مصر: قانون الإجراءات «الاستثنائية».. خطوة جديدة نحو تقويض العدالة
15/12/2024
على مدى السنوات العشر الماضية، دعت العديد من منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية ومختلف الجهات الفاعلة الدولية، السلطات المصرية إلى وضع حد لأسوأ أزمة حقوق إنسان في تاريخ مصر الحديث. وفي المقابل، تواصل السلطات المصرية إنكار الأزمة، والإعلان عن مبادرات زائفة تهدف فقط إلى احتواء الانتقادات الدولية، مع الإبقاء على المنظومة القمعية التي تشكل ركيزة الحكم الأساسية.
ولعل المسودة المقدمة مؤخرًا من لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بالبرلمان، بمقترح تعديل قانون الإجراءات الجنائية تعد مثال واضح على مقاومة السلطات المصرية للإصلاح، بل وتعكس سعيها المستمر من أجل تقنين تدابير "استثنائية" تضمن إحكام قبضتها وتشرعن لأهدر الكثير من حقوق مواطنيها. وذلك من خلال تحويل الانتهاكات والخروقات الممتدة على مدى العقد الماضي إلى إجراءات "قانونية" مشروعة، لا تستوجب المساءلة.
في هذا التعليق القانوني، الصادر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، نستعرض أبرز مشاكل القانون المقترح، ومواطن تعارضه مع الدستور المصري والمواثيق الدولية الملزمة لمصر. وكيف يعكس في مجمله مدى تشبث السلطات المصرية بالقمع كمنهج للحكم، ويؤكد أنه لا تراجع عن المسار السلطوي لعهد ما بعد يوليو 2013.
تمثل المسودة المقترحة لقانون الإجراءات الجنائية المصري ترسيخًا مقلقًا لتدابير استثنائية عصفت بسيادة القانون على مدى العقد الماضي، فضلاً عن إخلاله الجسيم بكافة ضمانات المحاكمة العادلة، ومنحه حصانة خاصة لقوات الأمن من المساءلة، وعدم تقديمه لضمانات تمنع الحبس الاحتياطي لأجل غير مسمى. هذه ليست إصلاحات ولا تعديلات، وإنما مخطط مرعب لتقنين القمع ومنحه صبغة شرعية.
التعليق سلط الضوء على إهدار المقترح لكافة ضمانات وإجراءات المحاكمة العادلة، بداية من الاتهامات المكررة والجهة المنوطة بالتحقيق فيها، مرورًا بإجراءات التحقيق وسلطات النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي، وإجراءات وظروف التفتيش والقبض، والحبس الاحتياطي وحرمان الزيارة وانتزاع الاعترافات وسوء المعاملة، وصولاً للمحاكمة والطعن على أحكامها وقراراتها. ففي كل هذه المراحل يعصف مقترح القانون بشكل واضح بحقوق المتهم، وحقوق الدفاع، وحقوق الشهود، وحرمة الحياة الخاصة للمواطنين، كما يقضي على كل فرصة لتحدي احتمالات سوء استغلال السلطة أو تعسف جهات التحقيق أو الموظفين العموميين أو مسئولي إنفاذ الأحكام، مانحًا لهم حصانة إضافية تضمن عدم محاسبتهم على أي تقصير أو خلل في الإجراءات أو انتهاك بحق المواطنين.
مركز القاهرة، طالب السلطات المصرية بسحب مشروع القانون المطروح، والعمل على مشروع قانون جديد؛ بالتشاور مع كافة الأطراف المعنية والمنظمات الحقوقية المستقلة، ضمن حوار وإجراءات علانية وشفافة. على أن يراعي القانون الجديد كافة المآخذ والاعتراضات الصادرة عن مختلف الجهات على المسودة الحالية.
لماذا نرفض قانون الإجراءات «الاستثنائية» المقترح؟
تعليق قانوني على مشروع قانون الإجراءات الجنائية المقدم من لجنة الشئون الدستورية والتشريعية
مقدمة
تكمن أهمية قانون الإجراءات الجنائية في أنه القانون المكمل للدستور، إذ يضع المعايير العامة لسلامة الإجراءات في المواد الجنائية، وينظم كافة إجراءات التقاضي أمام المحكمة الجنائية. ويحدد بشكل دقيق، مهام رجال السلطة العامة والنيابة والهيئات القضائية، ويضمن فعاليتها وكفاءة عملها. كما يُفترض أن يشكل هذا القانون الضمانة الرئيسية لحق المواطنين في محاكمة جنائية عادلة، وحق أي متهم في الدفاع، وحقوق المتهمين في استخدام كافة الوسائل القانونية لإثبات براءتهم. كما يفترض أن يضمن هذا القانون الحماية من استخدام ممثلي السلطة العامة لصلاحياتهم لإيقاع الأذى بالمتهمين، ويؤسس لمعاقبتهم حال ارتكبوا ذلك.
وبشكل عام تعكس نصوص قوانين الإجراءات الجنائية وآليات تطبيقها، مدى التزام الدول بالقواعد الدولية لحقوق الإنسان. فهي العصب القانوني الأساسي الذي يؤسس لضمان تحقيق العدالة، والمساواة أمام القانون. لذلك تعد من أهم القوانين التي تضمن الحقوق وفقًا لقواعد عامة مجردة وعادلة. وبناء على تطبيقها، تتشكل ثقة المواطنين في حياد مؤسسات الدولة، وتُختبر قدرة الدولة على تحقيق السلم المجتمعي، باعتبارها الغاية الأسمى لكافة القوانين.
مشروع قانون الإجراءات الجنائية المطروح مؤخرًا، والمقدم من لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بالبرلمان المصري، جاء بعد سنوات طويلة من غياب العدالة الجنائية وانتهاك حقوق المتهمين، ومحاولات عدة لتقنين الاستثناء بتعديلات تشريعية وقوانين جديدة تتعدى على حقوق الأفراد وحرياتهم. الأمر الذي ضاعف من حجم المطالب والتوصيات، من حقوقيين وسياسيين وصحفيين ومعنيين بالمجال العام، بإجراء تعديلات جذرية على كامل البنية التشريعية المصرية. ومع إطلاق السلطات المصرية الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في سبتمبر 2021 وبدء جلسات الحوار الوطني المصري في مايو 2023 تواترت تصريحات المسئولين التي تؤكد نية تعديل قانون الإجراءات الجنائية[1] لتلافي العيوب التي أدت لحدوث هذه الانتهاكات لحقوق المواطنين المصريين.
