آمنة القلالي
مديرة البحوث في مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.لم تعد الحدود المادية توفر أي ملاذ بالنسبة للناشطين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في الجزائر؛ إذ يعد الاستخدام المتزايد للقمع العابر للحدود من جانب الجزائر مثالًا صارخًا على كيفية توسع نفوذ الأنظمة الاستبدادية على الصعيد العالمي. وحسب تقرير صدر مؤخرًا عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، فإن هذه الحملة المنهجية خارج حدود الجزائر لا تهدد الحريات الفردية فحسب، وإنما تشكل أيضًا تحديات عميقة لمعايير حقوق الإنسان العالمية. فالبلدان التي يُفترض بأنها ملاذات آمنة للتعبير الحر أضحت –بشكل متزايد– ساحات معارك للأنظمة الاستبدادية وأجهزتها الأمنية. ورغم أن القمع العابر للحدود ليس ظاهرة جديدة؛ إلا أنه شهد تصعيدًا غير مسبوق، وغالبًا ما يتم تمكينه من خلال تواطؤ أو خضوع البلدان المضيفة.
لفترة وجيزة، تمكنت احتجاجات «الحراك» الشعبية من إحياء الآمال في الإصلاح السياسي، بعدما اندلعت في 2019 للمطالبة بالتغيير الديمقراطي في بلد يهيمن عليه منذ فترة طويلة نظام أوليغارشي يحتكر السلطة والثروة الاقتصادية. لكن، بحلول عام 2020، عمدت السلطات الجزائرية إلى سحق الحركة، وأغلقت جميع سبل المعارضة داخل البلاد. ولم يتوقف النظام الجزائري عند محو الحراك؛ بل أطلق حملة جديدة من القمع في عام 2021، ووسع نطاق هذا القمع إلى خارج البلاد.
والواقع يزخر بالعديد من الأمثلة على هذه الحملة لقمع المعارضة خارج حدود الجزائر. فقد اختطف سليمان بوحفص، وهو ناشط أمازيغي اعتنق المسيحية، من تونس في عام 2021، حيثما كان تحت الحماية ويحمل صفة لاجئ من المفوضية العليا لشئون اللاجئين. أثناء تواجده في ملجأه بتونس، كان بوفحص يعبر عن نفسه غالبًا على وسائل التواصل الاجتماعي، منتقدًا الممارسات القمعية للسلطات الجزائرية. وقد أسفر ترحيله قسرًا للجزائر، ربما بتواطؤ من جانب السلطات التونسية، عن تعذيبه ومحاكمته بدوافع سياسية، الأمر الذي جسد سياسة النظام في اضطهاد المعارضين أينما كانوا.
وبالمثل، في عام 2022، قررت السلطات الإسبانية ترحيل كل من محمد بن حليمة ومحمد عبد الله، وهما ضابطان سابقان في الجيش الجزائري تحولا إلى مُبلغين عن المخالفات، واللذان طلبا اللجوء في إسبانيا؛ رغم المخاطر الجدية بتعرضهما للتعذيب عند عودتهما إلى الجزائر. وفي هذه الحادثة، يعد تواطؤ إسبانيا في تمكين الجزائر من توسيع نطاق قمعها مثالًا صارخًا على مدى الافتقار للحماية التي قد يواجهها المعارضون والناشطون في بلدانهم المضيفة، بما في ذلك الديمقراطيات الغربية التي تدّعي احترام حقوق الإنسان.
لا تقتصر هذه التكتيكات على عمليات الاختطاف والترحيل المباشرة وإنما تتعداها؛ إذ تواجه عائلات النشطاء الجزائريين في الشتات مضايقات متواصلة. أميرة بوراوي، هي ناشطة بارزة في الجزائر، كانت من أوائل الشخصيات التي دعت إلى إنهاء النظام في عام 2014، حينما ساهمت في قيادة حركة احتجاجية ضد ترشح الرئيس آنذاك عبد العزيز بوتفليقة لولاية رابعة، وفرت إلى فرنسا في عام 2023 هربًا من عقوبة ظالمة بالسجن. في المقابل، اعتقلت السلطات أقاربها واستجوبتهم كإجراء انتقامي. في سياق متصل، لم يتمكن عبدو سمار، وهو صحفي حُكم عليه بالإعدام في عام 2022 بسبب عمله، من لم شمله مع أطفاله الذين ما زالوا في الجزائر، إذ منعتهم السلطات من السفر إلى فرنسا للإقامة مع والدهم.
