أسرار بن جويرة
نسوية ومنسقة برنامج التعليم بمركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان ورئيسة جمعية تقاطع من أجل الحقوق والحرياتمثّل دستور 2014 ثورة في العالم العربي لما تضمنه من فصول تقدمية تدستر للحقوق والحريات بشكل عام، ولحقوق المرأة بشكل خاص، وبغض النظر عن التركيبة السياسية للمجلس التأسيسي آنذاك، فقد كان دستور 2014 ثمرة نضالات منظمات وأحزاب تقدمية التي كانت تسعى لإرساء دولة مدنية قائمة على المساواة التامة والفعلية بين النساء والرجال. وقد عملت الحركة النسوية منذ بداية كتابة الدستور في 2012 على المناصرة من أجل تضمين المساواة فأصدرت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات مثلًا كتيّب تحت عنوان “دستور المواطنة والمساواة من خلال عيون النساء” ساعين إلى الضغط على السلطة التشريعية لعدم نسيان أو تناسي المساواة وتضمين حقوق النساء بالدستور.
ثم صدر دستور 2014 ونص على المساواة وعدم التمييز في الحقوق والواجبات في الفصل 21، كما اقتضى الفصل 40 أن “العمل حق لكل مواطن ومواطنة” وتعهدت الدولة بضمان المساواة في الأجر ثم أكّد الفصل 41 على عدم التراجع على الحقوق المكتسبة للنساء وضمان التناصف في المجالس المنتخبة وإلتزام الدولة بالقضاء على العنف المسلّط على النساء، واغتنمت النسويات والمنظمات المدافعة على حقوق النساء هذه الامتيازات الدستورية واعتبرنها بداية ثورة تشريعية لصالح النساء في تونس وبدأن نضالاتهن من أجل تفعيل فصول الدستور وملائمته مع القوانين، وحققن انتصارات مهمة في هذا الشأن؛ فمن ثمرة هذه النضالات: صدور القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 مؤرخ في 11 أوت/أغسطس/آب 2017 يتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، وسحب الأمر الترتيبي الذي يعود إلى 1973 ويمنع زواج التونسية المسلمة من غير المسلم، وقد حدث كلّ هذا في ظلّ هيمنة حركة النهضة في الفترة من 2014 وحتى انتخابات 2019، وهو حزب محافظ إسلامي الايديولوجية.
إلاّ أن هامش هذه الحرّية بدأ يتقلص بظهور تيارات فاشية وإسلامية وشعبوية معادية للحقوق والحريات فقد مثّل برلمان 2019 كابوسًا جاثمًا على صدور الأحزاب والمنظمات الديمقراطية والنساء بشكل عامّ والحركة النسوية بشكل خاصّ، مكبلًا لحرياتهم ومحقرًا من مكانة المرأة، والدليل على ذلك المشاهد التي رأيناها تقريبًا يوميًا في أروقة البرلمان وعلى مدارجه، من شتم ولكم وضرب لنائبات فقط لأنهن نساء اختلفن عن الرجال في الموقف.
رئيس الشباب عدوّ الشابات
مثّلت شخصيّة رئيس الجمهورية بصفته، تهديدًا حقيقيًا على حقوق النساء من خلال تصريحاته المعادية للمساواة والحريات. وبالرغم من أنه قد لٌقب ب”رئيس الشباب” منذ فوزه في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية بأصوات تجاوزت 76 بالمئة على نظيره نبيل القروي، حيث أن 90 بالمئة من منتخبيه من الفئة العمرية ما بين 18 و25 سنة وفق استطلاع رأي أجرته مؤسسة “سيغما كونساي”. إلاّ أنّ “قيس سعيّد” ونظيره في الدور الثاني “نبيل القروي” لم يرضيا الشابات وخاصة منهن النسويات فأطلقن حملة إلكترونية من أجل مقاطعة الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية تحت شعار “لا قطعي لا رجعي” قاصدات قيس سعيّد بالرجعي نظرا لخطاباته الرافضة للمساواة والحريات والمبررة بمرجعية دينية منذ ظهوره في الساحة السياسية وإعلانه الترشح للانتخابات الرئاسية، وقاصدات نبيل القروي بالقطعي، والقطعي هي كلمة عاميّة تونسية تعني قاطع طريق أيّ سارق، فقد تورّط نبيل القروي في العديد من قضايا الفساد وكان رمزًا للمال السياسي.
