ورقة بحثية: إسرائيل تفرض أوضاعًا معيشية كارثية على سكان غزة بهدف “الإهلاك الفعلي” لهم وفق تعريف جريمة الإبادة الجماعية
18/06/2024
أصدر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان اليوم ورقة بحثية حول الأوضاع الكارثية المستمرة في غزة، منذ 7 أكتوبر 2023، يفند فيها وفقًا لأركان تعريف جريمة الإبادة الجماعية؛ كيف تتعمد إسرائيل فرض ظروف معيشية من شأنها "الإهلاك الفعلي" لسكان غزة، وتدمير الشعب الفلسطيني فعليًا.
الورقة البحثية التي جاءت تحت عنوان:
وخلصت الورقة البحثية إلى أن هناك أدلة مباشرة وظرفية واسعة النطاق بأن الهجمات الإسرائيلية قد استهدفت تدمير الفلسطينيين بشكل فعلي، فأسفرت عن أعداد هائلة من القتلى والجرحى (36,284 قتيل، 82,057 مصاب حتى 31 مايو)، فضلاً عن مستوى الدمار الذي لحق بالبنية التحتية المدنية الأساسية بما في ذلك المدارس والمستشفيات وملاجئ الإيواء ( أكثر من 60% من المباني تم تدميرها)، وتعمد عرقلة الوصول إلى الخدمات الحيوية (كالماء النظيف والصرف الصحي والكهرباء والوقود والخدمات الصحية) والمساعدات الإنسانية الضرورية (بما في ذلك الغذاء والدواء ومستلزمات النظافة) للبقاء على قيد الحياة. هذا بالإضافة إلى استخدام سياسية التجويع كأسلوب حرب، والزج بغزة نحو مجاعة حقيقة بدأت بالفعل، إذ توفي 32 شخصًا بسبب الجوع، بينهم 28 طفلًا، في مطلع أبريل الماضي. ومن المتوقع أن يصل 1.1 مليون شخص إلى مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي في غزة بحلول يوليو 2024. هذه الفظائع الإسرائيلية تؤكد ما سبق وأقرته تصريحات رسمية لمسئولين إسرائيليين تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتصفهم بـ "الحيوانات البشرية"، وتتوعد بـ "محو غزة" من على سطح الأرض.
المساعدات الغذائية قليلة جدًا جدًا جدًا ونادرة جدًا وإذا إجت بتكون مثلًا كل 3 أشخاص بيضة واحدة أو لكل العائلة علبة فول واحدة. أول ما جينا كل أسبوع، حاليًا يمكن إلنا 3 شهور ما طلعلنا.
كانت الطرقات مخيفة جدًا جدًا، جثث ميتين في كل مكان... صاروا يرموا الفوسفور ... جربنا حروب كتير بس زي هيدي الحرب ما جربنا، وين ما تروح أنت بخطر... أنا شفت القنابل بعيني مضيئة وبينزل دخان اسود بعدين يصير أبيض.
لا يمكن تجاهل معقولية ارتكاب جريمة إبادة جماعية في غزة في ضوء تحليل الأفعال الإجرامية المتعمدة التي ترتكبها إسرائيل وتصريحات مسئوليها المحرضة. فوفقًا لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، تتألف هذه الجريمة من عدة أفعال ترتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة معينة وإخضاعها عمدًا لظروف معيشية بقصد الإهلاك الفعلي لها، وهذا ما يحدث الآن في غزة.
أيام وبفوت بشهر الولادة وما عندي أي خطة ولا حتى بعرف شو بعمل، بيحكوا في مستشفى، بس أنا كيف بوصلها؟ في إسعاف يوصلني؟ ما في سيارات حتى. ما في مستشفى قريبة... ما في دكاترة، ما في بنج، ما مسكنات.
الورقة البحثية سلطت الضوء أيضًا على مسئولية حلفاء إسرائيل عن هذه الجريمة، سواء بالتواطؤ المقصود، أو بشكل فعلي من خلال تزويد إسرائيل بالدعم السياسي والمالي والعسكري الذي يمكنها من مواصلة ارتكاب هذه الجرائم التي قد تصل حد الإبادة الجماعية. كما أدان المركز في هذه الورقة عجز الدول العربية عن إدانة ومحاسبة إسرائيل وتقديم خطة فعالة لإرساء وقف إطلاق النار والحفاظ عليه.
قدمت الورقة مجموعة من التوصيات على رأسها وقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة، وضمان تقديم ووصول المساعدات الإنسانية الفعالة بشكل عاجل وفوري وكافي للفلسطينيين في غزة. فضلاً عن توصيات أخرى بشأن منع تصدير الأسلحة لإسرائيل ووقف دعمها السياسي والعسكري، وإلزامها بالامتثال لتدابير محكمة العدل الدولية وقرارات مجلس الأمن. هذا بالإضافة إلى التشديد على ضرورة أن تكون المساءلة أولوية رئيسية في مواجهة الجرائم الدولية الخطيرة التي ارتكبتها جميع الأطراف منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، سواء من قبل حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في 7 أكتوبر واختطاف الرهائن واحتجازهم، أو تلك التي تواصل القوات الإسرائيلية ارتكابها في غزة لأكثر من 8 أشهر. وتحقيقًا لهذه الغاية، يجب ضمان وصول آليات التحقيق المستقلة الكامل إلى قطاع غزة والمناطق المتضررة الأخرى.
لم أكن أدري إن كان طفلي حيًا أم ميتًا
كيف تفرض إسرائيل ظروفًا معيشية تستهدف «الإهلاك الفعلي» للفلسطينيين في غزة
منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، تواصل إسرائيل هجماتها العشوائية واسعة النطاق وغير المتناسبة بحق السكان المدنيين في غزة. ورغم الضغوط المتزايدة سواء من المحاكم الدولية أو غالبية الدول،[1] يستمر استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية؛ بما في ذلك المستشفيات ومخيمات النازحين. كما تواصل إسرائيل عرقلة وصول المساعدات الإنسانية والاحتياجات الحيوية الأساسية، الأمر الذي أدى إلى تدهور خطير في الأحوال المعيشية في غزة.
وبالهجوم البري على رفح، الذي بدأ في 6 مايو/أيار، كثفت إسرائيل مساعيها إزاء الإبادة الجماعية، وذلك بقصف عشوائي لواحدة من أكثر المناطق تكدسًا بالسكان في العالم، حيث تكتظ المخيمات بالنازحين.
ثمة أسباب معقولة وجيهة تعزز القرائن بارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية، وخاصًة بالنظر إلى انتهاكاتها بحق الفلسطينيين مؤخرًا في سياق أوسع من الانتهاكات الإسرائيلية المؤسسية والمنهجية بحق الفلسطينيين والممتدة منذ 76 عامًا؛ بدايًة من التهجير القسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم إبان ما عُرف بـ «النكبة»، مرورًا بالاحتلال المطول للأراضي الفلسطينية والحصار المفروض على غزة لمدة 16 عامًا.
وفيما تتوالى المناقشات منذ الأشهر الأولى للأعمال العدائية الإسرائيلية في غزة حول قرائن ارتكاب إسرائيل جريمة إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، ولأن هذه الجريمة تعد من أكثر الجرائم الدولية صعوبة في القطع بارتكابها وتحديدها بشكل دقيق؛ لذا استند هذا التقرير الموجز إلى مجموعة من الأدلة التي قدمها أكاديميون وخبراء أمميون مستقلون وهيئات قضائية دولية، لإثبات عناصر جريمة الإبادة الجماعية، التي على الأرجح قد تحققت ووقعت في غزة.
تتكون جريمة الإبادة الجماعية من مجموعة من الأفعال التي ترتكب «بقصد التدمير/ الإهلاك الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه»، والأفعال التي تشكل إبادة جماعية، وفقًا لاتفاقية الإبادة الجماعية، هي؛ قتل أفراد الجماعة، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة، إخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليًا أو جزئيًا، وفرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، ونقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى. [2]
ومن ثم، فالإبادة الجماعية لا تُرتكب من خلال عمليات القتل المباشر والمذابح فحسب، بل يمكن أن تقع أيضًا بارتكاب أعمال عدائية غرضها التدمير الفعلي لمجموعة محمية. وفي ضوء السوابق القضائية الدولية بشأن هذه العناصر المُحددة لجريمة الإبادة الجماعية، تسعى هذه الورقة البحثية إلى تسليط الضوء على عنصر مهم من عناصر جريمة الإبادة الجماعية، وهو عرقلة إسرائيل للمعونة الإنسانية، فضلًا عن فرض ظروف محددة تتعلق بالمأوى والغذاء والماء على السكان في غزة بشكل عمدي، على نحو يستهدف «التدمير/الهلاك الفعلي» لهم.
