على مدار شهر من قرار محكمة العدل الدولية، تواصل إسرائيل حملتها الممنهجة للإبادة الجماعية والقتل العمد في غزة. وكانت المحكمة قد أصدرت في 26 يناير 2024 قرارًا يطالب إسرائيل بالتوقف عن ارتكاب الأفعال المحظورة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، واتخاذ تدابير فورية وفعالة لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة. ورغم ذلك؛ صعدّت إسرائيل عملياتها العسكرية خلال شهر فبراير الجاري، فضلًا عن تعمدها مواصلة حجب وعرقلة وصول المساعدات الحيوية، الأمر الذي تسبب في تفاقم الوضع الإنساني الكارثي في غزة، حيث يواجه مئات الآلاف من السكان مجاعة وشيكة.
ورغم أن التدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية سلطت الضوء على ضرورة التزام المجتمع الدولي بوقف ومنع الإبادة الجماعية؛ إلا أن حلفاء إسرائيل قد فشلوا بشكل واضح في الامتثال لهذا الأمر. إذ واصلت الولايات المتحدة تزويدإسرائيل بالأسلحة التي من المرجح أنها تستخدمها في هجماتها العسكرية المتواصلة على غزة، كما استخدمت حق النقض مرة أخرى، في 20 فبراير، لمنع مجلس الأمن من تبني قرارًا بوقف إطلاق النار؛ رغم الدعم القوي للقرار من جانب الدول الأعضاء.
وفي هذا السياق، يجدد مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان دعوته لوقف إطلاق النار بشكل فوري، والإفراج عن جميع الرهائن من المدنيين.
تقول آمنة القلالي، مديرة البحوث بمركز القاهرة: «إسرائيل لم تظهر أية نية لاحترام قرار المحكمة رغم مرور قرابة شهر على صدوره؛ إذ أن الدعم والتمويل اللذان تتلقاهما من حلفائها ساعداها على تجاهل القرار؛ وذلك رغم الأدلة المتزايدة على ارتكاب إسرائيل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، فضلًا عن قرار محكمة العدل الدولية الذي يذّكر الدول بالتزامها بمنع ووقف الإبادة الجماعية»، مضيفة «إن استمرار الدعم اللا مشروط لإسرائيل سيقوض إمكانية السلام المستدام في المنطقة، فضلًا عن تعريضه لشرعية الإطار القانوني الدولي للخطر».
جاء قرار محكمة العدل الدولية على خلفية القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بزعم انتهاكها اتفاقية الإبادة الجماعية. وقد خلصت المحكمة إلى 6 تدابير مؤقتة من شأنها وقف الأعمال المحظورة بموجب الاتفاقية، بعدما أقرت المحكمة احتمالية حدوث إبادة جماعية. كما قضت المحكمة بمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، وضرورة اتخاذ «تدابير فورية وفعالة» لضمان توفير المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة. وكانت الأعمال الإجرامية في غزة في على مدار الفترة بين 7 أكتوبر 2023 و20 فبراير 2024، قد أسفرت عن مقتل قرابة 29.195 فلسطيني في غزة فيما أصيب 69.170 شخصًا، بينهم 3.495 قتيل و5.430 مصاب بعد اعتماد قرار محكمة العدل الدولية قبل أقل من شهر. هذا بالإضافة لما أسفرت عنه الهجمات الإسرائيلية العشوائية من تفاقم الوضع الإنساني الكارثي في غزة- جراء الحصار شبه الكامل المتواصل للقطاع لأكثر من 16 عامًا- مما أدى لنقص حاد في المأوى والمياه النظيفة والغذاء والدواء والخدمات الصحية. إذ تضررت 60% من الوحدات السكنية، بما في ذلك قرابة 70.000 وحدة سكنية. وبحسب الأونروا، فقد نزح أكثر من 1.7 مليون شخص، انتقل غالبيتهم لرفح.
شنت إسرائيل سلسلة من الغارات الجوية والهجمات البحرية على رفح في 12 فبراير، وهي منطقة كانت قد صنفتها سابقًا كمنطقة آمنة، الأمر الذي أسفر عن مقتل مئات الفلسطينيين، واستهداف عشرات المباني السكنية. كما أعلنت إسرائيل أنها بصدد شن هجوم بري على رفح سيؤدي لا محالة لمذبحة مروعة، وآثار كارثية على وصول المساعدات الإنسانية وحياة 2.2 مليون شخص معرضين لخطر المجاعة الوشيك.؛ في ظل عدم وجود مكان أخر للفلسطينيين للجوء إليه.
هذه العملية الوشيكة تثير مخاوف جدية بشأن سلامة المدنيين في رفح، وتدفع بهم لمزيد من التهجير القسري؛ إذ تم الإبلاغ في الآونة الأخيرة عن خطط إسرائيلية مصرية لنقل الفلسطينيين لسيناء. وبينما يدعي الطرفين علنًا رفضهما خطط نقل السكان؛ بدأت أعمال البناء لإيواء اللاجئين في شرق سيناء، وسط إجراءات أمنية مشددة، قرب الحدود مع قطاع غزة.
من جانبها قدمت جنوب أفريقيا طلب عاجل لمحكمة العدل الدولية بضرورة اتخاذ تدابير إضافية بشأن رفح، مشيرةً لأن الهجمات على رفح من شأنها «مفاقمة الأزمة الإنسانية الحالية بشكل كبير، الأمر الذي سيترتب عليه عواقب إقليمية لا تحصى»، معتبرة أن هذه التطورات تتطلب «تنفيذ فوري وفعال للتدابير المؤقتة التي أشارت لها المحكمة في أمرها الصادر في 26 يناير 2024».
وإلى جانب تقاعس إسرائيل عن الامتناع عن الأعمال المحظورة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية وفقًا للتدابير المؤقتة للمحكمة الدولية، فشلت إسرائيل أيضًا في اتخاذ «تدابير فورية وفعالة» لضمان توفير المساعدة الإنسانية للمدنيين في غزة. إذ اعتمدت سياسة التجويع المجرمة دوليًا والحرمان من الضروريات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، وذلك من خلال منع وصول القوافل الإنسانية ومهاجمتها. فمنذ بداية هذا العام وحتى 12 فبراير، منع الجيش الإسرائيلي وصول 51% من بعثات الإغاثة لشمال غزة، و25% إلى جنوبها. ولا تزال الهجمات المستمرة وعمليات الإغلاق والقيود المكثفة للحدود في غزة تؤثر بشكل سلبي على توصيل المعونات الغذائية، وتشكل تحديات خطيرة أمام تنفيذ ذلك بشكل آمن وفعال.
وعلاوة على ذلك، أسفرت العمليات القتالية عن أضرار جسيمة بالبنية التحتية الأساسية، الأمر الذي أثر بدوره على إمكانية توزيع المعونة والمساعدات. ففي 20 فبراير الجاري، أعلن برنامج الأغذية العالمي توقفه مؤقتًا عن تسليم المساعدات الغذائية لشمال غزة «حتى تتوفر الظروف التي تتيح له التوزيع الآمن»، بسبب «انهيار النظام المدني». كما أبلغ البرنامج عن تدهور سريع لهذه الظروف في نهاية يناير، واصفًا الوضع بـ «مستويات غير مسبوقة من اليأس» بين السكان.
يُذكر أنه في نهاية يناير الماضي، أعلنت 18 دولة على الأقل تعليق تمويل الأونروا، استنادًا لمزاعم واهية تتعلق بارتكاب بعض موظفيها أعمالًا إجرامية. هذا القرار يهدد بدوره العمليات الإنسانية الحيوية في جميع أنحاء المنطقة، خاصة في قطاع غزة، فيما يبدو أنه عقاب جماعي لأكثر من مليوني فلسطيني يعتمدون على الأونروا لتوفير احتياجاتهم الأساسية. كما يعكس هذا القرار فشل العديد من الدول في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الإبادة الجماعية. فبينما تبدي هذه الدول استعدادًا لوقف تمويل المساعدات الإنسانية الحيوية في فلسطين، تواصل في المقابل تقديم المعونة والأسلحة إلى إسرائيل؛ برغم الأدلة الدامغة على انتهاكاتها واسعة النطاق للقانون الدولي. ناهيك عن أن التزام المجتمع الدولي بمنع الإبادة الجماعية يقتضي بشكل أساسي دعم وقف فوري لإطلاق النار، ووقف كل دعم العسكري لإسرائيل، بما في ذلك صادرات الأسلحة.
Share this Post