معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري، المشرف العام على مجلة رواق عربي الصادرة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.غيّب الموت، يوم الجمعة الماضي، أستاذ علم الاجتماع السياسي وناشط المجتمع المدني المصري الشهير، سعد الدين إبراهيم، عن عمر ناهز 84 عاماً، بعد مسيرة طويلة شابتها تحوّلات فكرية وسياسية، شهدت أوجها الدرامي في العشرة أعوام الأخيرة. كان له دورٌ بارزٌ في التحوّلات السياسية والاجتماعية في مصر منذ الثمانينيات في القرن الماضي، لكنه أصبح موضوع جدلٍ في السنوات الأخيرة، بسبب دعمه الصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتصريحاته وكتاباته المؤيدة له، والداعمة تجديد ترشّحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وعلى الرغم من هذه السقطات السياسية، لا يميل كاتب هذه المقالة إلى إصدار أحكام قاسية على مجمل حياة الأشخاص العامّة، خصوصا في غياب المعلومات الكاملة لتفسير هذه التحوّلات. ولا يمكن، في الوقت ذاته، إنكار الإسهام الفكري والحركي البارز لإبراهيم في العقود الثلاثة التي سبقت ثورات الربيع العربي، وذلك في مسار حركة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر والمنطقة العربية.
تعرّفت على أعمال مركز ابن خلدون وسعد الدين إبراهيم في فترة دراستي الجامعية في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، والتقيت به للمرّة الأولى في محاضرة ألقاها عام 2002 في جمعية النداء الجديد في القاهرة، والتي كان يترأسها الاقتصادي والمفكر الليبرالي المصري سعيد النجار. وعلى الرغم من انتقادي المباشر له في المحاضرة بشأن موقفه المثير للجدل من التطبيع مع إسرائيل، إلا أنه استقبل حديثي بصدر رحب. وقد كان يمثل لي، ولعديدين من أبناء جيلي آنذاك، مصدر إلهام بأهمية النضال من أجل استقلال المجتمع المدني، ودور مؤسّساته في الدفاع عن حقوق الإنسان.
كان سعد الدين إبراهيم من روّاد الجيل الأول الذين أسهموا في عقدي الثمانينيات والتسعينيات في التأصيل الفكري والحركي لقضايا المجتمع المدني والشرعية الديمقراطية، وقضايا الحقوق والحرّيات العامة. كتب عام 1983 في إطار دراسته النقدية لمصادر الشرعية في أنظمة الحكم العربية، لقد “تحوّلت السياسة في عالمنا العربي إلى مساوماتٍ ومخابرات، وتحوّل الاقتصاد إلى صفقاتٍ وعمولات، وتحوّلت الثقافة إلى دعاية، وتحوّل الإعلام إلى إعتام، وحوّل الحكام أنفسهم إلى أنصاف آلهة، إنه عالم بلا شرعية، عالم يسيطر عليه الخوف، خوف المحكوم من الحاكم وخوف الحاكم من المحكوم”. نشر إبراهيم هذه الدراسة في كتاب جماعي قام بتحريره بعنوان “أزمة الديمقراطية في العالم العربي” (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984)، والذي ضم أوراق عمل ومداولات المؤتمر الشهير الذي عقد في قبرص في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1983، بعد أن رفضت عدة عواصم عربية استضافته. وشارك فيه مائة من المفكرين والأكاديميين والسياسيين العرب، وانتهى إلى إعلان تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان. وقد تولّى سعد الدين إبراهيم أمانة المنظمة فترة مؤقتة، قبل أن يؤسّس عام 1988 مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية عام 1988، حيث استمر في قيادته حتى وفاته.
