مسعود الرمضاني
عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.«قراءة الناس لا تقع عبر الحدس او الصدفة أو المزاج، بل هي قراءة متأنية نسبر من خلالها أغوار الاخرين»
(Patrick King “Read people like a book”)
منذ ظهوره الإعلامي المتكرر وقبل انتخابه بسنوات، لم ير التونسيون في قيس سعيد، سوى أستاذ القانون المتواضع، المحب للعدل والعدالة والزاهد في السلطة والمال، لقد كان بالنسبة للتونسيين نقيضا حيّا لطبقة سياسية اعتبرها اغلب الشعب متعالية ومتكالبة على الحكم ومتوثبة للمناصب والامتيازات.
ولم ينتبه أغلب الناس إلى أن أستاذ القانون لم يكن زاهدا في الحكم تماما، فهو يبشر بعقيدة ثابتة ومشروعا سياسيا جديدا، عبّر عنهما في عديد المناسبات، تلميحًا وتصريحًا، كما أن معادته للطبقة السياسية، لها منطلقات أخرى غير تلك التي يراها التونسيون، إذ هي تحيل إلى رؤيته للديمقراطية ومؤسساتها وأحزابها، وحتى لمواعيدها الانتخابية الدورية.
«انتهى عهد الأحزاب»
في حواره المرجعي والاهم مع الصحفية كوثر زنطور في «الشارع المغاربي»، قبل انتخابه بأشهر قليلة في 2019، فسّر قيس سعيد مشروعه الجديد ونظرية البناء القاعدي قائلًا إنه في صورة فوزه، سيسعى إلى حذف الانتخابات البرلمانية بشكلها الحالي، مضيفًا أن عهد الأحزاب السياسية قد ولّى وانتهى وانه سيعمل على وقف دعم الجمعيات سواء من الداخل أو من الخارج، وإنه يرى أن دستور البلاد يجب أن ينصّ على أن الدولة هي التي تعمل على تحقيق مقاصد الشريعة، متبنيًا طرحًا محافظًا حول المساواة والأقليات.
ولكن لم يطرح مساندوه من الأحزاب والمنظمات والنخب أسئلة كان يجب أن تُطرح، منها: هل يتطلب هكذا مشروع نظامًا ديمقراطيًا ليبراليًا ومؤسسات منتخبة وقوانين منظمة عادية؟ ألا تستوجب «الأيديولوجيا الرئاسية» الجديدة تفكيك أسس الدولة بصيغتها تلك وإعادة بنائها بشكل مختلف؟ ألا يفترض المشروع التأسيسي قوانين جديدة تمنح الرئيس سلطات واسعة حتى يتمكن من تطبيق تصوره لديمقراطيته المغايرة، التي تقلب البناء الديمقراطي المتعارف عليه تاريخيًا رأسًا على عقب؟
المشروع الجديد: سلطة واحدة
وهنا يتنزل كل ما قام به قيس سعيد بعد 25 جويلية 2021، حيث بدأ عبر المراسيم بتقويض كل مؤسسات الدولة القائمة وضرب كل السلطات المضادة وتطويع القضاء وصياغة دستور جديد و اتهام كل المعارضين والناقدين بالفساد والتآمر مع أطراف أجنبية، فالمشروع لا يتحمل المعارضة ولا مؤسسات تعديلية ولا قضاة لهم مرجعية قانونية مستقلة، إذ هو لا يتطلب إعادة تمثلّ الديمقراطية بصيغتها المتعارف عليها فقط، بل ويستوجب كذلك أن يختزل الرئيس –صاحب المشروع– كل السلطات وان يحتكر رؤية تبدو مقدسة حول الوطنية والحكم والسيادة والشعب، وقد روّج مُريدوه وأنصاره أن الديمقراطية الجديدة ستكون ملهمة لشعوب العالم جمعاء، وستكون بداية تأسيس لنظام عالمي أكثر عدلًا وإنصافًا.
