أكد عدد من المثقفين والسياسيين أن التيار الليبرالي في مصر بحاجة ماسة إلى تبني استراتيجيات جديدة، تمكنه من أن يضطلع بدور التيار الرئيسي في المجتمع، مشيرين إلى أن الظروف الدولية مواتية لتحقيق هذا الهدف، وأن ما يعطل تحقيقه هو العيوب التي تعاني منها الأحزاب الليبرالية، ومن بينها الصراعات وعدم توجهها إلى الجماهير، إضافة إلى المناخ العام السائد في البلاد نتيجة سياسات الحزب الوطني الحاكم.
وتساءل بهي الدين حسن في ندوة نظمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في إطار صالون بن رشد حول “مستقبل التيار الليبرالي في مصر” عما إذا كان هناك مستقبل للتيار الليبرالي في مصر أم أن المستقبل لتيارات أخري؟ وعن المعوقات أمام تطوير أداء هذا التيار، وموقفه من التحالف مع قوي سياسية أخري كجماعة الإخوان المسلمين ؟
وبدأ محمود أباظة رئيس حزب الوفد حديثه بنظرة تاريخية علي أوضاع الحياة السياسية في مصر منذ القرن الماضي، وسيطرة ثلاث تيارات علي المشهد فيها وهي التيار الليبرالي والسلفي والاشتراكي، وقال أن العلاقات بين مكونات التيارات الثلاثة كانت مختلفة بين فترة وأخري ومتفاوتة بين التعاون والتنافس والعداوة، مشيرا إلى أن التيارات الثلاثة ظلت هي الرئيسية في مصر حتى خلال تجربة الحزب الواحد وحتى الآن، لافتا إلى أن التيار القومي كان مشتركا في التيارات الثلاثة، واعتبر أباظة أن ثورة 1919 صاغت مجريات الحركة الوطنية المصرية وحددت لها قضايا رئيسية لازالت قائمة حتى الآن مثل قضايا الاستقلال والوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية، موضحا أن هذه القضايا لا زالت مكونة لنفس التحديات التي تواجه المجتمع المصري حتى الآن.
انتقل أباظة بالحديث إلى تناول علاقة التيار الليبرالي بالتيارات الأخرى، وقال أن التيار الليبرالي يتفق مع التيار اليساري في رسم الملعب السياسي، حيث لم يعد هناك في التيار الرئيسي في اليسار المصري من يشكك في التعددية أو يرفض فكرة الديمقراطية والانتخابات والحريات العامة وحقوق الإنسان، وهو ما لم يكن موجودا قبل نحو أربعة عقود، مشيرا إلى أنه قد تكون هناك اختلافات بين التيارين حول شكل الاقتصاد وبعض الوسائل التي تقود إلى تحقيق عدالة اجتماعية، في ظل اقتصاد فعال.
وأضاف أن التيار الليبرالي يختلف مع التيار السلفي حول عدة قضايا جوهرية، مثل الموقف من المواطنة والديمقراطية، مؤكدا أن “السلفي” يتبني نظرة تقوم علي الوصاية ووجود مرجعية أعلي من إرادة الأمة، لكنه شدد في الوقت نفسه علي ضرورة طرح الخلاف حول هذه القضايا علي طاولة البحث، حيث أن تجاهل طرحها لن يفيد مصر أو التيار السلفي – وفي القلب منه جماعة الإخوان المسلمين – أو التيارات الأخرى، منتقدا التناقض بين الموقف الرسمي القائم علي الحظر القانوني لجماعة الإخوان، وفي نفس الوقت وجود 88 نائبا لها في البرلمان، إضافة إلى ممارسة قياداتها للعمل السياسي.
ورفض أباظة القول بأن الديمقراطية ليست القضية الرئيسية لدي الشعب المصري، مشيرا إلى وجود العديد من الشواهد التي تنفي ذلك، مدللا علي ذلك باهتمامات الشباب علي شبكة الإنترنت والمركزة علي مطالب الحرية وحقوق التعبير والتفكير، مشيرا إلى أن الشعب المصري عاني من الشمولية لسنوات طويلة وكانت مكلفة بالنسبة له بحيث لم تعد هناك إمكانية أن يقبل عليها مختارا، كما أنه لم يعد هناك بديل مقبول لفكرة الديمقراطية والتعددية والحوار وتداول السلطة.
ووصف أباظة ما يحدث من التيار الليبرالي وغيره من التيارات بأنه كالزحام الشديد في ميدان عام دون أن يلتفت أحد لآلات التنبيه التي تحملها هذه التيارات، في ظل تعدد الجهات الاحتجاجية والمطلبية، ما يجعل الجميع يدور في حلقة مفرغة تؤدي إلى انسداد في الحياة السياسية، إضافة إلى الحديث عن التعددية السياسية دون أن يكون لذلك أثر أو تطبيق في الواقع.
كما قال أباظة: “نحن نعيش أزمة ذات أبعاد ثلاثة حيث الحنين إلى ماض لن يعود والضيق بحاضر صعب والخوف من مستقبل مجهول”.