إلا أن مسودة القانون المقترح تنسف أي آمال متعلقة بإصلاح الوضع الحقوقي، وتبرهن بشكل واضح على أنه لا تراجع عن مسار القمع. فالمسودة المطروحة لا تعد مجرد تشريع قمعي آخر تضيفه السلطات المصرية لترسانتها من التشريعات السلطوية، بل هي بمثابة تأكيد من السلطات على أن الوضع "الاستثنائي" التي أعلنته بعد يوليو 2013 أصبح جزء لا يتجزأ من البنية التشريعية، ورؤية ناظمة لعلاقة السلطات بعموم المصريين القائمة على القمع وإحكام السيطرة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ بينما يضع مشروع القانون الجديد حد أقصى لمدة الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيقات، لا يقدم أي ضمانات للحد من سياسة "تدوير المعتقلين" المتبعة حاليًا. إذ يتم تجديد حبس المحتجزين عبر إدراجهم على ذمة قضايا جديدة بمجرد انتهاء الحد الأقصى لمدة حبسهم الاحتياطي على ذمة القضية الأولى. الأمر الذي يتيح الالتفاف على هذا الحد الأقصى وتمديده لأجل غير مسمى. كما يتيح المشروع حرمان المحتجزين من الزيارة لمدد مفتوحة، ويسمح باتخاذ إجراءات كتفتيش المنازل واحتجاز الأفراد ومراقبة الاتصالات بقرار النيابة وبدون أمر قضائي. وبالمثل، يجيز إصدار النيابة لأوامر بالمنع من السفر أو التحفظ على الأموال، للفترة التي تراها مناسبة، دون حكم قضائي.
مشروع القانون المقترح يكرس أيضا لممارسات التعذيب ويضمن إفلات المسئولين عنها من المحاسبة. إذ يبيح استخدام اعترافات انتزعت تحت التعذيب ويحصن المسئولين عن انتزاعها. كما يبيح مباشرة التحقيقات دون وجود المتهم ومحاميه، ويقنن لممارسات تعسفية متبعة مثل؛ حرمان المتهم ومحاميه من الاطلاع على أوراق القضية. هذا بالإضافة إلى تعدياته الفجة على حقوق الدفاع، وتعريض المحامي لإجراءات انتقامية من المحكمة.
ولعل طريقة إعداد القانون من البداية كشفت كثيرًا عن مقصده. فرغم أهمية قانون الإجراءات الجنائية ومساسه بالحقوق الأصيلة لكافة المواطنين المصريين، تم إعداد المشروع المطروح بشكل شبه سري، ودون أي شكل من الحوار المجتمعي مع الجهات المعنية من حقوقيين ونقابات وقانونيين ومؤسسات المجتمع المدني. إذ انتشرت بشكل مفاجئ أنباء عن تشكيل مجلس النواب للجنة فرعية لإعداد مشروع القانون، بينما مارست هذه اللجنة أعمالها بشكل سري. وجاء تشكيلها[2] ليؤكد رغبة النظام المصري في تمرير القانون دون حوار مجتمعي حقيقي.
وتوالت الإجراءات شبه السرية المتسرعة، حتى أنهت لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب مناقشة المشروع المقدم بالموافقة على معظم مواده، ودون الإعلان عن المواد التي تم تعديلها. الأمر الذي دفع المشاركين في الحوار الوطني للتبرؤ من النسخة المطروحة من قبل اللجنة، وإعلان عدم معرفتهم أو مناقشتهم لها، ودفع نقابة المحامين ونقابة الصحفيين ونادي القضاة لإصدار بيانات تعترض على النسخة المطروحة وطريقة إعدادها.[3]
أن المسودة المطروحة حاليًا لقانون الإجراءات الجنائية تتعارض في مجملها وفلسفتها مع الدستور المصري والتزامات مصر الدولية، وذلك انطلاقًا من عصفها التام بمبدأ الفصل بين السلطات، وتوسعها على نحو غير مسبوق في سلطات النيابة العامة إلى حد الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة المكفولة دستوريًا، من خلال مراقبة الاتصالات والمراسلات الخاصة وتسجيل الأحاديث في الأماكن الخاصة. ناهيك عن التعدي على حقوق الدفاع بحرمان محامي المتهم من الحديث خلال التحقيق إلا بإذن عضو النيابة. هذا بالإضافة إلى تحويل بعض الإجراءات الاحترازية الاستثنائية، المتبعة وقت جائحة كورونا للوقاية، إلى نص قانوني؛ مثل المحاكمات عن بعد، وتجديد الحبس الاحتياطي عن بعد، والفصل بين المتهم ومحاميه، وغيرها من التعديلات غير الدستورية، التي سيتطرق لها هذا التعليق القانوني تفصيليا. والتي تؤكد في مجملها أن النظام المصري يتخذ من المطالبات بتعديل بعض القواعد القانونية التعسفية، أداة لإدخال تعديلات هيكلية على البنية التشريعية الجنائية لتقنين إجراءات غير شرعية تنال من ضمانات المحاكمة العادلة.
في هذا التعليق القانوني، نستعرض أوجه تعارض القانون المقترح من لجنة الشئون الدستورية والتشريعية (اللجنة الفرعية) بالبرلمان، مع العديد من مواد الدستور المصري، فضلا عن مخالفته لمبادئ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه مصر في 1982. كما نسلط الضوء على إهدار مقترح القانون لكافة ضمانات وإجراءات المحاكمة العادلة، بداية من تعريف الجريمة والجهة المنوطة بالتحقيق فيها، مرورًا بإجراءات التحقيق وسلطات النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي، وإجراءات وظروف الاحتجاز، والحبس الاحتياطي والإجراءات الاحترازية الأخرى، وصولاً إلى المحاكمة وإصدار الأحكام وحق الطعن عليها. ففي كل هذه المراحل يعصف مقترح القانون بشكل واضح بحقوق المتهم، وحقوق الدفاع، وحرمة الحياة الخاصة للمواطنين، كما يقضي على كل فرصة لتحدي احتمالات سوء استغلال السلطة أو تعسف جهات التحقيق أو الموظفين العموميين أو مسئولي إنفاذ الأحكام، مانحًا لهم حصانة إضافية تضمن عدم محاسبتهم على أي تقصير أو خلل في الإجراءات أو انتهاك بحق المواطنين.
وفيما يلي نستعرض هذا تفصيليًا:
العصف بمبدأ الفصل بين السلطات
تبدأ تعديات مشروع القانون على ضمانات المحاكمة العادلة من إجراءات ندب قاضي التحقيق، إذ أجازت المادة (173) من المشروع لوزير العدل، أن يطلب من محكمة الاستئناف ندب قاضي تحقيق، لمباشرة التحقيقات في جريمة محددة أو نوع معين من الجرائم.[4] وهو ما يعني السماح لأحد أعضاء السلطة التنفيذية (وزير العدل) بالتدخل في أعمال السلطة القضائية وفق تقديره لما يراه من نوع معين من الجرائم، أو جريمة محددة، تستلزم انتداب قاضي تحقيق لها.