فاز قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية، وأصبح الرئيس السادس للجمهورية التونسية، ولكنه بقي رئيس دون صلاحيات واسعة حسب ما يتضمنه الدستور آنذاك إذ وضع دستور 2014 السلطة التنفيذية في يدّ رئاسة الحكومة والتشريعية في يدّ البرلمان، إلاّ أن قيس سعيّد لم يتوانى بمحدودية صلاحياته على إيذاء النساء والاستنقاص من نضالاتهن معتبرًا أنّ قضايهن قضايا زائفة مقسّما بذلك النساء في الظهور الاعلامي الذي زار فيه نساء عاملات بالقطاع الفلاحي/الزراعي بأحد ضيعات مدينة جندوبة بالشمال الغربي من البلاد بمناسبة العيد الوطني للمرأة 13 أوت/آب/أغسطس 2020 والذي صرّح فيه أن القضية الحقيقية للنساء هي قضية تنظيم قطاع العمل الفلاحي/الزراعي، لا قضية المساواة في الميراث، واستنادًا إلى طبيعة خطابه، تعتبر الحركة النسوية أن قيس سعيّد يحمل خطابًا فاشيًا رجعيًا غير مؤمن بالمساواة ويزرع الانقسام بين النساء.
نموذج المرأة المثالية في عيني الرئيس
في 25 يوليو/تموز 2021، أصدر الرئيس قيس سعيد أمرًا رئاسيًا استنادًا إلى الفصل 80 من دستور 2014، أقال فيه حكومة هشام المشيشي وجمّد إختصاصات مجلس النواب لأجل غير مسمى. فزادت مخاوف الحركة النسوية على الحقوق المكتسبة واستشعرن الدكتاتورية تطرق الأبواب خاصّة وأن الاستناد على الفصل 80 لم يستكمل أركانه القانونية والدستورية لغياب المحكمة الدستورية وعدم استشارة رئيس البرلمان.
كان خوف الحركة النسوية مبني على تصريحات ومواقف الرئيس قيس سعيّد فيما يخص قضيّة المساواة والحريات والآن فقد أصبحت في يده السلطتين التنفيذية والتشريعية بالتالي هو قادر على إرساء قوانين جديدة وتغيير قوانين أخرى استنادًا على المرسوم 117 الذي يعطيه هذه الصلاحيات.
ولتبديد تلك المخاوف، عمد قيس سعيّد إلى إرسال رسائل طمأنة زائفة للنساء والنسويات، ففي سبتمبر/أيلول 2021 عيّن نجلاء بودن أوّل رئيسة حكومة في تاريخ تونس والعالم العربي، التي بدورها شكلت حكومة متناصفة أيّ 50% من الوزراء نساء و50% رجال. رسالة هلل لها التونسيون والتونسيات، وأحدث هذا التعيين جدلًا واسعًا بين النسويات فرحبت بعضهن والبعض الآخر من النسويات تفطن إلى زيف الرسالة واعتبرته تلاعبًا من الرئيس.
بغض النظر عن أداء نجلاء بودن وحكومتها في تسيير أعمال الدولة، فقد وقعت في فخّ التسويق لصورة مهينة للنساء وزيادة تعميق الأبوية، فقد تعمّدت صفحة رئاسة الجمهورية التونسية نشر فيديوهات توضح الرئيس وهو يصدر الأوامر ورئيسة الحكومة تهز رأسها مؤيدة لكل كلامه دون نطق، وكأن قيس سعيّد يريد أن يمرر من خلال ذلك المشهد الرسالة الحقيقية من وراء تعيين نجلاء بودن، فالمرأة عنده مهما بلغت من المراتب تبقى مكملة للرجل مقتادة به، وهو ما جعلها دون المستوى فيما يخص الدور القيادي للنساء التونسيات.
نساء ضد الاستفتاء
والأمر ليس غريبًا على قيس سعيّد، فقد أعلن عن كل نواياه في برنامجه الانتخابيّ، وقد مضى قٌدمًا في تطبيقه منذ أن أطاح بالجمهورية الثانية وكان لزامًا عليه أن يجد لنواياه مرتكزًا قانونيًا بعد سقوط دستور 2014 فأنشأ لجنة متكونة من أساتذة قانون دستوري وشخصيات سياسية حيث قاموا بصياغة واقتراح دستور للجمهورية الثالثة وقدموه له، فعدّل فيه أيما تعديل ليتلاءم مع قناعاته وبرنامجه الانتخابيّ، مما أثار حفيظة أساتذة القانون الدستوري الذين اعتمد عليهم في الصياغة واعتبروا أن رئيس الجمهورية قد تلاعب بهم لتغليف دكتاتوريته بمشهد يوحي بالديمقراطية وأصدر الصادق بلعيد وأمين محفوظ بيانهما الذي تبرآ فيه من الدستور الجديد ولكن رئيس الجمهورية عدّل بعد ذلك الدستور تعديلًا طفيفًا بمثابة ذرّ الرماد على العيون وأعلن انطلاق الاستفتاء.
