مسعود الرمضاني
نبدأ بهذه الطرفة للتدليل على أن القوم يميلون إلى المراهنة على المجهول، ويحكمون بالظاهر، ولكن كثيرًا ما يخيب ظنهم، ويعضّون أصابعهم ندمًا وحسرة، بعد فوات الأوان، فقد ورد في التراث أن الحجاج بن يوسف الثقفي قد جاء بصندوق من خزائن كسرى وأمر بكسر قفله، فإذا به صندوق أخر، مقفل أيضًا، فقال لمجلسه «من يشتري مني هذا الصندوق ولا أعلم ما فيه»، فتزايد القوم حتى رسا على أحدهم بمبلغ خيالي، وحين فتحه الشاري لم يجد فيه غير رقعة مكتوب عليها: من أراد ان تطول لحيته فليمشطها إلى الأسفل».
- الرهان على الشعبوية:
إن التباس الظاهرة الشعبوية وفرادة زعمائها، مزاجًا وخطابًا وممارسةً، وقدرتهم على نشر الأمل في تحقيق «المعجزات»، فقط لأنهم صدى صوت الشعب الحقيقي، الخيّر والمنقى من كل «ترهات» النخب السياسية والمدنية وتقديم إجابات بسيطة وأحيانًا ساذجة لقضايا معقدة، واختلاق حقائق بديلة، مختلفة عن السائد والمنطق، تجعلها مغرية وجديرة بالتجربة والمراهنة أحيانًا. وقد اتفق الخبراء على أنها –أي الشعبوية– ردة فعل شعبية، غاضبة، من أحزاب وحكومات وطنية ومؤسسات مدنية وسياسية، ليبرالية وديمقراطية، أصبحت عاجزة عن تقديم بدائل اقتصادية واجتماعية قادرة على حماية الطبقات الضعيفة والهشة، حينها تصبح هذه الفئات طريدة سهلة للشعبويين، ويؤدي الغضب من «الاستبلشمنت» (المؤسسات الديمقراطية) إلى بروز زعامات لا علاقة لها بالسياسة وأحيانًا غير مؤهلة لقيادة حتى مؤسسة صغيرة، ناهيك عن قيادة بلد بأكمله، ولا يؤتمن ما يخبئه مسارها حكمها الغامض، غموض محتوى الصناديق المغلقة، والأمثلة عديدة، من انتخاب جايير بولسونارو في البرازيل (2019) إلى دونالد ترامب في الولايات المتحدة وغيرهما كثر…
و بالإضافة إلى ما نعرفه عن الشعبوية من مقومات سرعان ما تُكتشف حدودها، هناك رغبة جامحة لدى شعوب العالم الثالث، خاصةً تلك التي لها ثقافة سياسية هشّة، ويتزود تفكيرها السياسي، لا من الواقع والمنطق والحكمة والتجارب الأخرى، بل من خبايا ماضيها وتقاليدها وأحلامها وحتى أساطيرها، فهي دائمة البحث عن القائد المنقذ، كي تلبسه بعض صفات النبوءة التي تسعى لاستحضارها، مثل النقاوة والصدق والنزاهة، وهي صفات مهمة، ولكنها غير كافية لدى الزعيم العصري، صاحب الحنكة السياسية والمنفتح على الآراء المختلفة والمتواضع الذي يقبل بالاستشارة ويعمل مع المؤسسات ويحترم دورها و يعمل على ألا يتجاوز حدود سلطته…
- «ديمقراطية الخواء»:
قيس سعيد ومجموعته، المتكونة خاصة من الشباب، كانت تحمل رؤى أيديولوجية مختلفة وأحيانًا متناقضة، لكنهم كانوا متفقين على رفض الأحزاب السياسية وكل الهياكل الوسيطة التي تستوجبها الديمقراطية التمثيلية، وقد استغلوا التوتر الذي حصل خلال الفترة الانتقالية، بين إرادة فعلية لبناء المؤسسات والقوانين والقيم التي تؤسس لنظام ديمقراطي وبين الأداء السياسي الكارثي لجل الأحزاب السياسية، سواء ارتجال و ضعف حوكمة الذين حكموا أو تهريج من عارضوا، وكانت الانتخابات البلدية لسنة 2018 مؤشرًا مهمًا عن تآكل شعبية الحزبين الرئيسين، حركة النهضة التي خسرت نصف ناخبيها تقريبًا، مقارنةً بانتخابات 2014، أو حزب نداء تونس الذي عصفت به صراعاته الداخلية، فكانت فرصة لفرض قائد منقذ، زعيم من خارج المنظومة المهترئة، بعد أن أثبت