرًا للسياقات العالمية والمحلية الحالية، خاصة الوضع الاقتصادي في مصر، فإن مركز القاهرة يعتقد أن المسئولية السياسية للمعارضة تحتم عليها استثمار تلك المبادرة، وتحويلها لحوار وطني حقيقي يشمل كافة فئات المجتمع، وصياغة استراتيجيات واقعية وسياسات ملموسة قابلة للتنفيذ، الأمر الذي من شأنه معالجة الأزمات العديدة التي تجابهها مصر اليوم، وتمهيد الطريق للإصلاح.
لتحميل الورقة كبي دي إف هنا
مصر: الحوار الوطني محاولة جديدة لتبييض سجل حقوق الإنسان أم فرصة لانفتاح حقيقي؟
في 26 أبريل 2022، وأثناء حفل إفطار الأسرة المصرية، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي عن إطلاق حوار وطني بين القوى السياسية؛ بهدف مناقشة أولويات العمل الوطني في المرحلة المقبلة. إلا أن طبيعة القرارات أحادية الجانب التي أعلنتها السلطات المصرية استعدادًا لهذا الحوار، وفي ظل حقيقة أن المبادرات المماثلة السابقة لم تسفر عن تغييرات ملموسة في السياسة أو في التطبيق؛ يعتقد مركز القاهرة أن هذا الحوار الوطني ربما لا يهدف لإفساح المجال لانفتاح سياسي حقيقي، ولا للتخفيف من أزمة حقوق الإنسان الحالية في مصر، قدر ما يسعى لحفظ ماء الوجه. لكن السياق الدولي الحالي، والأزمة الاقتصادية في مصر، يمنحان المعارضة السياسية المصرية فرصة للتأثير على مسار هذا الحوار، وتوجيهه لتحقيق إصلاح ذي تأثير. الأمر الذي يستلزم من المعارضة المصرية تركيز اهتمامها الرئيسي على تطوير خارطة طريق لإصلاحات اقتصادية وسياسية حقيقية ملموسة بصرف النظر عما تحظى به من تمثيل غير متكافئ في الحوار.
خلفية عن مبادرات مماثلة من قبل الحكومة المصرية
تعد دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي للحوار الوطني المبادرة الأحدث في سلسلة من المناورات المماثلة التي نفذتها السلطات المصرية في السنوات الأخيرة، والتي تهدف، ظاهريًا، لمعالجة الأزمة السياسية وأزمة حقوق الإنسان في مصر. ففي نوفمبر 2018، شكّل مجلس الوزراء اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان، والتي أشاد مسئولون مصريون بتشكيلها، معتبرين أنها بمثابة مؤشر على التزام الحكومة المصرية بتحسين أوضاع حقوق الإنسان. إلا أن تبعية اللجنة لوزارة الخارجية، كان إحدى العلامات العديدة، التي تعكس انحسار دور هذه اللجنة في مخاطبة المجتمع الدولي بالأساس.
في سبتمبر 2021، أصدرت هذه اللجنة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، والتي قُدمت للمجتمع الدولي باعتبارها مؤشرًا آخر على تغيير نهج السلطات المصرية إزاء حقوق الإنسان. ورغم الأدلة الواضحة على غياب الإرادة السياسية لمعالجة وضع حقوق الإنسان، إلى جانب المقاربة الإشكالية التي تبنتها الاستراتيجية في توصيف أزمة حقوق الإنسان في مصر، احتفت بالاستراتيجية بعض الشخصيات العامة، والعديد من المسئولين الغربيين (وحتى بعض هيئات الأمم المتحدة)، باعتبارها مؤشرًا على تغير حقيقي في سياسة الحكومة المصرية. وفي الوقت نفسه، روجت مبادرات أخرى، مثل تشكيل مجموعة الحوار الدولي، وإعادة تشكيل المجلس القومي المصري لحقوق الإنسان لتغير محتمل في المسار.