وبحسب نص المادة (173) هذا الندب يكون بقرار من الجمعية العامة للمحكمة أو من تفوضه، وفي ضوء ما جرى العمل به من تفويض الجمعية العامة لرئيس المحكمة باختيار قضاة التحقيق، يصبح أمر الانتداب محصور فقط بين سلطة شخصين (وزير العدل ورئيس المحكمة)، الأمر الذي يعرض المواطنين لخطر استغلال السلطة، ويفتح بابًا خلفيًا لتحقيقات استثنائية تخل بمبدأ الفصل بين السلطات، والحق في محاكمة عادلة، ومبدأ الحماية من إساءة استغلال السلطات المحميين بالمواد 5 ،53، 94 ،97 من الدستور، والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
والأخطر أن المادة (175) قيدت سلطة قاضي التحقيق نفسه في مباشرة التحقيق في جريمة معينة أو نوع معين من الجرائم، إلا بناء على طلب من النيابة العامة أو بناء على إحالتها إليه من الجهات الأخرى. مما يعني أنه في حالة تبين قاضي التحقيق أثناء تحقيقه في جريمة معينة وقوع جريمة أخرى ذات صلة بموضوع التحقيق، لكنها مدرجة في قرار انتداب خاص بقاضي تحقيق أخر، لا يجوز له مباشرة التحقيق فيها، وعليه أن يمتنع عن استكمال التحقيق وإحالة الأمر للقاضي المنتدب (سواء بطلب من وزير العدل أو قرار من المحكمة).
إن إخضاع بعض المتهمين انتقائياً لإجراءات خاصة يعد إخلالاً بحقهم في المساواة أمام القانون وحقهم في محاكمة عادلة محايدة، وحمايتهم من التعسف في استخدام السلطات. وجميعها حقوق محمية بموجب المواد 53 و94 و96 من الدستور، والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسة.
حصانة خاصة للموظفين العموميين ورجال الضبط ومسئولي السجون
حظرت المادة (9) من مشروع القانون، رفع الدعوى الجنائية ضد موظف عام أو مُستخدم عام أو أحد رجال الضبط في أي جنحة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها.[5] ومن ثم، حرمت هذه المادة المواطنين من حقهم الطبيعي في إقامة الدعوى المباشرة، في حالة تجاوز الموظف العام أو رجل الضبط لحدود سلطاتهم، ومنحتهم حصانة قانونية خاصة. ولم تكتف المادة بمنح الحماية القانونية للموظفين العموميين في الجنح التي يرتكبونها أثناء تأدية وظائفهم فقط، بل منحت الصياغة المطاطة لهذه المادة ذات الحماية للجرائم المرتكبة من قبل هؤلاء الموظفين خارج إطار وظائفهم.
هذه الحصانة تخل بشكل واضح بمبادئ ثابتة في الدساتير المصرية المتعاقبة، بما في ذلك الدستور الحالي.[6] إذ تتعدى على حق المواطنين في التقاضي، وتخل بمبدأ سيادة القانون والمساواة أمامه دون استثناءات، فضلاً عن مخالفاتها للمادة 14 من العهد الدولي المتعلقة بالحق في المحاكمة العادلة والمساواة أمام المحاكم والهيئات القضائية.[7]
المادة (45) منحت أيضًا حماية مشابهة لمسئولي إدارة السجون. إذ تنظم الفقرة الأولى منها حق السجناء في تقديم شكوى مكتوبة أو شفهية للقائم على إدارة السجن، على أن يتولى بدوره تبليغها للنيابة العامة.[8] لكنها في الوقت نفسه، لا تمنح محامي المحتجز أو ذويه الحق في إبلاغ شكواه للنيابة العامة مباشرة، وطلب التحقيق فيها. مما يعرض السجناء لخطر الانتقام في حالة كانت شكواهم من مسئولي إدارة السجون أنفسهم. كما أن المادة لم تشر لأي ضوابط أو إجراءات في حالة تقاعس مسئولي إدارة السجون عن تبليغ الشكوى للنيابة.
وقد سبق وتكرر في أماكن الاحتجاز رفض إثبات شكاوى السجناء، خاصة إذا كانت ضد أحد القائمين على إدارة السجن، وكثيرًا ما تعرض المحتجزين للانتقام أو سوء المعاملة جراء شكواهم. الأمر الذي يدفع السجناء في حالات عدة - وثقتها منظمات حقوقية- إلى الاحتجاج والإضراب عن الطعام، للضغط على الإدارة لفحص شكواهم أو تبليغها للنيابة والتحقيق فيها. هذه الشكاوى عادة لا يتم إثباتها أو النظر فيها إلا بعد تردي الحالة الصحية للمضربين عن الطعام بما يهدد حياتهم. وعادة ما كانت تُحفظ الشكاوى المقدمة من محامي المسجون أو ذويه، وتتعمد إدارة السجن عدم استلامها، أو عدم فحصها أو عدم تقديمها للنيابة للتحقيق.
ومن ثم، فهذه المادة تصادر حق السجناء الطبيعي في الشكوى من الانتهاكات المرتكبة بحقهم في أماكن الاحتجاز، بما في ذلك تلك المرتكبة من قبل القائمين على إدارة السجون، وتقف حائل أمام وصول شكواهم للنيابة والتحقيق فيها.
حصانة أخرى منحتها المادة (27) من مشروع القانون، لرجال الضبط القضائي ومرؤوسيهم ورجال السلطة العامة، إذ أسقطت جزاء البطلان على الإجراءات التي باشروا تنفيذها دون الالتزام بإظهار صفاتهم وشخصياتهم،[9] في مخالفة واضحة لمبدأ الشرعية الإجرائية في المواد الجنائية، المنوط بالسلطة التنفيذية تنفيذها، وعلى السلطة القضائية مراقبة سلاماتها. وانتهاك واضح لحق المتهم ومحاميه في التمسك ببطلان هذه الإجراءات وما ترتب عليها.
والأخطر أن مشروع القانون عرّف رجال السلطة العامة بأنهم: "كل شخص منوط به قانونًا الحفاظ على النظام والأمن والآداب العامة، وحماية الأرواح والأعراض والأموال، وعلى الأخص منع الجرائم وضبطها." هذا التعريف الفضفاض يمدد الحماية (الخاصة بعدم إظهار الهوية عند اتخاذ أي نوع من الإجراءات)، لمعظم العاملين بوزارة الداخلية. ومن ثم، يحميهم من الرقابة القضائية على أعمالهم والإجراءات التي يتخذونها لبيان قانونيتها وصحتها من عدمه، وبالتالي الطعن ببطلان ما نتج عنها من أدلة، أو معاقبتهم عليها.
