رسالة مركز القاهرة بمناسبة ٧٥ عامًا على الإعلان العالمي
كان ميلاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ١٠ ديسمبر ١٩٤٨حدثًا تاريخيًا غير مسبوق، تعبيرًا عن إجماع عالمي على قيم إنسانية سامية، تجسد خلاصة تفاعل كبرى الحضارات والثقافات الإنسانية عبر الزمان؛ بعد مآسي حربين عالميتين وبلوغ أعمال القمع السياسي والاضطهاد الديني مستويات قياسية.
لا يقل أهمية أن هذا الإجماع شمل أبرز أطراف دول المعسكرين الرأسمالي والشيوعي (حينذاك) وكبريات دول الجنوب؛ التي كانت بعضها توشك على إحراز الاستقلال الوطني. فضلاً عن أن من بين أطراف هذا الإجماع دول لا تتبنى رسميًا أي دين، وأخري تعتمد ديانات سماوية أو غير سماوية متنوعة، بينها دول إسلامية كبرى.
منذ نحو شهرين، وجهت مجموعة من أبرز الدول الراعية لهذا الإعلان، وللنظام الدولي لحقوق الإنسان ككل، لطمة كبرى لكلاهما؛ وذلك بمنح ضوء أخضر لإسرائيل المحتلة للضفة الغربية وغزة، بشن حرب إبادة محتملة على الشعب الفلسطيني، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحقه.
ما يفاقم من تأثير هذه اللطمة بعيدة المدي، أن الدول التي بادرت بها تنتمي لمجموعة الديمقراطيات الغربية؛ التي تنفرد عالميًا بوضع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ضمن قائمة أولويات سياستها الخارجية، وتجسد التزامها بذلك بين حين وآخر، سواء في إطار الأمم المتحدة أو في سياق علاقاتها الثنائية. ولا يخفف من تأثير هذه اللطمة أن المجتمعات المدنية والسياسية في هذه الدول، انخرطت في أعمال احتجاج شعبية وبرلمانية وثقافية وطلابية وعمالية واسعة النطاق، ضد سياسات حكوماتها، مطالبةً بالوقف الفوري لإطلاق النار وتمتع الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال.
هذه الاحتجاجات انضم إليها أيضًا بعض المسئولين الحكوميين في دول الغرب، بل وطالب بعضهم بمحاكمة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية. كما انضم إليهم بشكل لافت، تجمعات كبيرة من المواطنين اليهود في هذه الدول، وبينهم مجموعة من أبرز الكتاب والفنانين والمفكرين اليهود، الذين أصدروا بيانًا جماعيًا تاريخيًا في هذا الصدد. بينما واصلت أبرز المنظمات الإسرائيلية المعنية بحقوق الإنسان مواقفها الحقوقية المبدئية، وعارضت علنًا حرب إسرائيل الوحشية، والتهجير القسري من غزة، علمًا بأن بعض أعضائها كانوا ضمن ضحايا هجمة حماس ضد المدنيين في ٧ أكتوبر.
تعتبر لطمة بعض الديمقراطيات الغربية لقيم ونظام حقوق الإنسان هي الأكثر دلالة على عمق الانتكاسة؛ فقد تخطت في دلالتها تلك الانتكاسة التي أسفر عنها الغزو الأمريكي للعراق، إذ لقي حينذاك مقاومة حادة من بعض أبرز الديمقراطيات الغربية (فرنسا وألمانيا) إلى جانب دول الجنوب.