على مدى شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار 2024، أجرى مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان 13 مقابلة مع فلسطينيين من غزة، بالتركيز على النساء الحوامل والمرضعات من شمال غزة اللواتي هُجرن قسرًا إلى محافظة دير البلح وسط غزة، فضلًا عن مقابلات مع أطباء العاملين في مستشفيات غزة. وبسبب تأثر خدمات الاتصال (الهاتف والإنترنت) بالأعمال العدائية المكثفة في غزة، لم يتمكن مركز القاهرة من عقد مقابلات أكثر. وفيما يؤكد المركز أن هذه المقابلات التي لا تعد بالتأكيد مسحًا شاملًا للوقائع الجديرة بالدراسة، لكنها تنطوي على دلائل تدعم الوثائق الموجودة سلفًا حول طبيعة ومنهجية الانتهاكات المرتكبة في غزة، لا سيما بحق النساء الحوامل والمرضعات.
هناك أدلة مباشرة واسعة النطاق تعزز وجود "نية" لدى إسرائيل لتدمير الفلسطينيين في غزة. ولعل أول ما يمكن الاستدلال به في هذا الصدد، هو التصريحات المباشرة الصادرة عن مسئولين إسرائيليين، والتي تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم،[3] هذا بالإضافة إلى حجم الفظائع المرتكبة، والاستهداف المنهجي للفلسطينيين، وسط سياق عام يضمن إفلات الجناة من العقاب.[4]
وفي 20 مايو/أيار، أشار مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى أن أفعال إسرائيل في غزة، تمثل جزءً من خطة تجمع بين استخدام التجويع كأداة حرب، إلى جانب أعمال العنف المرتكبة بحق سكان غزة.[5] فمنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، دمرت إسرائيل أحياءً بأكملها، بما في ذلك بنيتها التحتية وخدماتها الحيوية، مستخدمةً أكثر من 45 ألف قنبلة في الأشهر الثلاثة الأولى فقط.[6] كما دمرت إسرائيل (كليًا أو جزئيًا) أكثر من 60 % من المباني السكنية في غزة،[7] في استخدام غير متناسب للقوة. وبحلول 31 مايو/أيار 2024، بلغ إجمالي عدد القتلى على يد القوات الإسرائيلية 36,284 فلسطينيًا، 32%منهم أطفال و20% منهم من النساء. هذا بالإضافة إلى أكثر من 10,000 جثة لا تزال تحت الأنقاض، وأكثر من 82,057 مصاب،[8] ونزوح أكثر من 75%من سكان غزة. هؤلاء الآلاف قُتل بعضهم في منازلهم، أو خلال رحلات التهجير القسري، أو حتى في مناطق آمنة محددة، كانوا قد عانوا حتى وصلوا إليها.[9]
في مقابلاتهن مع مركز القاهرة، استرجعت بعض النساء رحلة الفرار من منازلهن في شمال غزة إلى الجنوب، تحت هجمات الفوسفور والصواريخ والغارات الجوية، والجثث تحيط بهن على طول الطريق. بينما أكد كل من قابلهم المركز أن ملاجئ النازحين في غزة مكدسة، وتفتقر للبنية التحتية اللازمة، مما تسبب في إصابة قاطنيها بأمراض مثل الطفح الجلدي والالتهابات بسبب نقص خدمات النظافة والصرف الصحي.
هذا بالإضافة إلى المجاعة التي بدأت بالفعل في غزة، إذ توفي ما لا يقل عن 32 شخصًا، بينهم 28 طفلاً، بسبب الجوع.[10] ومن المتوقع أن يواجه 1.1 مليون شخص في غزة مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي، بحلول يوليو/تموز2024.[11] وبحسب ما ورد في المقابلات التي أجراها المركز؛ لم يتلق البعض في غزة أي مساعدات إنسانية منذ ثلاثة أشهر، بينما يتلقى آخرون المساعدات الغذائية الأساسية فقط، بشكل غير منتظم.
أغلب الأوقات ننام ميتين جوع. بقينا شهرين بنضل جوعانين
تواجه النساء الحوامل والمرضعات تحديات ومصاعب إضافية في غزة، حيث زادت الأعمال العدائية وقسوة الظروف المعيشية من خطر الإجهاض والإملاص والولادات المبكرة.[13] فقد أجمع 8 نساء حوامل، أجرى معهن مركز القاهرة مقابلات؛ أنهن لم يتمكن من بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، من الحصول على الفيتامينات الضرورية قبل الولادة، أو لقاحات الحمل، أو زيارة الطبيب، أو إجراء الفحوصات اللازمة لفترة الحمل. هذا بالإضافة إلى اعتمادهن على الأطعمة المعلبة التي يتلقونها كمساعدات غذائية في ملاجئهن، على نحو أثر سلبًا على النظام الغذائي الخاص بفترة الحمل.
أما النساء اللاتي خضن تجربة الولادة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فحسبما أكدت 6 نساء قابلهن مركز القاهرة؛ تفتقر المستشفيات لأي عقاقير مسكنة أو أدوية للتخدير. فضلًا عن أنهن بعد الولادة لم يكن قادرات على إرضاع صغارهن بشكل طبيعي بسبب معاناتهن من نقص التغذية السليمة، فاضطروا لشراء الحليب المصّنع المكلف، معتمدين على الاقتراض من الأقارب. وقد أكدن جميعهن على عدم تلقيهن أي مساعدة أثناء الحمل أو ما بعد الولادة أو أثناء رعاية المولود الجديد.
إن اقتران الهجمات الإسرائيلية بعرقلة وصول المعونات والمساعدات الإنسانية وإغلاق المعابر الحدودية، لدرجة ترك الفلسطينيين يتضورون جوعًا، مع محدودية الوصول للخدمات الطبية المنقذة للحياة، وانعدام الغذاء والملاجئ الآمنة، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الاستهداف للمدنيين، وخاصة النساء والأطفال، قد يشير إلى نية إسرائيل تدمير الشعب الفلسطيني كمجموعة (تدمير فعلي).
تحتاج غزة إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وتوسع عاجل في تقديم المعونات الإنسانية، لضمان تلبية الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين في غزة. وعلى إسرائيل الامتثال لأوامر محكمة العدل الدولية بوقف عمليتها العسكرية في رفح، وفتح المعابر البرية، والسماح بعبور المساعدات بسرعة، وضمان وصولها إلى غزة.
إن الفشل في حماية الفلسطينيين من المزيد من العنف لا تقع مسئوليته فقط على عاتق إسرائيل، وإنما هي مسئولية كل الدول التي تواصل تزويدها بالدعم السياسي أو المالي أو العسكري. هذا الدعم يمكّنها من تنفيذ ومواصلة هذه الانتهاكات التي قد تصل حد الإبادة الجماعية. ومن ثم، على المجتمع الدولي التحرك فورًا، ليس فقط للضغط من أجل وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وإنما لمنع ما وصفته محكمة العدل الدولية بأنه «إبادة جماعية محتملة». كما يجب على حلفاء إسرائيل وضع حد لمساهماتهم في جرائم الحرب الإسرائيلية، وذلك من خلال حجب المساعدات المالية ووقف إمدادات الأسلحة إلى إسرائيل، وعدم المخاطرة بالمسئولية عن جريمة التواطؤ في الإبادة الجماعية. وعلى الدول العربية، بعدما فشلت بشكل ملحوظ في بذل جهود لمحاسبة إسرائيل، أن تقدم خطة فعالة لإرساء وقف إطلاق النار وضمان استمراره، وتلبية الاحتياجات الإنسانية والأمنية للفلسطينيين.