لسعد الدين إبراهيم ومركز ابن خلدون بصمة واضحة في تأصيل بعض القضايا التي كانت تثير حساسياتٍ سياسية في ذلك الوقت، مثل حقوق الأقليات الدينية والعرقية في مصر والمنطقة العربية، وحرية الانتخابات ونزاهتها، وحرية مؤسّسات المجتمع المدني. وقد كان إبراهيم من الأصوات البارزة التي انتقدت ظاهرة توريث السلطة في الجمهوريات العربية، واصفاً إياها بـ”الجملوكية”، وهي مفردة تدمج بين كلمتي جمهورية وملكية، في مقالٍ نشره في مجلة “المجلة” اللندنية في يوليو/ تموز عام 2000. انتقد المقال الطريقة التي تم من خلالها تكييف توريث السلطة في سورية لبشّار الأسد بعد وفاة والده حافظ الأسد، وتنبأ فيها بتكرار هذه الظاهرة في دول عربية أخرى، مثل العراق وليبيا واليمن ومصر، وطالب ساخراً بأن يؤسّس الحكام العرب عقداً اجتماعياً جديداً يضمن تولي أبنائهم السلطة مقابل تحول الجمهوريات العربية إلى ملكيات دستورية ديمقراطية. اعتقلت السلطات المصرية سعد الدين إبراهيم في اليوم التالي لنشر المقال، ثم اتُّهم لاحقاً بتلقي تمويل أجنبي، ونشر أخبار كاذبة، وأُغلق مركز ابن خلدون. وبدأت أحداث واحدةٍ من أشهر المحاكمات ذات الطابع السياسي في تاريخ المجتمع المدني في مصر، والتي انتهت بتبرئة إبراهيم وأعضاء مركز ابن خلدون بواسطة محكمة النقض في مارس/ آذار 2003، بعد أن تعرّضت حكومة حسني مبارك لانتقاداتٍ عالمية لاذعة، وتهديدات مباشرة من الإدارة الأميركية بتقليص المعونة السنوية.
لا يمكن فصل تحوّل موقف سعد الدين إبراهيم عن مشهد الفتنة والانقسام السياسي في مصر بعد ثورة يناير (2011)، والذي دفع، في النهاية، عديدين من أفراد النخبة إلى دعم تدخّل الجيش لإنهاء حكم الإخوان المسلمين، ثم الإذعان لاحقاً لعودة السلطوية. ومن المثير للدهشة أن يكون إبراهيم ضحية للفزاعة نفسها التي كان يحذّر من خطرها في أثناء حكم مبارك على مستقبل الديمقراطية والحرّيات في مصر. أصبح سعد الدين ابراهيم من الداعمين لتولي الفريق أحمد شفيق رئاسة مصر في الانتخابات الرئاسية لعام 2012 بعد توتر علاقته بجماعة الإخوان المسلمين، ثم كان من الداعمين لإطاحة حكمها، محمّلاً الإسلام السياسي مسؤولية فشل ثورات الربيع العربي.
عبّر إبراهيم، في حواراته الإعلامية، عن فشل رهاناته الشخصية السابقة سنواتٍ، قبل ثورات الربيع العربي، على إمكانات انفتاح جماعة الإخوان المسلمين على الديمقراطية، فقد اقترب من قياداتهم وتعرّف عليهم خلال مدة اعتقاله وقت حكم مبارك، وبادر في تقديمهم لاحقاً إلى المجتمع الدولي ومراكز البحوث الغربية، ودافع بحماس عن أطروحة إدماج الإسلام السياسي في التحوّل الديمقراطي، ويبدو أنه أصيب بخيبة أمل عميقة، كان لها تأثير في اختياراته السياسية فيما بعد. ويجد المتابع لحوارات سعد الدين إبراهيم وكتاباته في السنوات العشر الأخيرة تناقضا بين تعبيره الضمني، من وقت إلى آخر، عن قلقه من تدهور واقع الحريات وانتشار الخوف في عهد عبد الفتاح السيسي، وإصراره، في الوقت نفسه، على دعم استمرار السيسي في الحكم وتأييده، ومدحه ما اعتبره دوراً تاريخياً قام به الجيش في إنقاذ مصر من حكم الإخوان المسلمين.
عادة ما ترافق لحظات التحولات السياسية الكبرى انقساماتٌ عميقةٌ داخل المجتمعات واختلافات بين النخب بشأن ما يحقق المصلحة الوطنية. وفي هذا السياق، يُظهر نموذج سعد الدين إبراهيم كيف يمكن لتوجّهات الشخصيات العامة أن تتغيّر وتتبدّل مع مرور الزمن، بحيث تتحوّل من الدفاع عن الحرّيات والديمقراطية إلى التسامح مع واقع الاستبداد في بلدانهم وتبريره، وقد شهدت المجتمعات العربية عديدا من هذه الانعطافات بين نخبها في أعقاب انتكاسات ثورات الربيع العربي.
المصدر: العربي الجديد
Share this Post