الإسلام السياسي أنه لا يتماهى مع الإسلام الذي يستبطنه المخيال الشعبي، في الزهد والعدل ونكران الذات … وبعد أن تبيّن أن رئيس نداء تونس ليس صورة طبق الأصل من البورقيبية، التي يحن لها العديد من المواطنين (وخاصةً المواطنات) الذين أرادوا أن يثأروا من تردد الإسلام السياسي، إذن كانت البلاد في حاجة إلى شخص من خارج المنظومة، يجمع صفات قد تبدو أحيانًا متناقضة، ولكنها محببة لدى العديد من المواطنين، وخاصة الشباب آنذاك: بسيط وصاحب مبادئ، يقبل بالديمقراطية، لكنه يعد بتغيير أسسها وقوانينها حتى تلائم «إرادة الشعب الحقيقية» وخاصةً شعب «القاع»، ذاك الشعب الذي تناسته الديمقراطية التمثيلية في خضم صراعات النخب من أجل السلطة، تلك الديمقراطية التي قال عنها القائد «أنها أفلست وحان الوقت لتغييرها»، وقد صادفت الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 أن يقتصر الصراع النهائي بين شعبويتين: شعبوية يرى التونسيون أنها ثرية وفاسدة ومتعالية، حتى وإن كانت متصدقة وعطوفة، وشعبوية متواضعة، نزيهة وبسيطة وغاضبة، فكان الاختيار سهلًا.
- نخب لا تقرأ
جاء في مقدمة كتاب «تناقضات نظام البناء القاعدي ومخاطره» للأستاذين مهدي العش ومحمد الصحبي الخلفاوي، أن الناس تجاهلت تمامًا مشروع قيس سعيد ولم يحظ بدراسة، وكان انتخابه في الرئاسية أشبه باستفتاء حول شخصه فقط، ليكون الدور الثاني للانتخابات بين نبيل القروي وقيس سعيد «استفتاءً بين الفساد والنزاهة».
ولكن إذا ما استثنينا «مشروع البناء القاعدي» الذي يبدو مشروعًا هلاميًا، لا يمكن تحقيقه إلا بتفكيك أسس الدولة الحديثة وتمركز للسلطات لدى الرئيس – السلطة – الدولة، فإن قيس سعيد لا يحمل مشروعًا بديلًا للخروج من الأزمة، وحتى في حواره مع الشارع المغاربي قبيل انتخابه، فإنه قال أن مشروعه الاقتصادي والاجتماعي سيكون «نابعًا من الشعب»، فالشعب هو الذي يقدم التصورات والقائد سيكون أداة تنفيذ فقط، ولكن رأينا أن الصورة انعكست تمامًا، خاصةً بعد إجراءات 22 سبتمبر 2021 الاستثنائية، إذ أصبح الرئيس يقرر والشعب ينفذ، ساعده في ذلك شبه إجماع سابق (حصل إثر إجراءات 25 يوليو 2021) من بعض الأحزاب السياسية وجل منظمات المجتمع المدني التونسي التي لم تنتبه إلى مشروع ديمقراطيته القاعدية الذي يخطط إلى إلغاء وجودها نهائيًا حتى لا يبقى من حاجز بينه وبين شعبه الوفي، شعبه الطيّع الذي له كامل الاستعداد لتطبيق رؤيته ويتحمل مزاجه الغاضب، وكأنما تناست تلك الأحزاب والمنظمات القانون والشرعية والانتخابات والدستور لتقودها إرادة واحدة، إرادة التشفي في أحزاب حاكمة حملتها لوحدها مسئولية التنكيل بالبلاد والدفع بها نحو طريق مسدود، وبدا وكأن اقتلاعها بالقوة هو السبيل الوحيد للتخلص منها.
ولئن تظل الشعبوية في البلدان الديمقراطية طفرة مؤقتة وسريعة الانحسار بحكم احتكاكها بالمؤسسات الديمقراطية الراسخة ورغبة القادة الشعبويين الجامحة في تجاوزها والدوس على قوانينها، مما يؤدي إلى سرعة أفول نجمهم وتغييرهم عبر انتخابات أخرى، فإن عمرها قد يطول في البلدان التي تعرف ضعف المؤسسات وهشاشة المجتمع المدني وتشظي الأحزاب السياسية وغياب الثقافة الديمقراطية، ومعها تستمر المراهنات، من صندوق مغلق إلى أخر، إلى أن يتوطد الاستبداد.
المصدر: جريدة المغرب
Share this Post