كما ينبغي تحديد المسئولين عن الجرائم الدولية الخطيرة ومحاسبتهم، سواء الجرائم التي ارتكبتها حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية في جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول بما في ذلك احتجاز رهائن مدنيين، أو تلك الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل وما زالت ترتكبها في غزة والضفة الغربية. وتحقيقًا لهذه الغاية؛ يجب ضمان وصول آليات التحقيق الدولية المستقلة بشكل كامل لقطاع غزة والمناطق المتضررة الأخرى، وإعداد سجل بالوقائع والجرائم الخطيرة التي ارتكبتها جميع الأطراف وتحديد المسئولين عن ارتكابها أو تسهيل ارتكابها منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية.
تقدم هذه الورقة البحثية تحليلًا لقرائن جريمة الإبادة الجماعية التي تتكشف في غزة، في الفترة من 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى 31 مايو/أيار 2024. وفي سبيل ذلك أجرى مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان مقابلات مباشرة مع 13 شخصًا من سكان غزة، بينهم 8 نساء حوامل (ستة منهن خضن تجربة الولادة أثناء فترة إعداد الورقة) تم تهجيرهن قسرًا من شمال غزة إلى دير البلح وسط غزة. بالإضافة إلى 5 أطباء من مستشفيات العودة، وناصر، والنجار، والإماراتي، والشفاء، في غزة.
هذه المقابلات تم إجرائها بشكل فردي، من خلال منصة آمنة عبر الإنترنت، باللغة العربية دون مترجمين فوريين، لضمان سلامة المعلومات التي يتم تبادلها وحماية أمن الأفراد الذين يشاركون تجاربهم. كما استعان المركز بالمعلومات والتقارير مفتوحة المصدر من مصادر موثوقة، واطلع على أوامر وأحكام المحاكم الدولية، والسوابق القضائية في وقائع مشابهة.
وفيما يؤكد المركز أن هذه المقابلات التي لا تعد بالتأكيد مسحًا شاملًا للوقائع الجديرة بالدراسة، لكنها تنطوي على دلائل تدعم الوثائق الموجودة سلفًا بشأن طبيعة ومنهجية الانتهاكات المرتكبة في غزة، لا سيما بحق النساء الحوامل والمرضعات. إذ تسبب تضرر خدمات الاتصال (الهاتف والأنترنت) جراء الأعمال العدائية المكثفة في غزة، في صعوبة إجراء المزيد من المقابلات.
تم حجب الأسماء والمعلومات التعريفية والانتماءات والتفاصيل المحددة لأصحاب المقابلات في معظم الحالات، لضمان حمايتهم وعدم الكشف عن هويتهم.
منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، شنت إسرائيل حربًا غير مسبوقة على غزة، وتواصلت هجماتها العشوائية على المدنيين والبنية التحتية المدنية الضرورية لبقاء السكان الفلسطينيين. وقد حذر خبراء الأمم المتحدة المستقلون،[14] والباحثون،[15] والدول، بما في ذلك جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية،[16] من أن أفعال إسرائيل العدائية في غزة قد تشكل جريمة إبادة جماعية. لكن هذا لم يمنع إسرائيل من تكثيف حملتها لإبادة الشعب الفلسطيني في غزة.
في يناير/كانون الثاني 2024، وجدت محكمة العدل الدولية أن خطرًا معقولًا يتمثل في «التعدي الذي لا يمكن إصلاحه» على حقوق الفلسطينيين في غزة،[17]وأمرت المحكمة إسرائيل باتخاذ «جميع التدابير التي في وسعها» لمنع أعمال الإبادة الجماعية، فضلًا عما أقرته المحكمة من تدابير مؤقتة تتعلق بمنع التحريض على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، وضمان وصول المساعدات الإنسانية العاجلة.[18] وفي مارس/آذار 2024 وبسبب تدهور الظروف المعيشية للفلسطينيين في غزة، وانتشار المجاعة، كررت محكمة العدل الدولية أوامرها بشأن التدابير المؤقتة الصادرة في يناير/كانون الثاني، كما أمرت إسرائيل بالتعاون الكامل مع الأمم المتحدة و«اتخاذ جميع التدابير اللازمة والفعالة لضمان توفير الخدمات والمساعدات الإنسانية الملحة، دون تأخير ومن دون عوائق».[19] وفي 24 مايو/أيار، أعادت محكمة العدل الدولية تأكيد تدابيرها السابقة، كما أشارت إلى تدابير إضافية؛ «نظرًا لتدهور الأوضاع التي يواجها المدنيون في محافظة رفح»، داعيًة إسرائيل إلى وقف عملياتها في رفح فورًا. وقبل ذلك بأيام، في 20 مايو/أيار، طالب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات توقيف، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بحق كل من رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، فضلًا عن ثلاثة من قادة حماس.[20]
ورغم هذه الضغوط المتزايدة من المحاكم الدولية، وفي تجاهل تام لأوامر محكمة العدل الدولية، واصلت إسرائيل بل وكثفت حملة الإبادة الجماعية في غزة، واستمرت في استخدامها غير المتناسب للقوة، واستهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية، لا سيما المستشفيات ومخيمات النازحين. هذا بالإضافة إلى استخدامها التجويع كسلاح حرب، وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية. ونتيجة للقصف الإسرائيلي المتواصل جوًا وبرًا وبحرًا على معظم أنحاء قطاع غزة، بما في ذلك رفح، بلغ إجمالي عدد القتلى حتى 31 مايو/أيار 2024، 36,284 فلسطينيًا و82,057 مصاب.[21]
وبسبب إغلاق إسرائيل للمعابر الحدودية الرئيسية وإعاقة وصول المساعدات، تنفد الإمدادات الحيوية، لا سيما الوقود والأدوية.[22] ففي 6 مايو/أيار، وبعد أشهر من تحذيرات الخبراء المستقلين ومنظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك مركز القاهرة،[23]من العواقب الإنسانية الخطيرة لعملية برية في رفح؛ أطلقت إسرائيل تحذيرًا بإجلاء الفلسطينيين من شرق رفح إلى منطقة إنسانية «آمنة» موسعة في المواصي.[24] وفي اليوم نفسه، شنت عملية عسكرية برية في رفح، وسيطرت على المعبر الحدودي، وأوقفت دخول المساعدات الإنسانية، دون توفير بديل،[25]فتسببت في تهجير ما يقرب من مليون شخص قسرًا.[26]
ولا يزال صمت حلفاء إسرائيل الرئيسيين، والدول العربية، يمكّن إسرائيل من ارتكاب المزيد من جرائم الحرب. فبينما تتعاظم الحاجة الملحة لوقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة، تتحمل هذه الدول أيضًا مسئولية منع الإبادة الجماعية أو وقفها، ويعد صمتها أو مساعدتها المالية لإسرائيل أو إمدادها بالأسلحة تواطؤ على حملة إبادة جماعية تشنها إسرائيل في غزة.
رغم أن النقاش قد بدأ منذ الأشهر الأولى حول مدى إمكانية تصنيف جرائم إسرائيل في غزة باعتبارها جريمة إبادة جماعية، إلا أن جريمة الإبادة الجماعية واحدة من أكثر الجرائم الدولية صعوبة في تحديدها والقطع بوقوعها، إذ تدور مسألة توصيف الجريمة بالكامل حول عبارة «نية التدمير».[27] وقد وصفت الجمعية العامة للأمم المتحدة جريمة الإبادة الجماعية بأنها «إنكار لحق الوجود لجماعات بشرية بأكملها، كما أن القتل هو إنكار حق الأفراد في الحياة»، مضيفةً «إن هذا الحرمان من الحق في الوجود يصدم ضمير البشرية».[28] وفي تعريفها الدولي، الذي ظل ثابتًا منذ اعتماد «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها» في عام 1948، يتم تعريف الإبادة الجماعية على أنها مجموعة من الأفعال المرتكبة «بنية التدمير الكلي أو الجزئي» لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه.[29] هذه الأفعال قد تكون ممارسات فعلية أو تقاعس متعمد، مثل الفشل في حماية المجموعة من الأذى،[30] وتقتصر على ما يلي:[31]
- قتل أعضاء هذه المجموعة.
- التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأعضائها.
- تعمد فرض ظروف معيشية على المجموعة بقصد تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا؛
- فرض تدابير داخل المجموعة تستهدف منع الإنجاب؛
- نقل أطفال المجموعة قسرًا إلى مجموعة أخرى.
