مسعود الرمضاني
عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.مخطئ من يعتقد انه يمتلك الحقيقة، مهما كانت مرجعيته الأيديولوجية أو مسلماته الدينية؛ فما نعرفه ونتداوله مع حولنا هو حقيقتنا نحن، التي لا تتجاوز أحيانا ما رسخ لدينا من أفكار واجتهادات وأوهام أو قواعد أخلاقية وتشريعات وقوانين تعلمناها من محيطنا الخاص والعام، والتي كثيرًا ما نحاول أن ندافع عنها باستماتة وعناد، على أساس أنها «حقيقة سرمدية» لا تقبل الشك ولا الريبة، دون أدنى تنسيب أو تواضع يستوجبه شغف التعلم، فاكبر عدو للمعرفة، كما يقول عالم الفيزياء ستيفن هاوكنغ، ليس الجهل وإنما «وهم المعرفة»، وهو وهمٌ لا يساعدنا على التفكير وتقييم حدود قدراتنا الذهنية وإدراك أننا نعرف أقل بكثير مما نعتقد، وأن الحقيقة أكثر تعقيدًا مما نتوهم والبحث فيها يستدعي جهدًا فكريًا وتواضعًا معرفيًا حتى نتمكن من الخروج من ظلال أوهامنا إلى مسار طويل نحو اكتشافها. ذاك ما يراه، مثلا، أفلاطون في «أمثولة الكهف» التي تحيل إلى أهمية الخروج من ظلمة «حقائقنا» ومعتقداتنا التي تربينا عليها ومن التقاليد التي ألفناها ونزع قيود مرجعيات ساذجة وسطحية كبلت عقولنا وأجسادنا، حتى تعودنا على حمل أثقالها واستسلمنا إليها دون مساءلة، خروج يضئ لنا شمس الحقيقة المبهرة فيصدم أعيننا نورها الساطع إلى حين نألفه، وهذا يتطلب إرادة حقيقية للمعرفة ورغبة في التمرد على الفهم الحسي ومسافة عقلانية من أفكارنا التقليدية واستعدادًا ذهنيًا للبحث، لأن «لا أحد سيصبّ الحقيقة في عقلك، إنها شيء عليك أن تكتشفه بنفسك» حسب تعبير ناعوم تشومسكي، والرغبة في اكتشافها معاناة فكرية ممتعة ومجزية… لأن سعادة البحث فيها أهم من نتائجها.
إيقاظ العقول من سباتها:
تلك هي مهمة الفلسفة التي توقظ عقولنا الكسلى من سباتها وخمولها، عقول استسلمت لأفكار مسبقة دون تمحيص أو تعلقت بموروث ديني وثقافي طغت عليه الخرافة والأسطورة أو واقع سياسي واجتماعي خضعنا لقوانينه الجائرة دون مساءلة. والفلسفة ليست ترفًا فكريًا ولا هي عالم مُثل متعالي ومنقطع تمامًا عن الحياة، بل هي نمط عيش وأداة تفكير تدفع إلى اجتراح الحقيقة من جدران الواقع وهي اهتمام بموقع الذات، التي لا تكتمل إلا من خلال صراع «ثنائية الإخضاع والتحرر»، كما يراها ميشال فوكو… وكل القيم التي أتت بها الحداثة حول «المواطنة والمساواة والقانون جاءت عن طريق الفلسفة»؛ إذ أن مفهوم الحق، عند الفلاسفة وخاصة لدى فلاسفة التنوير، هو الذي مهد لقيم تدخل في الحق الطبيعي للإنسان، مثل الحرية التي أصبحت قيمة حيوية ومحركًا أساسيًا لكبرى الثورات التاريخية…
فلسفة حقوق الإنسان:
ورغم أن مفاهيم حقوق الإنسان لم تكن وليدة عصر الحداثة، إذ لها شذرات مرجعية تعود إلى بدايات الفلسفة اليونانية وكذلك إلى إرهاصات دينية مستنيرة، إلا أن فلسلفة الحداثة هي التي أعطت ذاك الزخم العقلاني والمشروعية الأخلاقية لمفاهيم ظلت لزمن طويل رهينة رؤى ميتافيزيقية متعالية.