في نهاية المطاف، لم تؤد هذه المبادرات والمجموعات واللجان على مدى السنوات الماضية لتخفيف حدة أزمة حقوق الإنسان المتدهورة في مصر؛ إذ لا يزال عشرات الآلاف من السجناء السياسيين يقبعون في السجون (سواء تنفيذًا لأحكام قضائية جائرة، أو دون محاكمة أو تحقيق)، وتستمر وقائع الإخفاء القسري، والتعذيب، والقتل خارج نطاق القانون في ظل تفشي الإفلات من العقاب. كما يتواصل استهداف المعارضة السلمية والمجتمع المدني المستقل والإعلام الحر. ورغم إطلاق سراح عدد محدود من السجناء السياسيين تزامنًا مع الإعلان عن كل مبادرة؛ يتواصل اعتقال معارضين وصحفيين وحقوقيين جدد بشكل منتظم، ليحلوا محل المفرج عنهم.
الدعوة للحوار الوطني
بشكل عام، تتشابه الدعوة للحوار الوطني مع غيرها من المبادرات السابقة، إلا أن السياق الدولي والمحلي المتزامن مع هذا الحوار، ربما يوفر له فرصًا مختلفة نوعًا ما.
على غرار اللجنة الدائمة في 2018، والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في 2021، لم تعكس الدعوة للحوار الوطني تغيرًا حقيقيًا في نهج السلطات إزاء أزمة حقوق الإنسان الحالية. بعد الدعوة مباشرة، تقرر إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي،[1] وشهدت الأسابيع التالية، العفو عن 6 سجناء سياسيين، كما أمرت محاكم الإرهاب منذ شهر أبريل باخلاء سبيل 417 آخرين (لم يتم إسقاط القضايا المرفوعة ضدهم). لكن في المقابل، وفي الفترة نفسها، جددت المحاكم حبس ما لا يقل عن 4432 سجينًا سياسيًا (إضافة إلى أولئك الذين جددت النيابة احتجازهم)، فضلاً عن الاعتقالات الجديدة، بما في ذلك صحفيين على الأقل. كما صرح عضو بلجنة العفو الرئاسي أن بعض الأشخاص في الأجهزة الأمنية يحاولون إفشال مساعي العفو عن السجناء، مضيفًا أنهم في الواقع يفضلون أن «يحبسونا كلنا».
في السياق نفسه، وبعد أسابيع قليلة من الإعلان عن الدعوة للحوار الوطني، صدر الحكم على السياسيين عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص، القياديين في حزب سياسي مسجل، بالسجن لمدة 15 و 10 سنوات على التوالي، بعدما امتد احتجازهما الاحتياطي 4 سنوات، والحكم على الباحث أحمد سمير سنطاوي بالسجن لمدة ٣ سنوات. وأغلقت السلطات على عجل التحقيق في واقعة تعرض الباحث الاقتصادي أيمن هدهود للتعذيب حتى الموت أثناء احتجازه لدى الشرطة، على نحو يضمن إفلات قاتليه من العقاب. ويستمر الناشط الديمقراطي البارز علاء عبد الفتاح، والذي قضى معظم السنوات العشر الماضية خلف القضبان، في إضرابه عن الطعام (لما يتجاوز 100 يومًا) للمطالبة بحقوقه الأساسية المكفولة بموجب لائحة السجون المصرية، بينما ترفض السلطات والمجلس القومي لحقوق الإنسان الاعتراف بمطالبه، أو حتى مجرد الاعتراف بإضرابه أو زيارته.
هذا القمع الذي لم يهدأ هو مؤشر أكثر من كافٍ على أن الحوار الوطني لا يُقصد به معالجة أزمة حقوق الإنسان. والأكثر دلالة، أن طريقة الاستعداد للحوار تؤكد بشكل قاطع أن السلطات المصرية تفتقر للإرادة السياسية للشروع في انفتاح سياسي ذي مغزى. فبينما أنضم بالتوقيع أكثر من 700 فردًا، بينهم عشرات المدافعين عن حقوق الإنسان والشخصيات العامة، إلى عريضة تضم مجموعة من المطالب ذات الصلة بحقوق الإنسان بالتزامن مع الدعوة للحوار الوطني، تجاهلت السلطات المصرية الرد على هذه المطالب، ولم تعترف بها ولا بغيرها، بما في ذلك المطالب؛ بـالإفراج عن سجناء الرأي، ووقف عقوبة الإعدام، وإنهاء الاعتقال التعسفي وإساءة استخدام الحبس الاحتياطي.