ولما كانت أعمال إسرائيل العدائية في غزة قد تندرج ضمن أكثر من عمل من أعمال الإبادة الجماعية المذكورة أعلاه، ستركز هذه الورقة على تسليط الضوء على مواطن وقرائن تعمد إسرائيل فرض ظروف معيشية على الفلسطينيين في غزة بغرض تدميرهم المادي كليًا أو جزئيًا.
أفعال الإبادة الجماعية لا تنطوي فقط على قتل أعضاء مجموعة معينة بشكل مباشر، لكنها تنطوي أيضًا على ارتكاب أفعال أو الامتناع عن أخرى، تهدف في نهاية المطاف إلى التدمير/الهلاك المادي والفعلي للمجموعة. ويشمل ذلك؛ الوفيات الناتجة عن عمليات القتل المباشر، أو تلك الناجمة عن الإهمال، أو الناجمة عن التجويع المتعمد أو إهمال تفشي الأمراض أو غيرها من الظروف المفروضة على مجموعة معينة وتهدد بقاءها على قيد الحياة.[32]مثل تقليل/ منع الحد الأدنى من الخدمات والمتطلبات الطبية الأساسية،[33]حرمان المجموعة من المسكن والملبس والعمل والنظافة، إخضاعهم لنظام غذائي كفافي، أو تهجيرهم بشكل منهجي أو طردهم من منازلهم، وتقليل الخدمات الطبية الأساسية إلى ما دون الحد الأدنى المطلوب.[34] كما تشمل أيضًا فرض ظروف معيشية من شأنها أن تؤدي للموت البطيء، مثل نقص السكن اللائق والملبس والنظافة.[35]ومن غير الضروري أن تؤدي هذه الظروف فعلًا إلى التدمير المادي/الفعلي، ومع ذلك، فهذه الأفعال تعكس النية لتحقيق هذه النتيجة.[36]
وبالإضافة إلى ذلك، رأت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أنه «في غياب دليل مباشر عما إذا كانت ظروف الحياة المفروضة على مجموعة معينة مفروضة عمدًا لتدميرها المادي كليًا، يمكن للمحكمة أن تسترشد بالاحتمال الموضوعي أن هذه الظروف قد تؤدي إلى التدمير/الإهلاك المادي للمجموعة جزئيًا. كما أن طول الفترة الزمنية التي تعرض فيها أعضاء المجموعة لهذه الظروف، وخصائص وطبيعة هذه المجموعة بما في ذلك درجة ضعفها وهشاشتها، هي عوامل توضيحية ينبغي أخذها في الاعتبار عند تقييم معيار الاحتمال أو النية».[37]
تواصل إسرائيل فرض قيود على الخدمات الأساسية لسكان غزة من قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول، بما في ذلك الوصول إلى المساعدات الإنسانية والخدمات الطبية والكهرباء والمياه والصرف الصحي والتوظيف،[38]فضلًا عن الحصار المطول وإغلاق المعابر الحدودية.[39] هذه القيود تزايدت بشكل كبير، بالإضافة إلى الهجمات الإسرائيلية العشوائية على المدنيين والبنية التحتية المدنية في غزة، مما أدى لظروف معيشية وصلت إلى مستويات كارثية وغير مسبوقة. وقد أقرت المحاكم الدولية هذا التدهور في ظروف الحياة في غزة خلال الأشهر الأخيرة، ففي مايو/أيار 2024، أشارت محكمة العدل الدولية لأن «الوضع الإنساني الكارثي» في قطاع غزة والذي كان معرضًا لخطر التدهور، حسبما ورد في أمرها الصادر في 26 يناير 2024، قد تدهور بشكل كبير. وقد تضاعف هذا التدهور وتنامى بشدة بالتزامن مع اعتماد المحكمة أمرها الصادر في 28 مارس/آذار 2024.[40] ومؤخرًا وجدت المحكمة أن العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح تنطوي على «مزيد من خطر الإجحاف غير القابل للإصلاح» للحقوق المنصوص عليها في اتفاقية الإبادة الجماعية، وأن هناك «خطرًا حقيقيًا وشيكًا بحدوث مثل هذا الإجحاف قبل أن تصدر المحكمة قرارها النهائي».[41]
وفي مايو/أيار 2024، ذكر مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بوضوح أنه «بفحص الأدلة؛ حرمت إسرائيل عمدًا وبشكل منهجي السكان المدنيين في جميع أنحاء غزة من الأشياء التي لا غنى عنها لبقاء الإنسان». وقد تم ذلك عبر الإغلاق الكامل لثلاثة معابر حدودية -رفح وكرم أبو سالم/كرم أبو سالم ومعبر إيرز- لفترات طويلة، وتقييد نقل وتسليم الإمدادات الأساسية. كما قطعت إسرائيل أنابيب المياه العابرة للحدود والتي تغذي غزة بالمصدر الرئيسي للمياه النظيفة، وأعاقت إمدادات الكهرباء منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، فضلًا عن مهاجمة المدنيين أثناء انتظارهم للمساعدات الإنسانية، وعرقلة تسليم المساعدات، ومهاجمة عمال الإغاثة.[42]
القيود التي تفرضها إسرائيل بشكل خاص على وصول المساعدات الإنسانية وتسليمها، أثرت بشكل كبير على الظروف المعيشية الأخرى، فضلًا عن التهجير القسري، وعدم كفاية المأوي، وانعدام النظافة، وغياب خدمات الصرف الصحي والتغذية ومياه الشرب النظيفة والخدمات الطبية. الأمر الذي أدى لانتشار الأمراض، وزاد من معدل الوفيات الناجمة عن هذه الظروف القاسية.
4.1 - التهجير القسري
لا يعتبر التهجير القسري جريمة إبادة جماعية في حد ذاته، إلا أنه دليل إضافي على ظروف الحياة القاسية التي فرضتها إسرائيل على سكان قطاع غزة، والتي ستؤدي حتمًا إلى «التدمير/الإهلاك الفعلي» لهؤلاء السكان.
لم تعتبر المحاكم الدولية التهجير القسري بمثابة إبادة جماعية. على سبيل المثال، في قضية كرواتيا ضد صربيا عام 2015، وجدت محكمة العدل الدولية أنه على الرغم من أن التهجير القسري في هذه القضية لم يتم تنفيذه بنية الإبادة الجماعية، وأنه كان «نتيجة» لأفعال أخرى يمكن اعتبارها «أعمالًا متصلة» بجريمة الإبادة الجماعية، لكن التهجير القسري يمكن أن يشكل أيضًا إبادة جماعية عندما «يحدث في ظروف تهدف إلى إحداث التدمير الفعلي/المادي للمجموعة.»[43]
كما خلصت الدائرة التمهيدية بالمحكمة الجنائية الدولية، في قرارها الثاني بشأن أمر المدعي العام بالقبض على الرئيس السوداني السابق عمر البشير، بسبب تورطه في جرائم إبادة جماعية بحق النازحين في معسكرات المشردين داخليًا في دارفور إلى أن: «أحد الاستنتاجات المعقولة التي يمكن استخلاصها هو أن أعمال تلويث الآبار ومضخات المياه والنقل القسري وما اقترن بها من إعادة التوطين، قد تم ارتكابها تعزيزًا لسياسة الإبادة الجماعية، وأن الأحوال المعيشية التي فُرضت على جماعات (الفور والمساليت والزغاوة) كان يقصد بها الإهلاك أو التدمير المادي لبعض الجماعات الإثنية.»[44]
منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصدرت إسرائيل، مرارًا وتكرارًا، أوامر لسكان غزة بإخلاء مناطق معينة في غضون ساعات، دون إعطائهم مهلة كافية أو ممرات إجلاء آمنة أو ملجئ آمن يحتموا به. وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصدر الجيش الإسرائيلي تحذيرات بضرورة تهجير نحو 1.1 مليون فلسطيني من شمال غزة إلى جنوب القطاع خلال مدة لا تتجاوز 24 ساعة،[45] ثم شنت القوات الإسرائيلية هجومًا بريًا على المدنيين النازحين نحو الجنوب.[46]
وفي إدانتهم للواقعة اعتبر خبراء الأمم المتحدة أن هذا الأمر بالإخلاء عملًا من أعمال التهجير القسري للسكان ويشكل «جريمة ضد الإنسانية» وينطوي على «انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي»،[47] مؤكدين أن إسرائيل ضربت بالقانون الدولي عرض الحائط بفرضها التهجير القسري على أهالي قطاع غزة.