والحقيقة أن الانتكاسة ممتدة أيضا لدول الجنوب، بما في ذلك دوله الإسلامية والعربية، التي تشكل كتلة سلبية مؤثرة في الاتجاه ذاته المناهض لحقوق الإنسان داخل الأمم المتحدة. ففي سياق تضامن الأعضاء الأبرز انتهاكًا لحقوق الإنسان مع بعضهم البعض، حالت كبريات دول الجنوب «بما في ذلك دول إسلامية وعربية» في مناسبات عدة دون تمرير قرارات أممية تدين ارتكاب الصين لجرائم ضد الإنسانية بحق الأقليات العرقية المسلمة (الإيغور). وعارضت بشكل شبه دائم مشاريع قرارات مجلس حقوق الإنسان الخاصة بالجرائم الحقوقية المرتكبة في دول مثل مينمار ودارفور واليمن وسوريا. بل كان لبعض الدول العربية دورًا مباشرًا وملموسًا في تدهور حقوق الإنسان في دول عربية أخري، كاليمن وليبيا وسوريا ومصر والسودان والبحرين. وصولاً إلى التواطؤ الصريح مع جرائم إسرائيل في الشهرين الماضيين، والاستنكاف لأول مرة عن لعب دور نشيط في الساحة الدولية على مدي شهرين لوقف سيل هذه الجرائم بحق الفلسطينيين.
لا يكفي القمع الضاري لحقوق الإنسان في المنطقة العربية لتفسير مدي الدرك الذي انحدرت إليه فاعلية الرأي العام العربي في القضية الوحيدة المشتركة الباقية على جدول أعماله، التي يتفاعل معها سياسيًا وحقوقيًا (أي فلسطين). خاصًة بالمقارنة بتفاعلات شعوب أخري، خاصة في الغرب، بما في ذلك قطاعات من النشطاء والمثقفين اليهود، مع القضية نفسها.
تفعيل الرأي العام في العالم العربي صارت مسألة حيوية للغاية، ويجب أن تكون على رأس جدول أعمال النخب السياسية والمدنية في المنطقة، ليس فقط من أجل فلسطين. إذ هي وثيقة الصلة بمدي هشاشة المقاومة السياسية لهذه النخب للقمع المتفشي في بلادها. بالتأكيد قدمت هذه النخب تضحيات هائلة في سياق مقاومة القمع، ودفعت ثمنًا إنسانيًا باهظًا منذ احراز الاستقلال الوطني لبلادها، خاصة في سياق الربيع العربي، في سوريا واليمن والعراق ومصر ولبنان وليبيا والسودان والبحرين. لكنها لم ترتق بمقاومتها الفردية الباسلة إلى أشكال من التنظيم والتنسيق الجماعي، الذي يبلور خطط مشتركة بعيدة المدى لإعادة بناء المجتمعات والدول، واستراتيجيات مدروسة لتحقيق هذه الأهداف.
جدير بالملاحظة أن أغلبية هذه النخب لم تبد في السابق الحد الأدنى من التضامن الإنساني مع جرائم ضد الإنسانية قد تزيد في بشاعتها عما يُرتكب حاليًا في غزة، كتلك المرتكبة في سوريا والعراق واليمن ودارفور وجنوب السودان. بل أن بعض أبرز رموز هذه النخب يمجد علنًا الرئيس السفاح الذي قصف شعبه بالأسلحة الكيميائية في سوريا خلال الربيع العربي، مثلما مجدوا آخرين ارتكبوا جرائم بشعة مشابهة في العراق.
في هذا السياق الكارثي متعدد الأبعاد، تكتسب حقوق الإنسان العالمية أهمية أكبر بالنسبة للضعفاء، شعوبًا ونخبا سياسية وأفرادًا. لا سيما بعدما تعلمت الشعوب العربية بالتجربة، أن اعتلاء الدول العربية قائمة أبرز مستوردي الأسلحة الأكثر تطورًا في العالم، لم يؤد يومًا لوقف معاناة الشعب الفلسطيني، بل أدى فقط إلى المزيد من استقواء واستبداد وقمع حكام هذه الدول لشعوبهم، وامتداد هذا القمع لشعوب عربية أخري.
ربما الآن أكثر من أي وقت مضي تحتاج شعوب المنطقة العربية أن تتعلم كيف تنقل الحقوق والمبادئ من الورق إلي ميدان الممارسة. هذا لن يتأتى إلا بتنظيم نفسها سياسيًا ومجتمعيًا بصورة أفضل، بما يجعلها ثقل مؤثر في علاقات القوي المحلية، فيصغي إليها حكامها والعالم، وتتمكن من الارتقاء أيضا بشروط حياتها المادية والروحية.
Share this Post