تحت عنوان السيناريوهات المستقبلية للجمعية التأسيسية، عقد مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أمس الأربعاء 21 نوفمبر لقاءً فكريًا في إطار صالون بن رشد، حول مستقبل الدستور والجمعية التأسيسية في ظل موجة الانسحابات الأخيرة وتصاعد الاحتجاجات المطالبة بحل الجمعية التأسيسية. اللقاء ضم كل من وحيد عبد المجيد العضو المنسحب مؤخرًا من الجمعية التأسيسية والمتحدث الرسمي السابق لها، وعمرو حمزاوي أستاذ العلوم السياسية وعضو البرلمان السابق، ومعتز الفجيري الباحث والمحاضر بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. أدار اللقاء مجدي عبد الحميد رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية.
افتتح عبد الحميد اللقاء بالإشارة إلى اتساع الهوة بين قوى المجتمع المدني والقوي الليبرالية من جهة وبين جماعات الإسلام السياسي من جهة أخرى، والتي وصفها بالدفع بالتأسيسية في اتجاه التأسيس لدولة دينية بل ودولة استبدادية، محذرًا من تسويق هذا الخلاف على اعتباره خلاف بين مجموعة من الكفرة العلمانيين وبين حماة الدين على غرار ما حدث في الاستفتاء على الإعلان الدستوري في 2011. أكد عبد الحميد أن الخلاف أعمق وأخطر، وأبعد من كونه خلاف حول الدين وعلاقته بالدولة، وإنما هو خلاف يمتد لنظام الحكم، والحقوق الاجتماعية والسياسية وحقوق الإنسان بشكل عام، هو خلاف على دستور من المفترض أن يعبر عن روح الثورة ويلبي مطالبها، العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
كان هذا أهم ما أكد عليه وحيد عبد المجيد قائلاً “معركة وضعية الشريعة في الدستور معركة مفتعلة لا محل لها في مناقشات تستهدف وضع دستور يمثل وثيقة قانونية بالأساس، كما أن الشريعة حاضرة في القوانين والممارسات حتى من قبل إضافة المادة الثانية للدستور، وقبل وصول الإسلاميين للحكم” وأضاف عبد المجيد “هذه المعركة تستهدف تزييف الوعي، وتسويق قضية الدستور على اعتبارها معركة من أجل نصرة الشريعة وهي في الحقيقة معركة سياسية وضيعة، بل هي معركة انتخابية بالأساس”، مؤكدًا أن القوى الإسلامية تتعامل مع الدستور على اعتباره حلبة انتخابية تنافسية تكسبهم كتل تصويتية تحت دعوى كونهم حماة الدين.
وقد أرجع عمرو حمزاوي ذلك إلى تشكيل الجمعية من الأساس، والذي طغى عليه المكون الحزبي ليس فقط من جانب الأحزاب الإسلامية وإنما كل التيارات، الأمر الذي اعتبره حمزاوي سببًا في تحويل قضية الدستور إلى معركة انتخابية يحكمها الولاء الحزبي وتحدد أهدافها ومساراتها الكتل التصويتية. هذا بالإضافة إلي ما أطلق عليه سياسية “التأميم والاحتكار”، حيث تم حصر تمثيل المواطنين في النقابات، والمسيحيين في الكنائس، والنساء والأطفال في الاتحادات القومية، وغيرها من مظاهر الإقصاء والاحتكار. أما المشكلة الثالثة بحسب حمزاوي كانت غياب صيغة واضحة لإجراءات إدارة جلسات التأسيسية بما يفتح المجال لإدارة العمل عبر قنوات داخل الجمعية، والإجراءات غير الشفافة وغير الديمقراطية.
من جانبه رفض معتز الفجيري من الأساس وجود مادة عن الشريعة الإسلامية في الدستور، معللاً ذلك بما تفتحه هذه المادة من أبواب للصراع حول أحكام الفقه والتفاسير والاجتهادات التي هي نتاج تفاعلات اجتماعية طويلة ومحل اختلاف العلماء والفقهاء، ولا تعد بأي حال نص سماوي وإنما نتاج اجتهاد بشري، قائلاً “إننا ندرس في كليات الحقوق أحكام الفقه ولكننا لا نهتم بدراسة التفاعلات الاجتماعية وتوازنات القوى والخلافات في التفاسير والاجتهادات التي أنتجت هذه الفقه. كما أن الحاكم لا يتدخل في صنع الفقه وإنما ينفذ أحكامه، فإذا أصبح الحاكم هو الفقيه والمفسر لصنع له أحكام تؤسس لاستبداده، واختفت المعارضة وتلاشى الاختلاف، وصار من المستحيل أن يعارض أحد فقه الحاكم أو يختلف معه في التفسير والاجتهاد”، مشيرًا إلي أن الدولة الدينية لا تعني وجود رجال الدين في الحكم وإنما وجود رجال دين تُفسر النص، وتترك الأمر للحاكم.