تشير تقديرات الأمم المتحدة، أنه حتى 25 مايو/أيار 2024، تم تهجير 1.7 مليون فلسطيني بشكل قسري داخل غزة،[48] وأن قرابة 78% من مساحة القطاع تخضع لأوامر الإخلاء الصادرة عن الجيش الإسرائيلي.[49]
وبسبب أوامر الإخلاء الإسرائيلية من شمال قطاع غزة إلى جنوبه في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ارتفع عدد سكان مدينة رفح، في أقصى الجنوب، بشكل ملحوظ. إذ فر إليها نحو 1.5 مليون نازح فلسطيني بحثًا عن ملاذ آمن.[50] ورغم مزاعم الاحتلال بأنها منطقة آمنة، قصفت القوات الإسرائيلية المدينة قصفًا جويًا.[51] وفي 6 مايو/أيار، شن الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية برية واسعة النطاق على رفح.[52] ثم أصدرت إسرائيل أوامر للمدنيين بالتوجه إلى المواصي، بعدما صنفتها كمنطقة آمنة.[53] ولكن في واقع الأمر، تعاني منطقة المواصي المكدسة بالنازحين، غرب خان يونس (جنوب القطاع) من بنية تحتية هشة لا تحتمل إيواء مئات الآلاف من النازحين الجدد.[54] ووفقًا للأونروا، لا توجد في المناطق التي يفر إليها النازحون الآن إمدادات للمياه الصالحة للشرب أو مرافق للصرف الصحي. فضلًا عن أن المواصي أرض زراعية رملية (مساحتها 14 كيلومتر مربع) لا يوجد بها إلا القليل من المباني والطرقات، «والتي تكاد تكون منعدمة في كثير من الأحيان. فهي تفتقر إلى الحد الأدنى من الظروف اللازمة لتقديم المساعدة الإنسانية الطارئة بطريقة آمنة وكريمة.» كما أن الهجمات الإسرائيلية على مناطق تم تصنيفها سابقًا كمناطق آمنة، كما حدث مؤخرًا في رفح، يؤكد أنه لا وجود لمكان آمن في غزة.[55]
تقول إحدى نساء شمال غزة، التي اضطرت لإخلاء منزلها والفرار جنوبًا وهي حبلى، لمركز القاهرة:
كانت الطرقات مخيفة جدًا جدًا، جثث ميتين في كل مكان، عم يقولوا لنا ارجعوا، اليهود يستهدفوا الكل ارجعوا. رجعنا خفنا من القصف، لكن طلعنا بعد ساعات لأن صاروا يرموا الفوسفور فخفنا على الجنين. جربنا حروب كتير بس زي هيدي الحرب ما جربنا، وين ما تروح أنت بخطر.. أنا شفت القنابل بعيني مضيئة وبتنزل دخان اسود بعدين يصير أبيض.
في الفترة الممتدة بين 6 و18 مايو/أيار، أصدرت إسرائيل 6 أوامر إخلاء في رفح، و4 أوامر إخلاء في شمال غزة.[57] الأمر الذي تسبب في تهجير نحو 900,000 شخص خلال هذه المدة، أي ما يعادل 40% من سكان القطاع، بينهم ما لا يقل عن 812,000 نازح من رفح، وأكثر من 100,000 شخص نزحوا من شمال غزة.[58] هؤلاء تم إجبارهم على الفرار عدة مرات، وسلكوا طرقًا غير آمنة تحت القصف والهجمات العشوائية؛ بحثًا عن ملاذ آمن. وفي أفضل الأحوال انتهى بهم المطاف في مناطق مكتظة وفي ظروف قاسية.
تقول إحدى الناجيات بعد رحلة نزوح من شمال غزة إلى وسطها لمركز القاهرة:
مشينا مسافات طويلة تحت الغارات والصواريخ والطيارات.. حتى وصلنا لدير البلح منتصف الليل.. واحنا ماشين انقصفت سيارة ماشية قدامنا.. صرنا نصرخ.. مات كل اللي فيها، المرة، والولاد، وزوجها.. ما قدرنا حتى نطلع عليهم.
4.2 - الوضع الإنساني
أشارت المحاكم الدولية في مناسبات عديدة لاحتمالية تحول الظروف المعيشية المفروضة على مجموعة محمية، في وضع معين، إلى عامل من عوامل الإبادة الجماعية، وذلك إذا كان من شأنها أن تؤدي إلى (التدمير الفعلي). فعلى سبيل المثال، في قضية المدعي العام ضد رادوسلاف بردانين، وجدت الدائرة الابتدائية بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة أن «الطعام في المعسكر كان غير كاف على الإطلاق، وكان يقتصر على مرق خفيف وشريحة خبز مرتين يوميًا. ونتيجة لذلك، فقد العديد من المعتقلين الوزن وأصبحت أجسادهم نحيفة للغاية. وعانى بعضهم من الجوع الشديد لدرجة أنهم اضطروا لأكل العشب». و قد اعتمدت المحكمة على هذا العامل لتقييم ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.[60]
تعطل إسرائيل الجهود الإنسانية وتدفق المساعدات إلى غزة، على نحو يشكل انتهاكًا صارخًا لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، ومخالفة لقرارات مجلس الأمن رقم [61] 2720 ورقم[62] 2728 والتدابير المؤقتة التي أقرتها محكمة العدل الدولية. كما تتعمد إسرائيل بشكل عام إغلاق المعابر الحدودية الرئيسية في غزة لفترات طويلة، لا سيما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وفيما لا يزال معبر رفح الحدودي مغلقًا منذ 30 مايو/أيار 2024،أفادت بعض التقارير بإعادة فتح معبر كرم أبو سالم/كرم شالوم الحدودي، إلا أن عمليات إدخال المساعدات الإنسانية عبر المعبر لا زالت معطلة، فضلًا عن غياب الترتيبات الأمنية واللوجيستية لضمان الوصول الآمن للمعبر.[63] كما تم الإعلان في مايو/أيار عن افتتاح معبر جديد لإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، أُطلق عليه «معبر إيرز غرب» لكن هذا المعبر يُستخدم لإدخال كميات محدودة من المساعدات، بينما تخضع المناطق المحيطة به لأوامر الإخلاء.[64]
وتتفاقم أزمة القيود المفروضة على تدفق المساعدات بسبب الأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية، وتكدس الركام، وانعدام الأمن واستمرار الهجمات العشوائية في المنطقة،[65] بما في ذلك الهجمات على شاحنات المساعدات الإنسانية، دون مساءلة الجناة.[66] وتواصل القوات الإسرائيلية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 الهجوم على قوافل المساعدات ومراكز التوزيع، رغم محاولات مجموعات الإغاثة التنسيق المسبق مع السلطات الإسرائيلية لضمان حمايتهم.[67] الأمر الذي أسفر عن مقتل أكثر من 250 عامل إغاثة في غزة، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى الآن.[68]
طوال شهر أبريل/نيسان، لم يدخل لغزة يوميًا سوى 193 شاحنة محملة بالمساعدات، بما في ذلك الوقود، مقارنة بـ 500 شاحنة كانت تدخل يوميًا قبل بداية الأزمة في أكتوبر/تشرين الأول 2023.[69] وفي 27 مايو/أيار، ذكرت الأونروا أنه من بين 200 شاحنة محملة بإمدادات إنسانية أفرغت حمولتها على الجانب الفلسطيني يوم 26 مايو/أيار، لم يتم استلام سوى 30 شاحنة بسبب القيود المشددة على الحركة، والغارات الجوية المستمرة التي تشنها القوات الإسرائيلية، وإطلاق حماس للصواريخ.[70]