التوسع في سلطات النيابة العامة
ألزمت المادة (62) من مشروع القانون النيابة العامة بالتحقيق في جرائم الجنايات فقط، بينما لها أن تجريه في الجنح أو غيرها "إذا رأت محلًا لذلك". فبناء على سلطتها التقديرية؛ للنيابة الحق في القرار بعدم التحقيق في الجنح والمخالفات. الأمر الذي يعد إخلال جسيم بضمانات المحاكمة العادلة، وعصف بحق المتهم في سماع أقواله وتقديم أوجه دفاعه المختلفة لدفع الاتهام عن نفسه وبيان حقيقة الواقعة المنسوبة إليه، والذي هو الغاية الرئيسية من التحقيق. وبناء عليه، يصبح من حق للنيابة، تقييد حرية المواطنين ومعاقبتهم دون تحقيق.
وفي ظل عدم وجود أدوات قانونية تكفل الرقابة المباشرة على قرارات النيابة العامة، يصبح هذا النص بابًا مفتوحًا للتعسف في توظيف هذه السلطة التقديرية. مما قد يترتب عليه مخالفة للمادة 96 من الدستور المصري الحالي، والتي تقضي بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. والمادة 54 التي تحمي الحرية الشخصية وتضع ضوابط محددة لتقييدها. فضلاً عن المادة 9 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي تقضي بحق كل فرد في الدفاع عن نفسه والتحري عن الأدلة والمحاكمة العادلة.
أما المادة (147) من مشروع القانون فمنحت للنائب العام أو من يفوضه أو قاضي التحقيق، الحق في منع المتهمين من السفر أو وضعهم على قوائم ترقب الوصول دون تحديد حد أقصى لهذا المنع،[10] مكتفية بالإشارة إلى أن مدة المنع سنة قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة.
صياغة هذه المادة توسعت في سلطة المنع، التي لم تعد مقتصرة على النائب العام فقط، وإنما "كل من يفوضه" النائب، وهو ما يعني عمليًا إمكانية تفويض أي جهة -ومنها جهات قد لا تتسم بالحيدة والنزاهة المطلوبة- باتخاذ هذه الإجراءات، في إخلال إضافي بالحق في حرية التنقل. علمًا بأن تقييد حرية التنقل مرهون بأمر قضائي بموجب المادة 54 من الدستور، والتي تحمي الحرية الشخصية وتضع ضوابط محددة لتقيدها. والمادة 62 من الدستور التي تضمن حرية التنقل. ناهيك عن مخالفة ذلك للمادة 12 من العهد الدولي المتعلقة بالحق في حرية التنقل وضوابط تقيدها.
المادة (116) وسعت أيضًا من سلطة النيابة في مراقبة الاتصالات، والتي هي طبقاً للقانون القائم سلطة القاضي الجزئي. كما وسعت من سلطتها في مد الحبس الاحتياطي في بعض الجرائم، والتي هي حاليًا سلطة محكمة الجنح الاستئنافية المنعقدة في غرفة المشورة (وهي هيئة قضائية تتولى النظر في بعض الحالات لقرارات الحبس الاحتياطي بعد استنفاذ المدة المحددة للنيابة العامة لتجديد الحبس).
ولم تنطوي المادة على أي آليات للطعن على قرارات النيابة، التي تنال من حق المواطنين في حماية الخصوصية وحرمة حياتهم الخاصة، الأمر الذي يشرعن لتقييد حريتهم دون كفالة حقهم في الرقابة أو الإشراف القضائي على هذه الإجراءات.
كما أجازت المادة (116) لأعضاء النيابة العامة إصدار قرار بمراقبة وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية، وتسجيل الأحاديث التي تجري في أماكن خاصة لمدة ثلاثين يومًا. ومنحت للنيابة حق تجديد هذا القرار لمدة أو مدد أخرى مماثلة دون حد أقصى. مما يعني منح النيابة العامة "سلطة مطلقة" في اختراق خصوصية الأفراد، وعصف واضح بمبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ استقلال القضاء المحميين بموجب المواد 57 و59 من الدستور، والمواد 14 و17 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. كما يلاحظ نسخ الفقرات الثانية والثالثة للمادة المذكورة من قانون الإرهاب غير الدستوري، ليصبح انتهاك حرمة الحياة الخاصة دون حدود هو الأصل في النظام القانوني المصري.
جدير بالذكر، أنه خلال السنوات العشر الماضية، ثمة العديد من الوقائع التي تتضمن تسجيل مكالمات ومراسلات لنشطاء سياسيين وحقوقيين دون إذن قضائي، وإذاعتها في برامج تلفزيونية. وفي حالات عدة يتم استصدار أمر التسجيل بعد حدوثه فعلًا بمعرفة جهات أمنية، لاستخدامها في محاكمة النشطاء أو الإساءة إلى سمعتهم، دون عقاب لمرتكب هذا الانتهاك. ومن ثم، جاءت هذه المادة لتقنين هذه الإجراءات.
أما المادة(49) من مشروع القانون فوسعت من صلاحيات مأموري الضبط القضائي، ومنحتهم حق اتخاذ الإجراءات التحفظية التي يرونها مناسبة، طبقًا لسلطتهم التقديرية، بحق أي شخص موجود بالمنزل أثناء تفتيشه.[11] هذا النص يسمج بتخطي حدود الهدف المنصوص عليه في أمر التفتيش، إذ يحق لمأمور الضبط التفتيش عن أي شيء يراه مخالفاً، بينما يقصر النص الحالي سلطات مأموري الضبط في تفتيش المنازل والأماكن الخاصة على حدود الأمر القضائي الخاص بالتفتيش. وبذلك يصبح لمأمور الضبط سلطة تقدير القرائن واتخاذ إجراءات احترازية بناء عليها، دون استصدار أمر قضائي خاص بهذه القرائن. والأخطر، أن سلطة مأمور الضبط لم تعد قاصرة على القبض على المتهم فقط بعد التفتيش، إنما يحق له القبض على أي شخص يتصادف وجوده بالمنزل أثناء التفتيش، دون أية رقابة قضائية أو توافر حالة من حالات التلبس بارتكاب جريمة. الأمر الذي يشرعن لاحتجاز الأفراد واتخاذ الإجراءات التحفظية ضدهم لمجرد تواجدهم في مكان التفتيش.