ولأن الفكر المستنير وحده غير كاف لتحقيق أبعاد الإنسان المتعددة واستعادة إرادته التي انتزعها من كل الأوهام عبر بحث طويل ومضني، وذلك بعد أن سوّى الإنسان علاقته مع الدين، باعتبار أن هذا الأخير أصبح مسألة شخصية تخضع للإرادة الحرة للفرد ولا تستحق وساطة بينه وبين الله؛ كان واجبًا، كذلك، أن يحسم هذا الفرد، سلميًا حينًا وبالعنف أحيانًا أخرى، صراعه مع السلطة الحاكمة التي تتردد في ربط قوانينها المجحفة بمتطلبات حقوقه، وكان لابد لصاحب السلطة أن يقتنع بأن لم يعد له الحق في مقايضة سلطته المطلقة بالأمن والحياة «للرعية»، فانتزعت الفلسفة الحق في الحرية وافتكت كل الحقوق الأخرى التي تحدد من تغوّل الحكومات وتوسع فضاء حقوق الفرد…. ولأن الفلسفة ليست مفاهيم جامدة، بل صيرورة تتطور بتطور الفكر؛ فإن المفاهيم التي جاءت بها فلسفة الحداثة حول مركزية الإنسان وفردانيته وحقوقه ظلت دائما خاضعة للتأمل والمراجعة والتفكيك والنقد والإضافة، سواء في علاقة بالسلطة أو بالملكية أو في العقود الأخيرة، في علاقة الإنسان بمحيطه، حيث لم يعد هو سيّد الطبيعة يستغلها كما يشاء.
حين تموت الفلسفة:
أما الأيديولوجيا، سواء كانت مرجعيتها دينية أو علمانية، فهي عكس الفلسفة، تبدأ، عادة، حين يتوقف الأشخاص عن التفكير والبحث ويقدمون قناعتهم على أساس إطلاقي. و«القناعات»، يقول، الفيلسوف الألماني، نيتشة «أشد خطورة على الحقيقة من الأكاذيب». وبينما تهدف الفلسفة إلى البحث عن الحقيقة عبر الشك والتفكيك والبناء والمنطق؛ تهدف الأيديولوجيا إلى تغيير العالم بناء على أفكار مكتسبة ولكنها ثابتة و«حقائق» لا تقبل الدحض، إذ أخطر ما في الأيديولوجيا أنها تتحول، في أوج طغيانها، من نسق فكري وقيم فردية، إلى أداة تكبيل للعقل ورؤية مجتزئة لحياتنا ومحيطنا، فتصبح، حسب تعبير الكاتب المغربي عبدالله العروي، «نظامًا فكريًا يحجب الواقع» حيث لا يرى «المؤدلج» العالم إلا من خلال ثقب بابها المغلق، حينها تتحول من نظرية واجتهاد فكري إلى حقيقة ثابتة، لا تقبل المراجعة وهي في حالة اشتباك دائم مع من حولها.
يقول أحد الفلاسفة عن الفرق بين الأيديولوجيا والفلسفة: «إذا رأيت الناس يتناقشون بهدوء، فتلك هي الفلسفة، التي تربت على حوارات وجدل سقراط، أما إذا رأيتهم يتشاجرون فتلك هي الأيديولوجيا… فحين يصير الحوار رفضًا متبادلًا، فاعلم أن الفلسفة قد ماتت وأخذت الأيديولوجيا مكانها».
عقيدة الحقد:
سنة 1937، كتب المفكر الهولندي مينو تيربراك (Mennou Ter Braak) مقالًا مرجعيًا حول النازية الصاعدة آنذاك تحت عنوان «الاشتراكية القومية كعقيدة حقد» وهي دراسة حول الحقد الأيديولوجي الذي تبشر به النازية، مبرزًا المخاطر الأخلاقية التي تصاحب كل فكر عقائدي يبشر بالمساواة وينطق باسم عامة الشعب، بغاية الوصول إلى السلطة، فهو قادر على شحن الجماهير بالكراهية والحقد على كل رأي مخالف، خاصة زمن الأزمات الاجتماعية. ولكن ماذا لو تمكن هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة كاملة من الحكم، مثلما حصل مع أدولف هتلر؟ يقول تير براك: «إذا مسك هؤلاء الحمقى بالسلطة فانهم يتحولون إلى طغاة» ويتحول توابعهم إلى عبيد.
حاول تيربراك، سنة 1937، أن يقنع أشباه المثقفين وعامة الناس بخطورة ما سمي آنذاك بـ«جاذبية النازية» ولكنه فشل، لذا أصيب باكتئاب شديد وانتحر سنة 194… أما تحاليله الثاقبة فظلت راهنيتها حيّة كلما برزت الأيديولوجيات الشعبوية، لتنصب نفسها وصية على الديمقراطية وعلى الشعوب.
هكذا ندرك أن أمثولة أفلاطون –المشار إليها في بداية المقال– لا يجب أن تحيل فقط إلى نقد ما ألفناه من معتقدات وأفكار جُبلنا عليها، بل وكذلك على ما رسخ في أذهاننا من أيديولوجيات مطبقة، تدعي أنها تمتلك كامل الحقيقة ولا تقبل بهامش الشك وتدفع، أحيانًا، إلى الإقصاء والعنف. وأعتقد أن جزءً من أزمتنا الراهنة أننا دخلنا عالم الأيديولوجيا المسيّج دون مناعة فلسفية ولا حتى رؤية سياسية متعقلة.
المصدر: جريدة المغرب
Share this Post