إشكاليات وانجازات
الدكتور/ عبد المنعم سعيد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بدأ حديثه بالإشارة إلى ما أحدثه التيار الليبرالي من آثار وانجازات في الحياة المصرية، ودوره في إنشاء مؤسسات حقوق الإنسان، ووضع قضية المجتمع المدني علي قمة أولويات المجتمع المصري منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وقال سعيد أنه من بين 180 دولة أعضاء بالأمم المتحدة توجد 89 دولة ليبرالية، وهي الدول الأكثر رخاء علي مستوي العالم، كما أنها الأغنى اقتصاديا والأكثر تطورا علي المستويات التكنولوجية والفنية والرياضية، كما أنها الأكثر قدرة علي نقد الذات وتصحيح أخطائها، مؤكدا أنه إذا كان هناك تقدم للبشرية فهو مرتبط بالتيار الليبرالي، وأن الدول التي تبنت الأفكار الاشتراكية أو الدينية والقومية لم تثبت قدرة علي انجاز الرخاء لمجتمعاتها.
وقال سعيد أن مصر مرت بفترة ليبرالية قبل عام 1952، وأن حزب الوفد عليه أن يسأل نفسه عن أسباب انهيار تلك الفترة بالسهولة التي حدثت بها مع ثورة يوليو 52، مشيرا إلى أن بلاد العالم العربي والإسلامي تواجه مشكلة أعمق من موضوع الانتخابات وتداول السلطة، وتتعلق بعدم قدرتها علي حل الإشكاليات الخاصة بالعلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، وأن الليبرالية فكرة أكبر وهي حاضنة للديمقراطية التي تمثل آلية ونظاما لتداول السلطة سلميا، مضيفا أن الإشكالية الثانية تتمثل في العلاقة بين الدين والدولة، مشيرا إلى أنه في الدولة المدنية الحديثة لا توجد مرجعية غير الدستور.
وتابع سعيد الحديث قائلاً أن غالبية التيار الليبرالي “تدمن” فكرة الجمهورية البرلمانية مطالبا بتبني فكرة الجمهورية الديمقراطية لحل إشكاليات الجمهورية البرلمانية، مشيرا إلى وجود إشكاليات أخري تواجه العالم العربي والإسلامي كالخلط بين الدولة والحكومة، والعلاقة بين التنمية والأمن، وكذلك العلاقة بين الزعامة والإمارة.
كما دعا سعيد الأحزاب الليبرالية إلى التركيز علي الجماهير في خطابها، والتوجه إليها وأن يعي الخطاب الليبرالي في مصر أنه يتوجه إلى فئات وأقاليم جغرافية ومكونات اجتماعية مختلفة ومتباينة في درجات التنمية والثقافة والتعليم، مؤكدا علي ضرورة التركيز علي مخاطبة الطبقة الوسطي باعتبارها الحاملة للفكر الليبرالي والحلقة الدافعة له، مشيرا إلى أن الطبقة البيروقراطية لا زالت هي الرئيسية داخل الحزب الوطني. ودعا سعيد إلى خلق تكتل ونقاش صريح بين الأحزاب الليبرالية الثلاثة في مصر، لافتا إلى أنه لا يمكن تصور مستقبل للنظام الليبرالي دون وجود اقتصاد سوق حقيقي والتزام بحقوق الإنسان.
خطاب الجماهير
عبد الغفار شكر القيادي بحزب التجمع التقدمي لفت في بداية حديثه إلى تجاهل الدكتور أباظة الإشارة إلى مسؤولية حزب الوفد عن غياب توجه رئيسي في الحياة السياسية في فترة ما قبل الثورة، وتجاهل الدكتور عبد المنعم سعيد الإشارة إلى مسؤولية الحزب الوطني عن الأوضاع الراهنة في البلاد، والتي لا توجد فيها فرصة لنمو التيار الليبرالي وتحوله إلى تيار رئيسي في المجتمع المصري، رغم الظروف الدولية المواتية لذلك النمو، وقال شكر أن الحزب الوطني ولجنة السياسات به يلجمون أية محاولة لتحقيق الإصلاح السياسي في البلاد، إضافة إلى مسؤولية الأحزاب الليبرالية الغد والوفد والجبهة.
وقد أكد شكر أن تاريخ مصر هو تاريخ للتطور الرأسمالي المجهض، مشيرا إلى الفارق الكبير بين أداء حزب الوفد ما قبل ثورة يوليو وأداء حزب الوفد الآن، حيث لجأ مصطفي النحاس إلى الجماهير عند تعطيل دستور 1923 فيما لا يتوجه وفد اليوم إلى الناس عند طرحه قضاياه، ودعا شكر الأحزاب الليبرالية إلى أن تقدم نفسها للجماهير كنماذج للأحزاب الديمقراطية، مشيرا إلى أن أحزاب الغد والوفد والجبهة واجهت صراعات داخلية وصلت إلى حد إطلاق الرصاص وحرق المقرات، وقال أن علي هذه الأحزاب أن تكتشف لنفسها مساحة في العمل السياسي تتقدم بها ومن خلالها للناس، مشيرا إلى أن تلك الأحزاب فشلت في أن تكسب لنفسها الحاضن الاجتماعي للرأسمالية وهم رجال الأعمال، فيما تخضع الغالبية من الطبقة الوسطي لنفوذ جماعة الإخوان المسلمين.
وأضاف شكر أن المجتمع المدني هو أساس أي تطور ديمقراطي وأن علي الأحزاب الليبرالية أن تعمل علي تطويره واستقلاله عن الحكومة، وأن تسعي إلى تبني قضية كبيرة كالدعوة إلى إصدار دستور جديد واستقلال النقابات المهنية، مطالبا بالعمل علي امتلاك نظام تعليمي عصري وفعال ويشيع القيم الجديدة كالعقلانية والحوار والاعتراف بالآخر، وقال أن هناك إمكانية لمبادرات نشاط سياسي جماهيري في وقت حدوثها كتبني موضوع أصحاب المعاشات علي سبيل المثال.