وكما ذكرنا سلفًا، في ضوء توسع مشروع القانون غير مبرر في تعريف رجال السلطة العامة في المادة (47)، ومنحهم سلطة تقديرية واسعة في دخول المنازل والمحال المسكونة،[12] يعطى القانون الحق لمجموعة واسعة من رجال الأمن التابعين لوزارة الداخلية في دخول المنازل، أو تفتيشها، أو مراقبتها أو التصنت عليها، دون أمر قضائي في حالات الخطر. كما يمنح المشروع لرجال السلطة العامة سلطة مطلقة في تقدير ما إذا كانت هناك حالة من حالات الخطر من عدمه، دون تحديد لماهية ونوع هذا الخطر، وهل يعتبر مبرر كافي لاتخاذ إجراء ينطوي على انتهاك لحرمة الحياة الخاصة دون انتظار أمر قضائي.
هذا التوسع غير المبرر، يخالف بشكل صريح المواد 54 و99 من الدستور المصري، والمادتين 9، 17 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وبحسب لجنة حقوق الإنسان، المعنية بتفسير مواد العهد الدولي؛ "يجب حظر المراقبة، سواء إلكترونية أو غير ذلك، واعتراضات الاتصالات الهاتفية أو البرقية أو أي أشكال أخرى من التواصل، والتنصت وتسجيل المحادثات. كما يجب تقييد عمليات تفتيش المنازل لتكون مقتصرة فقط على البحث عن الأدلة الضرورية الواردة في أمر التفتيش، ويجب ألا يُسمح بأن تصل إلى حد المضايقة."
وفي مقابل كل هذه السلطات المطلقة للنيابة، حرمت المادة (245) خصوم النيابة (المتهمين) من حقهم الطبيعي في رد (أي تغيير) أعضاء النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي، إذا كانت الجريمة قد تمت ضدهم، أو ثبت تورطهم في الدفاع عن أحد الخصوم، أو أدلى أي منهم بشهادة في الدعوى، أو باشر عملًا من أعمال الخبرة ذات الصلة بموضوع الدعوى.[13] إذ منحت المادة (245) حصانة إضافية لهم، وألغت حق الخصوم في ردهم، على عكس القانون الحالي الذي ينظم حق الخصوم في رد أعضاء النيابة أو مأموري الضبط القضائي في حالة ثبوت أنهم أصحاب مصلحة في الإدانة، وتحقيقاتهم في الدعوى غير حيادية. الأمر الذي ينطوي على مخالفة عير مبررة لمبدأ حيادية التحقيق وإخلال مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في المواد 53 و97 من الدستور المصري والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
التعدي على حقوق الدفاع وضمانات سلامة الإجراءات
أجازت المادة (69) من مشروع القانون لعضو النيابة العامة اتخاذ قرار بمباشرة إجراءات التحقيق في غياب المتهم والخصوم أو وكلائهم القانونيين، "متى رأت ضرورة لذلك لإظهار الحقيقة"، على أن يتم تمكينهم "فيما بعد" من الاطلاع على الإجراءات "متي انتهت تلك الضرورة".
ولم تحدد المادة أي تعريف أو ضوابط لهذه "الضرورة" تاركة للنيابة العامة سلطة مطلقة في تقديرها. كما لم تنص المادة على موعد محدد يتوجب فيه إطلاع المتهم ووكلائه على الإجراءات والتحقيق. كما لم تنص على جزاء في حالة امتناع النيابة عن تمكينهم من هذا الحق. الأمر الذي يعني عمليًا شرعنة إجراءات استثنائية دأبت نيابة أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية (محاكم أمن الدولة ودوائر الإرهاب) على اتباعها خلال السنوات الماضية، وتكررت شكوى المحامين والمتهمين منها؛ وهي حرمان المتهمين ووكلائهم من الاطلاع على أوراق القضية ونص التحقيق.
وفي ظل غياب أدوات للطعن على قرارات النيابة العامة؛ نصبح أمام إخلالًا واضحًا بحق المتهم في الدفاع وحضور محام، وتمكينه من الاطلاع على التحقيق والإجراءات وكامل أوراق القضية، ومن ثم إخلال بحقه في محاكمة عادلة سليمة الإجراءات، يحميها النص الدستوري في المواد 54، 96، 98، 198، والمادتين 9 و14 من العهد الدولي.
كما منحت المادة (73) من مشروع القانون لعضو النيابة العامة الحق في حرمان المتهمين ومحاميهم من الحصول على نسخة من الأوراق بدعوى حماية "مصلحة التحقيق"، دون أي إلزام على عضو النيابة بتوضيح "هذه المصلحة" أو تفسريها. [14] الأمر الذي لا يخل فقط بحق الدفاع[15] وإنما يحرم المتهمون من مجرد الحق في الطعن على هذا القرار. ويعني عمليًا إمكانية مباشرة إجراءات التحقيق كاملة دون منح الحق للخصوم أو وكلائهم في الحصول على صورة من أوراق الدعوى. فضلاً عن السماح ببدء استجواب المتهم دون تمكين محاميه من الاطلاع على التحقيق.
كما ربطت المادة (105) تمكين محامي المتهم من الاطلاع على التحقيق قبل الاستجواب بيوم واحد بشرط موافقة النيابة العامة، في انتهاك صريح لحقوق المتهم وحقوق الدفاع وضمانات المحاكمات العادلة، وإخلال جسيم بسلامة إجراءات التحقيق. الأمر الذي ينطوي على مخالفة صريحة للمواد 54،58،96،98،198 من الدستور، والمادة 14 من العهد الدولي.
وفي تعدي كبير على حقوق الدفاع، أجازت المادة (242) لرئيس المحكمة إحالة محامي المتهم إلى النيابة العامة إذا وقع منه ما يمكن اعتباره "تشويشًا مخلًا بالنظام، أو ما يستدعي مؤاخذته جنائيًا" أثناء الجلسة. وهو ما يعطي صلاحيات واسعة وغير محددة لرئيس المحكمة على المحامي أثناء أداء واجبه في الدفاع، على نحو قد يقوض قدرته على مزاولة مهنته، خوفًا من التعسف أو استغلال سلطة رئيس المحكمة ضده. هذا بالإضافة إلى أن رئيس المحكمة غير مخول قانونًا بمعاقبة المحامين تأديبيًا، لأن ذلك يجعل من رؤساء الجلسات خصمًا وحكمًا في ذات الوقت. ومن ثم، يخل إخلالًا فادحًا بحق المتهمين في التمثيل القانوني، وفي محاكمة عادلة، ويصادر الحماية المقررة دستوريًا للمحامين، باعتبار المحاماة مهنة تشارك القضاء في تحقيق العدالة. ويخالف المواد 53،54،97،198 من الدستور، والمواد 14 و26 من العهد الدولي.