وبالمثل، لم تستجب السلطات المصرية لقائمة المطالب التي قدمها أعضاء الحركة المدنية الديمقراطية إثر الإعلان عن الدعوة للحوار الوطني لضمان جديته، وتضمنت؛
- أن يكون الحوار تحت رعاية رئاسة الجمهورية.
- تشكيل مجلس أمناء من 10 أعضاء لوضع أجندة الحوار وصياغة مخرجاته. على أن يتم اختيار نصف أعضائه من جانب الحكومة والنصف الآخر من جانب المعارضة.
- أن يغطي الحوار موضوعات؛ الإصلاح السياسي والتحول الديموقراطي، الإصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، الإصلاح التشريعي والمؤسسي، حقوق الإنسان، الأمن القومي والمصالحة الوطنية، المواطنة ومكافحة التمييز.
بل على العكس، شرعت السلطات في إملاء كيفية تنفيذ الحوار الوطني من جانب واحد. وبدلًا من عقد الحوار برعاية رئاسة الجمهورية؛ تم تكليف الأكاديمية الوطنية للتدريب بتنظيمه، وهي خطوة رفضها بعض أعضاء الحركة المدنية الديمقراطية. كما أُعلن من جانب واحد عن اختيار ضياء رشوان، رئيس نقابة الصحفيين الموالي للحكومة ورئيس الهيئة العامة للاستعلامات،[2] كمنسق عام للحوار. وتشاور رشوان «مع القوى السياسية والنقابية» لاختيار مجلس أمناء من 19 عضوًا لإدارة الحوار، متجاهلًا مطلب المعارضة بضمان تمثيلها العادل.
وفي تجاهل تام للموضوعات التي اقترحتها المعارضة للحوار (والتي تضمنت حقوق الإنسان والمواطنة والإصلاح)، أعلنت اللجنة التنظيمية للحوار أن جدول الأعمال سيركز على ثلاثة محاور رئيسية؛ «محور سياسي، ومحور اقتصادي ومحور اجتماعي». ولم يقتصر الأمر على هذا التحديد الغامض الصياغة للمحاور، ورفض تضمين قضايا الإصلاح وحقوق الإنسان والمواطنة التي اقترحتها الحركة المدنية الديمقراطية؛ لكن تم الإعلان عن هذه المحاور من جانب واحد، دون تفسير لجدوى اختيارها وطبيعة الموضوعات التي يشملها كل محور. كما تلقت وسائل الإعلام تعليمات من الأجهزة الأمنية بعدم استضافة شخصيات معينة من المعارضة في برامجها أو تغطية أخبارها وبياناتها، بسبب انتقادات هذه الشخصيات لإجراءات تنظيم الحوار.[3]
هذه المؤشرات جميعها تشير إلى أن هذا الحوار الوطني هو مبادرة أخرى غير صادقة، تهدف إسميًا إلى الترويج لانفتاح سياسي. لكن هذا لا ينفي وجود مُلابسات أخرى قد ترجح اختلاف هذه المبادرة عن سابقاتها، وتعزز من قدرتها على الدفع بعملية الإصلاح؛ إذا تم التعامل معها بشكل صحيح.
الفرص المحتملة ومسئولية المعارضة السياسية
كانت المبادرات السابقة تهدف لاحتواء وتخفيف الضغط المحلي والدولي، فيما يتعلق بسجل حقوق الإنسان في مصر، إلا أن العامل الدولي كان دائمًا الأكثر أهمية. ولكن على عكس المرات السابقة، يبدو أن تخفيف الضغوط الداخلية، هو السبب الرئيسي وراء الدعوة إلى الحوار الوطني هذه المرة.