إن الممارسات الجزائرية في التعامل مع معارضيها في الخارج تنطوي على إيقاعهم في خناق مصيدة من القمع تتضمن نظامًا واسع النطاق من الرقابة، ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، والترهيب الصريح من خلال ممارسة الضغط على عائلاتهم التي لا تزال في البلاد. وتكشف هذه الأساليب عن استبداد جريء يحمل رسالة واضحة: ليس هناك مكان على الأرض يعجز النظام عن الوصول إليه، ولا يوجد منتقد خارج متناول يده.
ولم يكن العديد من الذين أجريت معهم المقابلات من جانب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان على علم بأنهم كانوا يخضعون للمراقبة الدقيقة من قبل السلطات الجزائرية أثناء وجودهم في الخارج. لقد احتجوا بين حشود الحراك في الشتات، أو كتبوا على وسائل التواصل الاجتماعي من أماكنهم الآمنة في الدول الديمقراطية، معتقدين أنهم سيحظون بالحماية من خلال حماية حرية التعبير في تلك البلدان. استخدموا المنصات الإلكترونية لفضح القمع القاسي الذي يمارسه النظام على حركة الحراك داخل الجزائر، والتعبير عن التضامن مع السجناء السياسيين. ورغم ذلك، بمجرد عودتهم إلى البلاد، سرعان ما حاصرتهم آلة النظام القمعية. تم اعتقالهم ومحاكمتهم وإجبارهم على الصمت.
إن تصرفات الجزائر ليست ظاهرة معزولة وإنما هي جزء من اتجاه أوسع نطاقًا للأنظمة الاستبدادية من الصين إلى روسيا ومن رواندا إلى مصر، والتي تعمل على توسيع نطاق قمعها إلى ما هو أبعد من حدودها. وعندما يتم إسكات المعارضة فعليًا على المستوى المحلي، فإن هذه الأنظمة تحول نظرها حتمًا إلى الخارج، فتستهدف المنتقدين المنفيين لضمان عدم ترك أي منهم بسلام.
إن هذا الاستمرار في القمع، داخل حدود الدولة وخارجها، يخدم غرضين. على المستوى المحلي، يعزز قبضة النظام على السلطة، ويرسل تحذيرًا صارخًا إلى مواطنيه بأن السلطات لا تزال قادرة على العثور عليهم، بغض النظر عن أماكن تواجدهم في العالم. وعلى المستوى الدولي، يعكس هذا القمع استعراضًا جريئًا ووقحًا للقوة المطلقة، لا يستهدف المعارضين فحسب، بل أيضًا البلدان المضيفة، ويتحدى قدرتها على توفير الملاذ للاجئين وطالبي اللجوء ويكشف عن هشاشة وتآكل آليات الحماية الدولية لحقوق الإنسان. ويحمل هذا القمع رسالة تقوض مبدأ اللجوء نفسه، وتثير الشكوك بشأن قدرة الدول الديمقراطية على حماية الأفراد من قبضة الدول الاستبدادية.
إن العواقب وخيمة. ففي عالم تستطيع فيه الأنظمة الاستبدادية الإفلات من العقاب على تصرفاتها، سواء داخل حدودها أو خارجها، ستقوض معايير حقوق الإنسان الدولية وأسس الحريات الديمقراطية في بلدان أخرى. ورغم ما اعترى هذه المبادئ من اهتزاز وضعف في الآونة الأخيرة، بسبب المعايير المزدوجة التي تنتهجها الديمقراطيات مثل الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية التي دعمت أو وافقت على الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، إلى جانب الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في أماكن أخرى؛ إلا أن القمع العابر للحدود الوطنية سيؤدي لتآكل ما تبقى من النظام القانوني الدولي، مما يجعله أكثر عرضة للأعمال الشائنة التي تمارسها الأنظمة الديكتاتورية.
في الوقت نفسه، أصبحت الجزائر مؤخرًا تعتبر من الأبطال الشرسين في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين على المستوى الدولي، من خلال اقتراح قرارات وقف إطلاق النار في غزة، وذلك من خلال موقعها البارز في مجلس الأمن بالأمم المتحدة. ورغم أن هذه الجهود الدبلوماسية جديرة بالثناء؛ إلا أنه لا يمكن استخدامها لتبييض سجلها البائس في مجال حقوق الإنسان وسياساتها القمعية، سواء في الداخل أو الخارج. فالزعامة الدولية الحقيقية تتطلب الاتساق في دعم العدالة والكرامة الإنسانية. ومن شأن القمع الذي تمارسه الجزائر خارج حدودها الوطنية تقويض مزاعمها بدعم حقوق أي شخص، بما في ذلك الفلسطينيين. في سبيل المساهمة بشكل فعلي في السلام والاستقرار، يتعين على الجزائر وضع حد لممارساتها القمعية في الداخل والخارج، وتعزيز الاحترام الحقيقي للحريات الأساسية.
Share this Post