يعد حق المتهم ودفاعه في سماع الشهود ومناقشتهم لبيان الحقيقة ودفع الاتهام، حق أصيل ولازم لضمان محاكمة عادلة. إلا أن المادة (289) جعلت هذا الحق الأصيل طلبًا فرعيًا يخضع للسلطة التقديرية للمحكمة.[16] بما يتعارض مع مقتضيات العدالة التي تُلزم المحكمة بسماع الشهود بنفسها، وتمنح الحق للمتهم ودفاعه في مناقشتهم لبيان حقيقة الواقعة محل المحاكمة. كما أن صياغة هذه المادة تعكس رغبة المشرع في تمكين رجال الضبط القضائي (وهم عادة ضمن شهود الإثبات في الدعاوى الجنائية) من مناقشة المتهمين ودفاعهم. كما تتضح نية النص في تحصين محاضر الضبط والتحريات ضد الدفع بتناقض أقوال مأموري الضبط ومحرري محاضر التحريات. وبذلك تحرم هذه المادة المتهم من حقه في الدفاع والمحاكمة العادلة المنصوص عليهم بالمواد 96،97 من الدستور، والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
أما المادة (334) فأسقطت حق الدفع ببطلان الإجراءات الخاصة بجمع الاستدلالات أو التحقيق الابتدائي أو بالجلسات في الجنح والجنايات؛ إذا حدث الإجراء بحضور محامي المتهم،[17] بل واعتبرت المادة الإجراء الباطل صحيحًا إذا لم يعترض عليه المتهم في المخالفات! والقاعدة القانونية أن للمتهم ودفاعه الحق في التمسك ببطلان الإجراءات في أي مرحلة من مراحل الدعوى الجنائية، لأن بطلان الإجراء يترتب عليه بطلان ما ترتب عليه.
لذا فإسقاط الدفع ببطلان الإجراءات بعد مرحلة معينة، أو لمجرد حضور محامي المتهم، يفتح الباب أمام التغاضي عن إجراءات خاطئة وغير قانونية قد تدحض أصل الدعوى والاتهام، ومن ثم، ما يترتب عليها من أحكام وقرارات. وربما يتحمل المتهم مسئولية عدم كفاءة محاميه أو عدم انتباهه للخطأ في حينه، فيغلق القانون الباب أمام تداركه والدفع ببطلان الإجراء في وقت لاحق. كما أنه وفي حالات كثيرة قد يتعرض المتهم للإكراه المادي أو المعنوي للإجبار على التوقيع على اعترافات بمحاضر جمع الاستدلالات، أو يتم التحقيق معه ونزع اعترافاته بالإكراه ثم حبسه تحت تصرف من انتزعوا الاعترافات منه، فيخشى المتهم إعلان وقوع الإكراه عليه لحين يتم نقله لجهة احتجاز أخرى خوفًا من التعسف أو الانتقام. وفي هذه الحالة سيكون المتهم أمام خيارين، إما أن يعلن وقوع الإكراه عليه في التحقيق الابتدائي ويتعرض للبطش في جهة احتجازه، أو لا يثبت الإكراه في المخالفات خلال فترة التحقيق الابتدائي، ومن ثم يضيع حقه في الدفع ببطلان الإجراءات وبطلان الاعترافات التي وقع عليها تحت الإكراه، فينال عقاب على جريمة لم يرتكبها.
أن الأصل أن تتم كافة إجراءات المحاكمة بشكل صحيح لا يخالف القانون لدعم ثقة المواطنين في استناد أحكام القضاء إلى قواعد صحيحة لا يشوبها البطلان. وتصحيح الخطأ في أي مرحلة من مراحل الدعوى يضمن حق كل متهم في الدفع بالاتهام عنه، وحقه في محاكمة عادلة مبنية على إجراءات سليمة وقانونية.
وإذا ربطنا ما جاء في هذه المادة بما أقرته المادة (72) من المشروع نفسه، والتي تحظر على المحامي تقديم طلبات أو دفاع أثناء التحقيق إلا بإذن من النيابة العامة، يصبح الدفع ببطلان الإجراءات المقدم من محامي المتهم، مرهون فقط بإذن النيابة وموافقتها على تقديمه. مما قد يعرقل بشكل كامل إمكانية الطعن على هذه الإجراءات الباطلة أو إدراجها في المخالفات في حينها من قبل محامي المتهم. كما تفترض المادة علم المتهم بقواعد الإجراءات الجنائية، إذ هو مطالب بالاعتراض على الإجراء الباطل كشرط لتصحيحه. الأمر الذي قد يضفي أيضًا حماية على الإجراءات التي تمت بإكراه المتهم أو إجباره على عدم الدفع ببطلانها، في إخلال جسيم بحقوق الدفاع، وإضفاء حماية على "التدخل غير الشرعي" في شئون العدالة من خلال إجراءات باطلة.
أما الإجراءات التي ثبت بطلانها، فقد منحت المادة (336) للقاضي الحق في "تصحيحها"،[18]وهو ما يضفي حماية على الإجراءات الباطلة أو الأعمال غير القانونية التي تصدر عن مسئولي الضبط القضائي وممثلي النيابة العامة، ويعزز عدم اكتراثهم بسلامة الإجراءات أثناء أداء واجبهم، ويجعله أمر طبيعي مقبول ووارد، طالما سيتم تصحيحه "لاحقًا" إذ "رأى" القاضي بطلانه، بغض النظر عن الأثر القانوني لهذا الإجراء غير السليم.
كما يحرم المتهم من حقه الأصيل في التمسك بالبراءة لبناء الدعوى الجنائية على إجراءات باطلة قانونًا. إذ أن الأصل أن الإجراء الباطل يبطل ما بُني عليه من إجراءات، وما نتج عنه من أدلة، وبالتالي يعد سند قوي للطعن في بناء الدعوى من أساسها. وهو حق يجوز للمتهم ومحاميه التمسك به، في كل مراحل الدعوى الجنائية، لارتباطه بالشرعية الإجرائية.
هذا الإخلال الجسيم بضمانات سلامة إجراءات يعصف بكل حقوق المتهم في محاكمة عادلة ويخالف نصوص مواد الدستور 52،96،97، 99، 54،55،69،98، 184، 186 والمواد 7،9،14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
الاعتقال الإداري والحبس الاحتياطي ومنع الزيارة لمدد لا نهائية
لطالما طالبت المنظمات الحقوقية والفاعلون السياسيون بتعديل المواد الخاصة بالحبس الاحتياطي بعد أن شهد العقد الماضي حبس عشرات الآلاف من النشطاء السياسيين احتياطيًا لسنوات طويلة. فعلى الرغم من أن القانون المعمول به حاليًا ينص على عدم جواز حبس المتهم احتياطيًا أكثر من عامين. إلا أن السلطات دأبت على الالتفاف حول القانون عن طريق إضافة المحتجز إلى قضية جديدة بالتهم نفسها، لضمان استمرار حبسه، وعدم التقيد بالحد الأقصى للحبس الاحتياطي، فيما يعرف بممارسة "تدوير المعتقلين." وبالتالي تّحول الحبس الاحتياطي من إجراء استثنائي (اضطراري) تلجأ له جهات التحقيق في حالات محددة، إلى إجراء مُتبع يُستخدم تلقائيًا لعقاب المعارضين السياسيين وأصحاب الرأي.