بين آثار كوفيد-19 والتأثير المدمر المحتمل للغزو الروسي لأوكرانيا على الاقتصاد العالمي، يبدو أن الاقتصاد المصري عرضة للانهيار. إذ أن سوء الإدارة، والفساد، والافتقار للشفافية، والقرارات الاستراتيجية أحادية التوجه والمنفردة، تركت الاقتصاد في وضع أكثر تأثرًا بالصدمات الخارجية، وخاصة تلك التي بحجم حرب روسيا في أوكرانيا. فمصر لا تستورد فقط 80٪ من قمحها من روسيا وأوكرانيا ؛ بل تعاني تضخم مرتفع وخطير، خاصةً في قطاعي الغذاء والطاقة. والأكثر خطورة أن الاقتصاد المصري اعتمد، على مدار السنوات الثمان الأخيرة، بشكل كبير على الاقتراض؛ فتضاعفت الديون الخارجية لتصل إلى 145.5 مليار دولار عام 2022، مقابل 41.7 مليار دولار عام 2021. ومن المرجح أن تتدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية في مصر، وقد تنهار بشكل حاد، بعد قرابة عقد من التدهور في مستوى المعيشة، جعل 60 ٪ من المصريين إما يعيشون في فقر أو عُرضة له، مع الأخذ في الاعتبار التضخم وتكلفة الاقتراض المتزايدة.
ورغم أن التطورات الخارجية الصادمة والمتلاحقة قد تكون مفاجئة، إلا أن ضعف قدرة الاقتصاد المصري وعجزه عن مواجهتها أمر متوقع، وربما حتمي، بسبب السياسات الاقتصادية التي صاغتها السلطات من جانب واحد.
في هذه المرحلة، يصبح المزيد من التدهور في مستويات معيشة المصريين أمرًا حتميًا، وهو ما قد يبرر توقيت إطلاق الرئيس السيسي دعوته للحوار الوطني. لكنه يجعل المعارضة السياسية، التي تم تهميشها تمامًا عن عملية صنع القرار على مدار العقد الماضي، أمام خيار وحيد؛ هو تحقيق التوازن.
فمن ناحية، من المرجح أن يؤدي القبول بتمثيل شكلي في هذا الحوار، في ظل عدم وجود ضمانات بالمشاركة الجادة أو الاشتراك في عمليات صنع القرار، إلى تحول الحوار الوطني إلى مبادرة دعائية أخرى. الأمر الذي لن يتسبب فقط في إضاعة الفرصة؛ بل ربما يؤدي لتفاقم التقلبات السياسية الحالية وتداعياتها على أرض الواقع، ويقوض من مصداقية المعارضة. ومن ناحية أخرى، تُملي المسئولية السياسية على المعارضة إدراك أهمية اللحظة الحالية واغتنام الفرصة. فلا يمكن اختزال الحوار الوطني في مجرد الإفراج- المُرحب به- عن عدد محدود من السجناء السياسيين، أو في الحديث بشكل عام عن إصلاح اقتصادي وسياسي، والشعارات الكبرى المثالية لمعالجة حالة حقوق الإنسان، إذ يتطلب الأمر صياغة استراتيجيات واقعية وسياسات ملموسة قابلة للتنفيذ من شأنها معالجة الأزمات العديدة التي تواجهها مصر اليوم، على نحو يمهد الطريق للإصلاح.
وتعد ضمانات التمثيل المتكافئ للمعارضة والشفافية في هذا الحوار خطوة أولى لمعالجة العوامل التي أدت إلى الأزمة الحالية وتجنبها في نهاية المطاف. ولكن إذا لم يُتاح للمعارضة ذلك، فمسئولياتها التاريخية تستوجب منها في كل الأحوال تحويل الحوار الحالي إلى منصة لحوار وطني حقيقي مع المجتمع ككل حول سبل النجاة من الكارثة الوشيكة.
[1] لجنة مكلفة بتقديم أسماء المعتقلين السياسيين إلى رئيس الجمهورية لنيل العفو.
[2] هيئة مكلفة في المقام الأول بنقل ردود الحكومة إلى الصحفيين الأجانب.
[3] جاءت التعليمات من خلال الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، المملوكة للمخابرات المصرية.
Share this Post