فهل سيقبل رئيس يبشر بمشروع يغيّر مبادئ الديمقراطية ويُرسي بناءً قاعديًا جديدًا يقلب به كل الأشكال التمثيلية السابقة بالتسقيف الانتخابي، أي ألا يستكمل مشروعه الإنساني بسبب استحقاق ديمقراطي «روتيني»؟ وماذا يعني التسقيف الزمني لمشروع بتلك الأهمية والقداسة؟
الشعب لا يريد إلا رئيسًا وطنيًا:
منذ استئثاره بكامل السلطات وإصداره لمرسوم 22 سبتمبر 2022، الذي يعلن فيه أن رئيس الجمهورية هو من يتولى سن القوانين والقيام بكل الإصلاحات الدستورية، ما انفك السيد قيس سعيد يبرهن على أنه يسعى إلى تصحير الحياة السياسية والحزبية والمدنية ليظل وحيدًا على الساحة، حتى يتسنى له تطبيق تصوره حول الديمقراطية القاعدية واستكمال مشروعه في البناء القاعدي، غير عابئ بالأزمة السياسية الخانقة في الداخل ولا بعزلة تونس في الخارج.
وقد لمّح عديد المرات، حتى قبل تحديد الموعد الانتخابي بأكثر من سنة، أنه هو من يضبط شروط الترشح ويقيّم جدارة المترشحين، فالمترشح للرئاسة يجب أن يكون وطنيًا و «لا تربطه علاقات بالخارج» وأن يكون صاحب مشروع جديد ومبتكر، لأن الأمر لا يتعلق بمناسبة دورية عادية، إذ هي «قضية تحرر وطني»، بل «قضية حياة أو موت» أو «قضية بقاء أو فناء» كما ردد في مرات عديدة، كل هذا أوحى لكل ملاحظ متبصّر أنه لا يريد أن تنتهي ولايته عبر انتخابات عادية، لأنه لا يرى في المترشحين الأخرين إلا خونة وعملاء وبالتالي لا يستحقون المنافسة.
لأجل ذلك حوّر قانون هيئة الانتخابات، التي كان تأسيسها سنة 2011 منعرجًا تاريخيًا في الانتقال الديمقراطي، إذ صدر قرار رئاسي في الرائد الرسمي، في أبريل 2022، جاء فيه أن أعضاء الهيئة «يتم تعيينهم بأمر رئاسي» وليس بالانتخاب كما جرت العادة، وقد علّق رئيس الهيئة المعفى بأن «الأمر أصبح واضحًا بأنها هيئة الرئيس». ومن هنا جاءت الإجراءات التعجيزية للترشح ورفض قرارات المحكمة الإدارية والتضييق على مراقبة الانتخابات لتكون تماهيًا مع هذا المسار ورفضًا لأن يكون للرئيس منافسين جدّيين.
والخلاصة، في اعتقادي، أننا اليوم إزاء مشهد يجب تشخيصه بدقة قبل الخوض في المشاركة أو المقاطعة، فكلاهما تستوجب قراءة متأنية في ملامحها وظروف إنجازها وكذلك تبعاتها، فالرئيس يسعى بكل السبل والوسائل لاستكمال مساره، الذي يعتبره مصيريا، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بكل أسس الديمقراطية ومقوماتها ودورية استحقاقاتها، وحتى لو كانت نسبة المشاركة في الانتخابات متدنية، من ناحية، في المقابل تسعى الأحزاب و القوى المدنية والمهنية إلى تدارك أخطائها وضعفها وانقساماتها الحادة، مدركة أن بقاء الوضع الحالي يعني ضمورها وتلاشيها نهائيًا.
لكن الأكيد أن هناك مشهدًا جديدًا بصدد التشكل، وهو مشهد لا تفعل فيه الأحزاب والمنظمات فقط، بل أيضًا الشباب الطامح لمستقبل أفضل والطبقات الشعبية والأطراف المهمشة، وكل أولئك الذين أرهقتهم الأوضاع الاجتماعية المتدهورة وسراب الوعود الزائفة، فبدأ صبرها ينفد.
المصدر: جريدة الشارع المغاربي
Share this Post