فضلاَ عن أن مشروع القانون المقترح لم يضع أي ضمانات للحد من ممارسة التدوير. بل رسخ لاستخدام الحبس الاحتياطي كإجراء عقابي. إذ جاءت المادة (112)، لتضيف مبرر جديد لحبس المتهمين احتياطيًا، مستخدمًة تعبيرات فضفاضة شديدة العمومية؛ "توقي الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذي قد يترتب على جسامة الجريمة."[19] هذه الصياغة كانت السند لقرارات الاعتقال الإداري التي كانت سائدة في الماضي، فتم ضمها لمبررات الحبس الاحتياطي ليصبح الاعتقال الإداري قرارًا من النيابة.
تحدد المعايير الدولية ضوابط وحالات محددة يكون فيها الاحتجاز قبل المحاكمة مشروعًا، بما في ذلك أن يكون هناك اشتباه معقول بارتكاب الشخص للجريمة، ويكون الاحتجاز ضروريًا ومتناسبًا لمنع هروب المتهم، أو خشية ارتكابه جريمة أخرى، أو تدخله في سير العدالة. وهذا يعني أن الاحتجاز قبل المحاكمة ليس مشروعًا عندما يمكن تحقيق هذه الأهداف من خلال تدابير احترازية أخرى بخلاف الاحتجاز. ومن ثم فهذه المبررات التي تخضع بشكل كامل للتفسير والتأويل النسبي، قد تكون مدخل إضافي لتحويل الحبس الاحتياطي من إجراء احترازي قاصر على حالات محددة، إلى عقوبة تقررها النيابة لمجرد "الوقاية" مما تراه "إخلال بالأمن أو النظام العام."
أما المادة (113) فجعلت الحق في تقدير التدابير الاحترازية المطلوبة، بما في ذلك الحبس الاحتياطي، قاصرًا فقط على النيابة العامة،[20] على عكس القانون الحالي الذي منح حق إصدار التدابير الاحترازية لأي جهة من الجهات المختصة قانونًا (النيابة العامة أو القاضي الجزئي أو غرفة المشورة) باعتبارها الجهات المعنية بفحص قانونية القرار بالإجراءات الاحترازية، بغض النظر عن توليها التحقيق في القضية نفسها. الأمر الذي كان يتيح للمتهم الطعن على الإجراءات الاحترازية الصادرة من إحدى هذه الجهات أمام الأخرى. بينما مسودة القانون المقترحة تقصر حق إصدار القرار بالإجراءات الاحترازية على النيابة العامة المنوطة بالتحقيق في القضية، ولا يمكن الطعن على قرارها أو تظلم المتهم منه أمام أي جهة أخرى.
أن حرمان المتهم من حقه في مراجعة قرارات النيابة في مثل هذه الحالات، يمثل تعديًا على حقه في الحماية من القرارات التعسفية وإساءة استعمال السلطة من قبل النيابة باتخاذ إجراءات احترازية غير مبررة قانونًا لتقييد حريته الشخصية. كما يخالف هذا التحصين لقرارات النيابة العامة من الطعن، المواد 54،97 من الدستور، والمواد 9، 12 من العهد الدولي.
كما تقر المادة (116) حق النيابة العامة في مد مدة/مدد التدابير الخاصة بمراقبة المراسلات. وبذلك يمنح مشروع القانون مطلق الحرية للنيابة العامة في تمديد إجراء مراقبة المراسلات لأجل غير مسمى، فضلاً عن منحه السلطة نفسها للنيابة في تمديد الحبس الاحتياطي من خلال "تدوير المحتجزين" على قضايا جديد لضمان استمرار حبسهم. وذلك في إخلال بالحق في الحماية من الاعتقال التعسفي والحق في حماية حرمة الحياة الخاصة المكفولين دستوريًا بموجب المواد 54، 57،97 من الدستور، والمواد 9، 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
خلال السنوات العشر الماضية استخدم جهاز الأمن الوطني أدوات غير قانونية للضغط على المحتجزين على خلفية قضايا سياسية،[21] من أهمها الحرمان من الزيارة والحبس الانفرادي. وقد منحت المادة(119) من مشروع القانون لأي عضو من أعضاء النيابة العامة حق اتخاذ هذه الإجراءات "في كل الأحوال"،[22] ودون وجود أي آليات للطعن على هذه الإجراءات.
أن حرمان المتهم المحبوس احتياطيًا من الاتصال بغيره من المحبوسين أو منع الزيارة عنه ينطوي على شبهة تعذيب، وعقوبة إضافية، لم يحدد القانون مبرراتها أو أسبابها أو مداها الزمني، ولا طرق الاعتراض أو الطعن عليها. وذلك على نحو يخالف المواد 52،54، 55، 56،95،96 من الدستور المصري، والمواد 7،10 و14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
- إذا كانت الجريمة في حالة تلبس ويجب تنفيذ الحكم فيها فور صدوره.
- الخشية من هروب المتهم.
- خشية الإضرار بمصلحة التحقيق سواء بالتأثير على المجني عليه أو الشهود، أو العبث بالأدلة أو القرائن المادية، أو إجراء اتفاقات مع باقي الجناة لتغيير الحقيقة أو طمس معالمها.
- توقي الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذي قد يترتب عل جسامة الجريمة.
- إلزام المتهم بعدم مبارحة مسكنه أو موطنه.
- إلزام المتهم بأن يقدم نفسه لمقر الشرطة في أوقات محددة.
- حظر ارتياد المتهم أماكن محددة.
توسيع سلطات المحاكم لمعاقبة منتقديها
انطوت المادة (15) من مشروع القانون، على توسع مقلق في سلطات المحاكم وصلاحياتها خارج إطار القضايا التي تنظرها. إذ منحت محاكم الجنايات والنقض الحق في إقامة دعوى جنائية ضد كل من يرتكب "أفعال خارج الجلسة ترى فيها المحكمة إخلالًا بأوامرها أو بالاحترام الواجب لها."[23]
هذه التعبيرات الفضفاضة؛ "أفعال"، "الاحترام الواجب" تترك للمحاكم سلطة تقديرية في تحديد طبيعة "الأفعال" التي ترى فيها إخلالًا بأوامرها، أو "بالاحترام الواجب" لها. كما أن تمديد سلطة المحكمة للأفعال التي تقع خارج الجلسات، دون تحديدها على وجه الدقة، يعطي سلطة مطلقة للمحكمة في ملاحقة المواطنين والإعلاميين وأصحاب الرأي، ومتابعة تعليقاتهم ومواقفهم من الدعاوى والطلبات المنظورة أمام المحاكم أو ما يتعلق بها. وبذلك تصبح المحكمة خصمًا وحكمًا في ذات الوقت، والمواطنون عرضة لخطر إساءة استعمال سلطات المحكمة، على نحو يخالف بشكل المادة 96 من الدستور المتعلقة بضمانات تحقيق العدالة الجنائية.