هذه القيود تسببت في تفاقم الأزمة وتدهور الظروف المعيشية؛ إذ أدى تعطيل تدفق المساعدات إلى نفاد الإمدادات الأساسية.[71] وفي ظل صعوبة الحصول على الوقود داخل القطاع، تعاني المرافق الطبية وسيارات الإسعاف صعوبات كبيرة في الوصول بالمصابين إلى المستشفيات، مما يعرض حياة بعضهم للخطر، وخاصة الفئات الأضعف من الرضع والنساء الحوامل والمصابين بالصدمات النفسية.[72] كما باتت خدمات القطاع الطبي والمستشفيات مهددة بالتوقف التام بسبب نقص الوقود اللازم لتشغيل مولدات الطاقة الكهربائية،[73] خاصة وحدات العناية المركزة، ووحدات حديثي الولادة، وغرف العمليات، مما يعرض الأطفال ومرضى الصدمات والنساء الحوامل -اللاتي تحتجن لإجراء عمليات قيصرية- لأخطار بالغة.[74] فمن بين 36 مستشفى في غزة، لم يتبقى، في 30 مايو/أيار، إلا 14 مستشفى فقط قادرة على العمل بشكل جزئي، معظمهم يصعب الوصول لهم، أو تخطوا طاقتهم الاستيعابية فلم يعد بإمكانهم تقديم الخدمات لمرضى جدد، بسعة حالية تبلغ حوال 1292 سريرًا للمرضى، أي حوالي 36 % فقط من السعة الإجمالية الأصلية لهذه المستشفيات.[75]
وفي رفح خرجت جميع المستشفيات عن الخدمة، بسبب الهجمات الإسرائيلية المتكررة، ولم يعد من الممكن الوصول إلى مستشفى العودة أو مستشفى كمال عدوان، آخر مستشفيان في شمال غزة، يقدمان خدماتهما لقرابة 150000 شخص.[76]
وبسبب شح المساعدات الإنسانية، وانتشار الجوع وسوء التغذية على نحو غير مسبوق، وفيما تفيد تقارير بوفاة العديد من الأشخاص بسبب الجوع وسوء التغذية، من المتوقع أن يواجه 1.1 مليون شخص في قطاع غزة خطر المجاعة حد الموت، بحلول يوليو/تموز المقبل، بعد نفاد كامل إمداداتهم الغذائية وقدراتهم على التكيف والجوع الكارثي.[77]
في 20 مايو/أيار 2024، أكد مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بأنه توجد «أسباب معقولة للاعتقاد بأن القادة الإسرائيليين يتحملون المسئولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في قطاع غزة» ويشمل ذلك «تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب.»[78] وفي وقت سابق، في شهر مارس/آذار، خلصت محكمة العدل الدولية إلى أن «الفلسطينيين في غزة لم يعودوا في مواجهة خطر المجاعة فقط، كما ورد في الأمر السابق [الصادر في 26 كانون الثاني/يناير 2024]، لكن هذه المجاعة قد بدأت تظهر فعلًا»[79]
وفي أبريل/نيسان دق برنامج الأغذية العالمي ناقوس الخطر وحذر أنه توجد «أدلة معقولة على قرب تحقق مؤشرات المجاعة الثلاثة؛ انعدام الأمن الغذائي، وسوء التغذية، والوفيات. هذه المؤشرات الثلاثة سيتم بلوغها في الأسابيع الستة المقبلة».[80]وحتى 1 أبريل/نيسان، لقي ما لا يقل عن 32 شخصًا حتفهم في مستشفيات شمال غزة، بما في ذلك 28 طفلًا، بسبب سوء التغذية والجفاف.[81]
بين أبريل/نيسان ومايو/أيار 2024، أجرى مركز القاهرة مقابلات مع 13 فلسطينيًا تم تهجيرهم قسرًا. وقد أكد بعضهم أنهم لم يتلقوا أي مساعدات إنسانية منذ ثلاثة أشهر، بينما أفاد آخرون أنهم لم يستلموا سوى بعض المساعدات الغذائية الأساسية وبشكل متقطع، مما أجبرهم على الاقتراض من الأقارب والأصدقاء ليتمكنوا من توفير احتياجاتهم الأساسية. كما أقر جميعهم أنهم محرومون من مياه شرب صالحة وكافية، فضلًا عن محدودية إمكانية حصولهم على الغذاء. كما أكد جميعهم أنه على مدار أيام عديدة كانوا يقتاتون على وجبة واحدة فقط يوميًا للبقاء على قيد الحياة، معتمدين على المعلبات كمصدر أساسي للغذاء لسد جوعهم، وعلى المياه الجوفية لتلبية احتياجاتهم من الماء. ووفقًا لليونيسف، فإن 96% من مياه غزة غير صالحة للاستهلاك البشري،[82] كما حذرت الأونروا في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 من أن قرابة 70 % من سكان قطاع غزة يشربون مياه مالحة وملوثة.[83]
وحسبما وصفت إحدى الأمهات حديثة الولادة في مدرسة دير البلح الآثار الناجمة عن هذا الوضع لمركز القاهرة:
مرت أيام كتير ما أكلنا، كان الطحين مش متوفر أبدًا والأكل شبه معدوم ويلي بيتوفر أعطيه لابني وبنتي وأنا وزوجي ما ناكل، مع اني كنت حامل، وأغلب الأوقات ننام مايتين جوع. بقينا شهرين بنضل جوعانين.
مساعدات غذائية قليلة جدًا جدًا جدًا ونادرة جدًا وإذا إجت بتكون مثلًا كل 3 أشخاص بيضة واحدة أو لكل العائلة علبة فول واحدة. أول ما جينا كل أسبوع، حاليًا يمكن إلنا 3 شهور ما طلعلنا.
يبحث النازحون في غزة الذين بيأس عن الأمان في ملاجئ مكتظة وظروف بائسة، وغالبًا ما يكون ذلك في أي أرض مفتوحة متاحة، أو يحتموا بالمباني المتضررة أو التي تم إخلائها، بما في ذلك المدارس والمستشفيات. وبسبب تصاعد الأعمال العدائية وتعطيل وصول الإمدادات الإنسانية، ثمة نقص حاد في الخيام ومواد الإيواء والمواد غير الغذائية التي يتم توزيعها على النازحين، خاصة الوافدين حديثًا من مدينة رفح.[86] إذ أكد أهالي غزة الـ 13 الذين أجرى المركز مقابلات معهم، أن ملاجئهم كانت مكتظة، تفتقر للبنية التحتية اللازمة، يتكدس فيها من 6 إلى 9 عائلات في غرفة واحدة صغيرة، كل عائلة من 5 إلى 10 أفراد. وبعض الغرف صغيرة لدرجة أن الأزواج لا ينامون داخلها، بل ينامون في خيام منصوبة في ساحة المدرسة بسبب الزحام الهائل.
هذه الظروف المعيشية، خاصة في ظل صعوبة الوصول للمياه النظيفة ومرافق الصرف الصحي في الملاجئ، قد أدت لانتشار الأمراض المعدية بين النازحين الفلسطينيين في غزة.[87] إذ صرح أحدهم في مقابلته مع المركز أنه لا توجد مياه في حمامات ملجأهم، الذي هو داخل مدرسة في محافظة دير البلح، إلا لمدة ساعة واحدة على الأكثر في اليوم، مما يعني استحالة الحفاظ على النظافة الشخصية لقاطني الملجأ، أو غسل الملابس أو الأطباق، أو ضمان الحد الأدنى من مستويات النظافة الصحية.[88] كما أشار آخرون إلى (طوابير) الحمام الطويلة جدًا، لدرجة أنهم لم يتمكنوا في بعض الأحيان من استخدام الحمام إلا مرة واحدة في اليوم. وبحسب إحدى النساء النازحات في مأوى غير رسمي مع مولودها الجديد في دير البلح، فإن خيمتها محاطة بأفواج من الذباب وأكوام من القمامة مع طفح مياه الصرف الصحي. مضيفًة أنه من المحتمل أن يكون هذا هو السبب الرئيسي وراء إصابتهم بالطفح الجلدي ولدغات الحشرات.[89] وفي شهادة أخرى لإحدى النساء الحوامل للمركز وصفت مأواها، قائلة:
نزحنا على دير البلح على ملعب الشهيد محمد الدرة وهو ملعب معشب، قعدنا بخيمات والخيم على عشب صناعي وطبعًا العشب لا يمتص المطر وصار في كتير مطر وفاتت الماء على الحرامات والفرشات هيدا غير إن الملعب كله زبالة ومجاري وما في ماء وكهرباء.