عرف وحيد عبد المجيد الدستور بأنه وثيقة قانونية ينبغي أن يتوافر فيها أمران، الأول هو التوافق العام في المجتمع بمختلف انتماءاته السياسية وطبقاته الاجتماعية والاقتصادية، والأمر الثاني أن يحمي حقوق الضعفاء، ويتضمن ضمانات واضحة لحقوقهم لوضع حد لانتهاكات الأقوياء، سواء كانوا أغلبية سياسية، أغلبية دينية، الأثرياء، أصحاب النفوذ السياسي ..الخ، مشددًا على أن الدستور ليس كتاب قانون أو كتاب دين كما يظن البعض، وإنما هو كتاب لحماية الحقوق الحريات الأساسية وبصفة خاصة حماية حقوق الضعفاء.
وفي هذا السياق حذر عبد المجيد من مجموعة من النصوص الواردة في المسودة الأخيرة والتي تمثل نقاط سوداء تفتح الباب للصراعات المجتمعية وتُفرغ الدستور من معناه كوثيقة لحماية المجتمع. من هذه المواد ما يفتح الباب لجماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفرض سيطرتها على المواطنين بحصانة دستورية تُعطي الحق لجماعات من “المجتمع” بالمشاركة في حماية الآداب والأخلاق العامة، وكذلك الإصرار على رفض أي نص يشير إلى التنوع الثقافي والاجتماعي في المجتمع المصري والتشبث الشديد بفكرة الوحدة الثقافية لفئات المجتمع، في إنكارٍ فج للأخر أيًا كان انتمائه الديني أو الثقافي أو الأيديولوجي.
ناهيك عن تهميش الفئات الأكثر احتياجًا للحصانة الدستورية مثل الفلاحين والعمال، حيث يرفض الإسلاميون وضع ضمانات بسيطة لحقوق الفلاحين الفقراء من تعسف بنك الائتمان الزراعي وسياساته الزراعية، أو فرض أية مسئوليات على الدولة لحماية المزارعين وقيامها بدورها في توفير السماد أو تسويق المحاصيل وغيرها من المهام. كذلك لم ترد أية إشارة للعمال إلا في مادة واحدة من خمسة أسطر، بها أربع إحالات للقانون، ولا علاقة لها بقانون العمل ولا بمسألة الجور أو تحديد ساعات العمل أو حماية العامل من تعسف أصحاب رأس المال، مؤكدًا أن الجمعية التأسيسية الحالية فقدت شرعيتها لأنها لم تعد ممثلة للمجتمع، ودستورها لا يعبر عن المجتمع ولا يحقق الأهداف المفترض أن يحققها الدستور.
أضاف عمرو حمزاوي لتلك المواد، ما أطلق عليه باب الاستبداد الرئاسي وهندسة النظام السياسي (الباب السادس)، حيث يعطي الدستور لرئيس الجمهورية حق تجاوز السلطات الثلاثة في الدولة، كما يعطي له حق حل البرلمان، وكذلك تمرير ما يروق له من اتفاقيات دولية “سيادية” بأغلبية برلمانية (50% +1) متجاهلاً رفض نصف البرلمان تقريبًا، رغم أن مثل هذه القرارات تحتاج في معظم دساتير العالم لأغلبية الثلثين. كما يؤسس هذا الباب، لاستمرارية الوضع الاستثنائي لمنظومة القوات المسلحة، ويُقلِّص من صلاحية البرلمان في هذا الصدد. هذا بالإضافة إلى إعطاء رئيس الجمهورية حق تعيين رؤساء كافة الجهات الرقابية في الدولة والمفترض أن تراقب الرئيس، مما يعطي مؤسسة الرئاسة وضعًا استثنائيًا.
كما أكد حمزاوي أيضًا على خطورة اللغة الأخلاقية المُقحمة في الدستور، قائلا “لا أعلم كيف أطلب من الدولة بكيانها الاعتباري واجبات أخلاقية مثل صيانة الأخلاق أو احترام الآداب، وأصنع من أصحاب النفوذ الاجتماعي والسياسي أوصياء على المواطنين، بينما في الوقت نفسه أطرح مواد دستورية تضفي شرعية على عمالة الأطفال وتتعدى على حقوق النساء وتنكر حقوق العمال والفلاحين”.
وفي هذا الإطار شدد الفجيري على أنه وإن كانت الشريعة ليست بالضرورة منافية لحقوق الإنسان، فإن أحكام الفقه وتفسير الفقهاء للشريعة قد ينطوي على الكثير من الانتهاكات، ومقاصد الشريعة تخضع أيضًا للتفسير والاختلاف، لافتًا الانتباه إلى فكرة الميل للخيارات الفقهية الأكثر تشددًا رغم وجود خيارات أخرى أنسب للواقع، بما يكرس لنزعة محافظة، واحتمالية توظيف اختلاف الفقهاء لتحقيق مكاسب سياسية أو سلطوية. فقانون الأحوال الشخصية وأحكامه والتي من المفترض أنها تتوافق مع الشريعة الإسلامية تختلف تمامًا بين المغرب والسعودية وتونس ومصر، وجميعها بلاد مسلمة، مؤكدًا أن اختلاف القانون هو انعكاس لاختلاف الاجتهاد في فهم وتفسير الشريعة، رغم أن الدين واحد.
Share this Post