تقنين المحاكمات والتجديدات عن بعد
لمواجهة جائحة كورونا اتخذت عدة دول إجراءات استثنائية لوقف انتشار العدوى. وكانت مصر من الدول التي استعانت بأدوات إلكترونية لتجديد الحبس والمحاكمة عن بعد، كوسيلة لمنع انتشار الوباء عبر قاعات التحقيق والمحاكم. ورغم انتهاء خطر الجائحة، ووقف كافة الإجراءات الاحترازية المتصلة بها في جميع المؤسسات والهيئات العامة والخاصة، إلا أن السلطات المصرية تستمر في تطبيق قواعد المحاكمة عن بعد.
تفصل المحاكمات عن بعد بين المتهم ومحاميه وقاضيه، فيكون المتهم في مكان احتجازه، تحت يد ضباط الأمن العام والأمن الوطني، ويكون محاميه في مقر النيابة أو المحكمة، ومن ثم قد يخشى المتهم التعرض لأي انتقام أو تعسف في مكان محبسه حال صرح بأي انتهاكات يتعرض لها أثناء احتجازه أو خلال التحقيق معه، أمام/ وتحت تصرف مرتكبي هذا الانتهاك.
ورغم أن مشروع القانون أجاز في المادة (526) لجهة التحقيق أو للمحكمة المختصة اتخاذ كل أو بعض إجراءات التحقيق أو المحاكمة عن بعد دون قيود، إلا أنه ترك الأمر للتقدير المطلق لهم، مما يحول إجراء استثنائي غير دستوري مقرر لحالة استثنائية (الوباء) إلى إجراء طبيعي وأساسي.
التعدي على مبدأ علانية الجلسات وضوابط الحكم الغيابي
تعدت المادة (266) من مشروع القانون على حق المجتمع الأصيل في علانية الجلسات، وذلك بمنح المحكمة الحق في منع فئات معينة من حضور الجلسات،[24] دون وضع أي ضوابط تتعلق بكيفية وأسباب تحديد هذه الفئات، ودون التقييد بإبداء سببًا لمنعهم، فضلاً عن عدم الإشارة لأي طريقة للطعن على قرار المحكمة باستبعادهم من الحضور.
أما المادتين (368) و(370)، فقد أعطوا مشروعية لتنفيذ الأحكام المتعلقة بمنع التصرف في الأموال إذا صدرت في غيبة المتهم،[25] رغم ما جرى العمل به فقهًا وقضاءً من اعتبار الحكم الغيابي حكمًا تهديديًا يدفع المتهم للطعن عليه بمجرد علمه به. ويسقط (الحكم الغيابي) بمجرد طعن المتهم عليه، وإثبات حضوره لتقديم دفاعه فيما نُسب إليه.
الأمر الذي يعصف بمبدأ افتراض براءة المتهم حتى تثبت إدانته. إذ أن تطبيق الحكم الغيابي بحرمان المتهم من التصرف في أمواله، دون سماع أقواله أو تقديم دفوعه يقضي بإدانته دون إثبات. هذا بالإضافة لما لهاتين المادتين من تأثير سلبي على استقرار الأسواق التجارية والاستثمارات وحماية ممتلكات الأفراد.
إن تطبيق "العقوبات التي يمكن تنفيذها" من الحكم الغيابي حسب نص المادة (370) من مشروع القانون، ينطوي على إخلال واضح بمبدأ افتراض البراءة، والحق في الدفاع، وحماية الممتلكات الخاصة، المنصوص عليهم في مواد الدستور 33،35،92،96 والمادة 5 (الفقرة الثانية)، والمادة 14 من العهد الدولي، والمادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
الخلاصة
يقبع عشرات آلاف من المصريين في السجون بسبب إعلانهم موقف معارض، أو تعليق على مواقع التواصل الاجتماعي، أو محاولة مشاركة في الحياة السياسية أو الانتخابات العامة. وبعد وعود واهية بإعادة النظر في ملف المعتقلين السياسيين؛ جاء مشروع القانون ليبلور الفلسفة القمعية للسلطات المصرية في شكل نصوص قانونية، تشرعن الانتهاك المتواصل لحق المصريين في العدالة منذ سنوات.
ومن ثم، على السلطات المصرية سحب مشروع القانون المطروح، والعمل على مشروع قانون جديد؛ بالتشاور مع كافة الأطراف المعنية والمنظمات الحقوقية المستقلة، ضمن حوار وإجراءات علانية وشفافة. على أن يراعي القانون الجديد كافة المآخذ والاعتراضات الصادرة عن مختلف الجهات على المسودة الحالية، ويتضمن بشكل خاص:
1
التأكيد على أن الحبس الاحتياطي هو إجراء احترازي أخير، محدد بحد أقصى لا يخضع لأي استثناء، يصدر فقط عن جهة قضائية، ولا يتم اللجوء له إلا في حالة صعوبة الاستعاضة عنه بإجراءات احترازية أخرى. على أن يكون للسلطات القضائية حق استبداله بأي تدابير احترازية أخرى. ووضع ضمانات واضحة للحد من سياسة تدوير المعتقلين وتوظيف الحبس الاحتياطي كإجراء عقابي.
2
الفصل بين سلطة التحقيق وسلطة الاتهام، لضمان إجراء تحقيقات تستهدف استجلاء الحقيقة، وعدم توجيه التحقيق لإثبات الاتهام.
3
النص صراحة على حق المحاميين في الاطلاع على أوراق القضايا وتمكينهم من الحصول على نسخة منها، دون استثناءات، وضمان حق المتهمين في مقابلة محامييهم.
4
قصر إصدار أوامر المراقبة والتفتيش على المحاكم فقط، على أن تستند إلى اشتباه محدد، ولمدة محددة، وتُجدد لعدد محدد من المدد.
5
النص صراحة على أحقية المتهم ومحاميه بالدفع ببطلان الإجراءات وما ترتب عليها، دون استثناءات، وفي أي مرحلة من مراحل الدعوى الجنائية.
6
تعزيز قدرة الضحايا على طلب محاسبة مرتكبي الانتهاكات، بما في ذلك كفالة حق محامييهم وذويهم في تقديم الشكاوى ضد المنتهكين.
Share this Post