4.3 - تداعيات الوضع على النساء الحوامل والمرضعات والأطفال
تتحمل النساء الحوامل والمرضعات وأطفالهن حديثي الولادة العبء الأكبر لأهوال الحرب وظروف الحياة القاسية في غزة، لا سيما في ظل محدودية أو انعدام المأوى المناسب والرعاية الصحية وإمكانية الوصول للغذاء. وتشير التقديرات أنه اعتبارًا من 16 مايو/أيار، لا يزال ما يقدر بنحو 150000 امرأة حامل ومرضعة يواجهن ظروفًا ومخاطر صحية رهيبة.[91] هذا بالإضافة إلى ارتفاع حالات الإجهاض والإملاص والولادات المبكرة بسبب الإجهاد والأضرار النفسية الناجمة عن أعمال العنف وتردي الظروف المعيشية.[92] وقد حذر صندوق الأمم المتحدة للسكان في أبريل/نيسان الماضي، من أن 15000 امرأة حامل تواجه خطر المجاعة الوشيكة، وأن 95 % من النساء الحوامل والمرضعات يواجهن فقرًا غذائيًا حادًا، ويعانين من نقص حاد في المغذيات الدقيقة.[93]
تقول إحدى النساء في مقابلة مع مركز القاهرة، أنها حملت بجنينها بواسطة الإخصاب المخبري (تلقيح صناعي)، بعد 12 عامًا من المحاولات المضنية، وأنجبت طفلها في أبريل/نيسان 2024. وتتذكر الأم هذا اليوم وضعت فيه مولودها في مستشفى العودة، في شمال قطاع غزة، قائلة:
أنا فتت على العملية من فرحتي شوف بنتي بعد عمر مسيطرة عليا وحمد الله تم كل شيء، بس أنا لازم نام ليلة بالمستشفى لأن في متابعة وكانت ليلة الله يعلم فيها، أنا بس كان بدي روح ويطلعوني من المكان، كان في قصف في النصيرات، أنا طلعت وبليلتها صار في القصف بالمشفى.
كما أدى نقص الرعاية الصحية اللازمة للأمهات، بالإضافة لانعدام إمكانية الحصول على المياه النظيفة ومحدودية الخدمات الصحية وسوء التغذية، إلى تدهور الحالة الصحية للأطفال حديثي الولادة. إذ تم تشخيص إصابة أكثر من 5000 طفل تتراوح أعمارهم بين 6 و59 شهرًا بسوء التغذية الحاد، حتى 8 مايو/أيار.[95] وفي شمال غزة وحده، يعاني أكثر من 31% من الأطفال دون سن الثانية من سوء التغذية الحاد.[96] كما أدى إغلاق جميع مستشفيات الولادة -باستثناء ثلاثة مستشفيات فقط- إلى ارتفاع الضغط الهائل على المرافق الصحية في القطاع، لا سيما فيما يتعلق بالمعدات والإمدادات والوقود والأدوية والموظفين.[97]
وقد أجمعت النساء الحوامل الثمانية اللاتي قابلهن المركز، أنهن من بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، لم يتمكن من الحصول على الفيتامينات و/أو تطعيمات الحمل اللازمة، أو زيارة الطبيب، أو إجراء الفحوصات اللازمة طوال فترة حملهن. هذا بالإضافة لاختلال نظامهن الغذائي واستحالة توفير التغذية اللازمة لهن، بسبب اعتمادهن بشكل أساسي على الأطعمة المعلبة التي يحصلن عليها كمساعدات غذائية في ملجأهم:
آخر مرة شفت حكيم فيها كنت بخامس شهر، رحت اطمن عن الولد. لما ولدت بمستشفى العودة ما كان في بنج بجسمي، ولدت بصعوبة... صار معي ضعف دم وصفار بعدني، لهلئ عم عاني من الولادة.
ما مرت ع ولا أي طبيب ولا أي دكتور لأطمن ع صحة الجنين بعد المشي الطويل، ما كنتش اعرف إذا الجنين عايش أو مش عايش، وكل يومين مرة حس انو عم يتحرك بجسمي، ضل خايفة وسألنا إذا في دكاترة ما في أبدًا.
لما كنا بمدرسة الشاطئ كان المكان يلي أنا فيه على الطابق الرابع، فأنا تصاوبت وصار معنا انهيار الحجار ينظل علينا ونزلت من الطابق الرابع وحملي بأوله، ومشات مسافة كبيرة لروح ع مكان آمن. وبردو ما كان آمن. (انروا) قالو المكان آمن، من بعدها فتت عند الدكتورة لأتصور لأن أشك في شيء مو منيح، قالتلي للأسف ما فيك تصوري، ما في كهرباء وإذا بدي أعمل على الطاقة عدد الحوامل كبير كتير، ما فيني اعمل لناس وناس لا.
أيام وبفوت بشهر الولادة وما عندي أي خطة ولا حتى بعرف شو بعمل، بيحكو في مستشفى بس أنا كيف بوصلها في إسعاف يوصلني؟ أو ما يجي أصلا؟ ما في سيارات حتى، ما في مستشفى قريبة، هيدي تجربة أولى. أنا لو في بيتي ح كون خائفة انو تجربة أولى، المكان مش مهيئ، اليوم عم نشوف في مكان لنجيب آواعي للولد لسا مبارح يعني مش بس مكان ما في دكاترة، ما في بنج، ما مسكنات.
إن عملية تقييم ارتكاب الإبادة الجماعية ليست مرتبطة فقط بالفعل الإجرامي، أي حدوث الإبادة، أو حجم الهجمات أو عدد الضحايا، بل هي عملية تستوجب أيضًا إثبات توافر (نية التدمير) لدى الجناة لمجموعة ما.
وفقًا للتعريف الدولي للإبادة الجماعية، والذي ظل قائمًا منذ اعتماد اتفاقية عام 1948 بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، تشير الإبادة الجماعية لمجموعة من الأفعال المرتكبة «بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية». وقد وضع الفقه الدولي معاييرًا محددة لتفسير الحالة الذهنية للجناة وتحليل دوافعهم وتحديد نيتهم. وتستخلص المحاكم وجود هذه النية من عدمه من مجموعة من الأدلة المباشرة، مثل وجود خطة عامة أو سياسة إبادة جماعية،[101] بالإضافة إلى الوثائق الرسمية أو تصريحات المسئولين رفيعي المستوى،[102] وكذلك من خلال فحص الدلائل الظرفية التي تخضع لتقديرات المحكمة وتعتمد على وقائع وملابسات القضية.[103]
وكانت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، قد اعتمدت معايير مختلفة يمكن استخدامها كدليل لإثبات نية الإبادة الجماعية. وتشمل؛ السياق العام، وحجم الفظائع، والاستهداف الممنهج للضحايا بسبب انتمائهم لمجموعة معينة، أو استعمال مصطلحات مهينة تجاه المجموعة المستهدفة.[104] ووافقت الدائرة الابتدائية للمحكمة الجنائية الدولية على الاعتماد على الأدلة الظرفية للوصول إلى استنتاج نية الإبادة الجماعية، وذلك فقط في حالة تعذر الوصول إلى أي «استنتاج معقول آخر من الوقائع ».[105] واشترطت محكمة العدل الدولية أن يكون استنتاج نية الإبادة الجماعية هو الاستدلال المعقول الوحيد المستمد من نمط سلوك معين.[106]
وبالنظر إلى ما يجري في قطاع غزة، توجد أدلة مباشرة وظرفية شاملة على نية إسرائيل تدمير الفلسطينيين في غزة. وفي 20 مايو/أيار، أكد مكتب المدعي العام أن أعمال إسرائيل في غزة كانت جزءً من خطة مشتركة لتجويع المدنيين عمدًا، كوسيلة من وسائل الحرب واللجوء إلى أعمال عنف أخرى ضد المواطنين المدنيين في غزة. كما شدد على أن استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، إلى جانب الهجمات الأخرى والعقاب الجماعي المطبق على المدنيين في غزة، أدى لتداعيات حادة وواضحة ومعروفة.[107]
5.1 - التصريحات الرسمية المباشرة
تكشف العديد من تصريحات قادة ومسئولين إسرائيليين رفيعي المستوى عن وجود نية ارتكاب الإبادة الجماعية، من خلال خطاب يهدف لنزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، مع ضمان الإفلات من العقاب.[108] ففي 9 أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، أن إسرائيل «تفرض حصارًا كاملًا على غزة. لا كهرباء، ولا طعام، ولا ماء، ولا وقود. كل شيء مغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية، ونتصرف وفقًا لذلك.»[109] وقبل ذلك بيومين، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تحدث نائب رئيس الكنيست وعضو لجنة الشئون الخارجية والأمن، نيسام فاتوري، عن «هدف مشترك» هو «محو قطاع غزة من على وجه الأرض».[110]
وقد استمر القادة الإسرائيليون في استعمال هذا النوع من الخطابات دون مساءلة، وهو ما يعكس الحالة الذهنية لصانعي القرار والسياسات الإسرائيليين، رغم الجهود الدولية المتزايدة من قبل أطراف أخرى، بعضهم حلفاء إسرائيل، أو إجراءات محكمة العدل الدولية.