فحاولت مجموعة من النسويات إيقاف موجة الدكتاتورية الجارفة وأطلقن حملة إلكترونية وبرمجن تحركات ميدانية رافضة لدستور قيس سعيّد ورافضة للاستفتاء الشعبي بعنوان “نساء ضدّ الاستفتاء” حيث عبرت هذه المجموعة عن رفضها للتراجعات على الامتيازات التي تمتعن بها وتضمنها الدستور القديم (دستور 2014)، واعتبرن أن الخطر الحقيقي في دستور الجمهورية الثالثة هو استناده إلى مرجعية مقاصد الإسلام الحنيف وأنّ تعويض “التزام” الدولة بحماية حقوق المرأة وضمان التناصف (أيّ نصف نساء ونصف رجال مثلا في القائمات الانتخابية لضمان وجود تمثيلية المرأة في المجالس المنتخبة)، لتصبح “تسعى” أو “تعمل” الدولة لضمان هذه الحقوق، هو تخل فعليًا عن التناصف والمساواة وهو من باب الإقصاء للنساء وعدم الاعتراف بحقوقهن.
كل الحركات الرافضة والمعارضة لمسار 25 جويلية 2021، لم تمنع قيس سعيّد من إنفاذ رغبته فمضت الجمهورية التونسية إلى الاستفتاء يوم 25 جويلية 2022 الذي شارك فيه 2,830,094 من جملة 9,278,541 ناخب/ة بالرغم من تفعيل قيس سعيّد لتقنية التسجيل الآلي في السجل الانتخابي ضاربة حرية الاختيار في المشاركة وحماية المعطيات الشخصية للأفراد عرض الحائط، ليدخل فعليًا هذا الدستور بكل مخاطره على حقوق النساء والحريات حيز التنفيذ والتطبيق.
نساء للترشيح لا للترشّح
في يونيو/حزيران 2022، أصدر الرئيس قيس سعيّد المرسوم عدد 55 لسنة 2022 مؤرخ 15سبتمبر/أيلول 2022 يتعلق بتنقيح القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 ماي/مايو/أيار 2014 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء واتمامه، فإذا كان القانون الانتخابي القديم يمثل فرصة للنساء والشباب ليكونوا ممثلين في المجالس المنتخبة مما جعل نسبة تمثيلية المرأة في البرلمان سنة 2014 ترتفع لتبلغ 73 نائبة أي بمعدّل 31% وهو ما مثل ثلث عدد النواب الإجمالي، وكانت النسبة الأعلى عربيًا. فإن المرسوم عدد 55 جاء ليغير النظام الانتخابي من الانتخاب على القائمات إلى الانتخاب على الأفراد ومحافظًا على التناصف ليس في الترشّح، بل في الترشيح، إذ اشترط على المترشح/ة أن يقدّم 400 تزكية منهم 200 نساء و200 رجالًا من بينهم 100 سنهم دون 35 سنة، ولم يتخذ أيّ تدابير إيجابية تدعم ترشح النساء فتونس بلد عربي إسلامي كغيره يهيمن عليه الفكر الأبوي والعقلية الذكورية، ومن دون تمييز إيجابي لن تجد النساء فرصة للمرور إلى المجالس المنتخبة ولعلّ ذلك هو آخر هم الرئيس.
ولكن الحركة النسوية والمنظمات والقوى التقدمية اتخذوا إجراءات فورية للمناصرة فمثلًا أطلقت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات عريضة شعبية وقامت ببرمجة سلسلة من التحركات أمام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات للفترة القادمة من أجل الضغط على الرئيس وعلى الهيئة من أجل اتخاذ تدابير جدّية وقانونية لتوفير بيئة للنساء تمكنهن من الترشح والفوز.
أيّ أفق للحركة النسوية؟
يتضح من خلال كل هذا، أن مسار نضالات النساء في تونس قد تغيّر نوعيًا بعد 25 جويلية/يوليو/تموز 2021 ففي حين كنّ يناضلن من أجل مراكمة المكتسبات وتطويرها أصبحن يناضلن من أجل الحفاظ عليها، إنها معركة مقامة الشدّ والجذب، ففي ظل هيمنة قيس سعيّد على الساحة السياسية والتشريعية ووضع يده على كلّ السلطات، أصبح مسار النساء والحركة النسوية نحو المساواة التامة والفعلية مهمة شاقة ليس لها سندًا دستوريًا ولا مساندة سياسية. فالرئيس عازم على كتم كلّ نفس تقدميّ.
إلا أن الحركة النسوية في تونس، لن تستسلم في معركتها خاصّة وأن هذه المعركة مدعومة بمناخ اجتماعي مشحون جراء موجة الغلاء وتجويع الشعب بفقدان المواد الأساسية من الأسواق وتزايد موجة الاحتكار أمام عجز كامل لقيس سعيّد على تقديم الحلول لشعبه، بل إنه لا يملك إلا خطابات فضفاضة وطوباوية.
Share this Post