5.2 - الملابسات: حجم الدمار
منذ أكتوبر/تشرين الأول، سويت أحياء سكنية بأكملها بالأرض جراء القصف الإسرائيلي، وتحولت العديد من مرافق البنية التحتية والخدمات الحيوية إلى ركام، حيث استخدمت القوات الإسرائيلية أكثر من 45 ألف قنبلة في الأشهر الثلاثة الأولى.[111] كما دمر القصف الإسرائيلي أكثر من 60 % من المباني السكنية في غزة كليًا أو جزئيًا، وألحق أضرارًا جسيمة بأكثر من 155 منشأة صحية، و171 منشأة تابعة للأونروا، و130 سيارة إسعاف،[112] مما يؤكد الاستخدام غير المتكافئ للقوة والقتل غير المبرر في غزة. وبحلول 31 مايو/أيار، بلغ إجمالي عدد القتلى على أيدي القوات الإسرائيلية 36,284 فلسطينيًا، 32% منهم أطفال و20% منهم من النساء، إضافة إلى أكثر من 82,057 مصابًا.[113] إلا أن تقديرات تشير إلى أن الأرقام الحقيقية أعلى بكثير، إذ لا يزال أكثر من 10 ألف جثة تحت الأنقاض، كما لم تشمل هذه الحصيلة للقتلى الضحايا الذين ماتوا بسبب نقص الأدوية والعلاجات الطبية المنقذة للحياة.[114]
هؤلاء الأشخاص بعضهم لقوا حتفهم في منازلهم، أو أثناء رحلات النزوح، أو بعدما وصلوا لمناطق صُنفت أنها آمنة، أو داخل مخيمات النازحين التي تتعرض للهجوم بشكل يومي.[115] ففي مايو/أيار 2024 وحده، هاجمت إسرائيل ما لا يقل عن 7 مخيمات للاجئين، منهم 9 هجمات على مخيم جباليا فقط، شمال قطاع غزة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 67 شخصًا. هذا بالإضافة إلى 6 هجمات على مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، أسفرت عن مقتل 70 شخصًا.[116] وفي 26 مايو/أيار، قُتل أكثر من 46 شخصًا، بينهم 23 امرأة وطفلًا ومسن، بعدما هاجم الجيش الإسرائيلي مخيمًا يأوي المدنيين النازحين في تل السلطان، بمدينة رفح، جنوب القطاع. بينما أصيب مئات المدنيين بسبب الحروق البليغة الناجمة عن هذه الاعتداءات.[117] وبعد يومين فقط، في 28 مايو/أيار، أدت غارة إسرائيلية جوية عنيفة على موقع للنازحين في مدينة المواصي، والتي زعمت إسرائيل أنها «منطقة آمنة»، إلى مقتل نحو 21 شخصًا، بينهم 12 امرأة، وإصابة أكثر من 64 آخرين.[118]
لم يؤد هذا الدمار الهائل لحرمان المدنيين من الوصول إلى الإمدادات الحيوية وخدمات الرعاية الصحية فحسب؛ بل استمر خلال رحلات النزوح الشاقة، وجعل البحث عن الأمان أمر شبه مستحيل، في أي مكان في غزة.
كما لقي العديد من الأطباء والممرضين وعمال الإغاثة والصحفيين مصرعهم جراء هذه الهجمات. إذ تشير التقديرات أنه حتى 20 مايو/أيار، قُتل أكثر من 224 عاملًا إغاثيًا، و 493 من العاملين في مجال الرعاية الصحية، و147 صحفيًا في غزة.[119] كما تزامنت هذه الهجمات مع عرقلة إدخال الإمدادات الإنسانية وإغلاق المعابر الحدودية، لدرجة أن العديد من الفلسطينيين تُركوا بلا غذاء ولا دواء ولا مأوى، يصارعون الجوع والتشرد، والمرض، في ظل محدودية أو انعدام الخدمات الطبية المنقذة للحياة. هذه العوامل مجتمعة، فضلًا عن الارتفاع غير المسبوق في عدد الضحايا المدنيين، خاصةً النساء والأطفال، تكشف عن نية إسرائيل تدمير الشعب الفلسطيني بشكل جماعي.
لذلك ينبغي النظر إلى الهجمات الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول ضمن السياق التاريخي لفلسطين، والاحتلال العسكري الإسرائيلي، وانتهاكاته الممنهجة بحق الفلسطينيين، بما في ذلك؛ حملات التهجير المتكررة، وممارسات التمييز العنصري واسعة النطاق، والنشاط الاستيطاني غير القانوني، والذي يهدف لتوطين الإسرائيليين داخل الأرض المحتلة. فضلًا عن سياسة إسرائيل المستمرة المبنية على هدم المنازل ومصادرة الأراضي والفصل العنصري.
إن التأمل في هذه الوقائع والملابسات ضمن هذا السياق التاريخي، مع التمعن في حجم الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تشكل مجموعة من الأدلة الواقعية والمعقولة للاعتقاد بأن سياسة منع الإمدادات الإنسانية تعكس احتمال وجود نية الإبادة الجماعية في العدوان الإسرائيلي على غزة.[120]
يتطلب الوضع في غزة اعتماد قرار عاجل بوقف فوري ودائم لإطلاق النار، والتوسع العاجل في تقديم المعونة الإنسانية لضمان تلبية الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين في غزة. كما ينبغي على إسرائيل الامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي وقوانين حقوق الإنسان.
كما يتطلب الوضع الراهن أن تأمر محكمة العدل الدولية بما يلي:
- وقف إسرائيل عمليتها العسكرية في رفح فورًا.
- فتح المعابر البرية في غزة والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية بشكل عاجل لغزة.
أن الفشل في حماية الفلسطينيين في غزة من المزيد من العنف لا تقع مسئوليته فقط على عاتق إسرائيل، وإنما هي مسئولية كل الدول التي تواصل تزويدها بالدعم السياسي أو المالي أو العسكري. هذا الدعم يمكّنها من تنفيذ ومواصلة هذه الانتهاكات التي قد تصل حد الإبادة الجماعية. ومن ثم، على المجتمع الدولي التحرك فورًا، ليس فقط للضغط من أجل وقف فوري ودائم لإطلاق النار؛ وإنما لمنع ما وصفته محكمة العدل الدولية بأنه إبادة جماعية محتملة. كما يجب على حلفاء إسرائيل وضع حد لمساهماتهم في جرائم الحرب الإسرائيلية، وذلك من خلال حجب المساعدات المالية ووقف إمدادات الأسلحة إلى إسرائيل، وعدم المخاطرة بالمسئولية عن جريمة التواطؤ في الإبادة الجماعية. كما ينبغي على الدول العربية، بعدما فشلت بشكل ملحوظ في بذل جهود لمحاسبة إسرائيل، أن تقدم خطة فعالة لإرساء وقف إطلاق النار وتضمن استمراره، وتلبية الاحتياجات الإنسانية والأمنية للفلسطينيين.
كما يجب تحديد المسئولين عن الجرائم الدولية الخطيرة ومحاسبتهم، سواء الجرائم التي ارتكبتها حماس وجماعات فلسطينية أخرى في جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بما في ذلك استمرار احتجاز الرهائن المدنيين. أو تلك التي ارتكبتها إسرائيل ولاتزال ترتكبها في غزة والضفة الغربية. وفي سبيل هذه الغاية، يجب ضمان وصول آليات التحقيق الدولية المستقلة بشكل كامل لقطاع غزة والمناطق المتضررة الأخرى، بما في ذلك لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بالأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية وإسرائيل؛ ومكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وغيرها من الآليات المماثلة التي قد تكون مكلفة بإعداد سجل بالوقائع والجرائم الخطيرة التي ارتكبتها جميع الأطراف، وتحديد المسئولين عن ارتكابها أو تسهيل ارتكابها منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية.