تستأنف المحكمة الدستورية العليا عملها غدًا، بعد نحو ستة أسابيع من التوقف الاضطراري عن عملها، بسبب فرض أنصار التحالف السياسي الحاكم حصارًا متواصلاً على المحكمة لمنعها من عقد جلساتها التي كانت ستنظر خلالها في مدى دستورية قانون انتخابات مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لوضع الدستور.
تَواصل هذا الحصار وسط تواطؤ كافة مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية، بما في ذلك رئاسة الجمهورية ووزارتي الداخلية والعدل، إلا من تصريحات صحفية لا تبرئ أيًا منهم من شبهة التواطؤ في منع المحكمة من الانعقاد. خلال فترة الحصار كانت الجمعية التأسيسية قد أنهت عملها، وجرى الاستفتاء بتعجل مريب على الدستور المقترح، دون توفير حد أدنى من الوقت اللازم للحوار المجتمعي، بل حتى للحوار بين الخبراء المتخصصين.
عرفت مصر قبل الثورة “ترزية القوانين”، هؤلاء اللذين يقومون “بتفصيل القوانين” وفقًا لرغبة الحكام، وعرفت مؤخرًا “ترزية الدساتير”. فقد جاء الدستور الجديد مكملاً لمهمة محاصري المحكمة الدستورية العليا، حيث جرى الاقتصاص من هيئتها، بنص دستوري مفصل خصيصًا ليطيح بنحو 40% من قوامها، ويُخضع تشكيلها لوصاية رئيس الجمهورية، كما ينتقص من صلاحياتها المنتقصة أساسًا منذ نشأتها، ورغم ذلك إلا أنها استطاعت أن تصدر أحكامًا مهمة ومحرجة للنظام السابق وداعمة لحقوق الإنسان والديمقراطية.
جرى التمهيد لهذه الاعتداءات المتوالية على المحكمة الدستورية العليا بحملة سياسية في داخل البلاد وخارجها، تقدمها بوصفها هيئة يديرها رجال الرئيس السابق حسني مبارك، وأنها كانت أداة في يد نظامه، وأنها تستهدف بأحكامها –بعد الثورة– تقويض الثورة، والمساعدة على إعادة النظام القديم. ولم تفلت من سهام هذه الحملة الكاذبة هيئات قضائية أخرى مثل مجلس الدولة.
من المفارقات أن إعلام نظام مبارك كان يتهم الهيئات القضائية المصرية بموالاة جماعة الإخوان المسلمين، بسبب فشل مبارك في إدانة قيادات وأعضاء الجماعة من خلال القضاء الطبيعي، فلجأ إلى المحاكم العسكرية، التي كانت الوسيلة الوحيدة لمحاكمة وسجن قيادات الجماعة.
بعد أن تولت الحكم كان من المفترض أن توجه جماعة الإخوان المسلمين انتقامها صوب القضاء العسكري، وتكرم القضاء الطبيعي، ولكن ما حدث هو العكس، فقد وجه الإعلان الدستوري في نوفمبر الماضي ضربة قاصمة للقضاء الطبيعي، بينما صارت محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري –بفضل ترزية الدساتير الجدد– مكفولة بنص الدستور للمرة الأولى في تاريخ الدساتير المصرية!!
هذا لا يعني أن القضاء المصري كان يتمتع باستقلاله كاملاً في ظل نظام مبارك، ولكنه كان استقلالاً نسبيًا، وكان من المفترض بعد الثورة تعزيز ذلك الاستقلال، بما في ذلك تعزيز دور المحكمة الدستورية العليا واستقلاليتها، وليس تقويضه برعاية بعض أبرز قضاة ما كان يعرف باسم “تيار استقلال القضاء”.
تمتلك المحكمة الدستورية العليا في مصر تاريخًا مشرفًا في دعم التغيير المطرد، الذي تجسد في عدد من الأحكام التاريخية لصالح الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن الضروري وضع المحكمة الدستورية العليا في سياقها التاريخي لفهم دورها في إصلاح النظام القضائي المصري، وفى وضع سوابق قانونية تعزز الديمقراطية وحقوق الإنسان.[1]
أكدت المحكمة الدستورية العليا دائمًا على حقوق المشاركة السياسية من خلال إلغاء بعض القوانين التي كانت تَحِدّ من المشاركة السياسية في مواجهة مبارك ونظامه. وفى أحكامها المبكرة، على سبيل المثال، أباحت المحكمة لعدد من رموز المعارضة العودة إلى مباشرة حقوقهم السياسية وذلك في حكمين صدرا في عامي 1986[2] و1987[3]حيث وجدت المحكمة أن المادة 4 والبند أ من المادة 5 من القانون 33 لسنة 1978بشأن حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي، قد قيدتا حق المشاركة السياسية على خلاف الدستور، لذا قضت المحكمة بعدم الدستورية. وفى عامي 1987، 1990 قضت بأن قوانين انتخاب مجلس الشعب غير دستورية، مما استتبع حل المجلس مرتان. انطلاقًا من هذين الحكمين جاء الحكم بحل البرلمان في يونيو 2012، والذي اعتبره البعض حكمًا تعسفيًا.
بصرف النظر عن الوقت القصير الذي استغرقه إصدار الحكم الأخير فإن المحكمة الدستورية العليا في واقع الأمر كانت تتبع فقط سوابقها القضائية، طالما أنها وجدت أن قانون الانتخابات غير دستوري، وأنه من غير الجائز أن يسمح المسئولون عن الانتخابات لأعضاء حزب سياسي بالترشح على المقاعد المخصصة للمستقلين. وقد لجأت المحكمة الدستورية لنفس القاعدة القانونية في حكمان لها في 1989 أديا إلى إجراء إصلاحات مماثلة في نظام الانتخابات للمجالس المحلية، بما لا يقصر حق الترشح لعضوية المجالس الشعبية المحلية على المنتمين إلى الأحزاب السياسية.[4]
في عام 2000، أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمًا يؤكد على الإشراف القضائي الكامل على انتخابات مجلس الشعب. وذلك حين قضت بعدم دستورية المادة 24 من القانون 73 لسنة 1956 بشأن مباشرة الحقوق السياسية، وذلك لأنها كانت تسمح لموظفي القطاع العام بالإشراف على مراكز الاقتراع، برغم ضمان المادة 88 من الدستور أن “تتم عملية الاقتراع تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية”.[5] وهو الحكم الذي يعتبر تأسيسًا قانونيًا لانتخابات حرة ونزيهة،ـ فضلاً عن أنه ساهم في الحد من تدخل السلطات التنفيذية في العملية الانتخابية، وبالتالي نجاح عدد أكبر من مرشحي الإخوان المسلمين في الانتخابات. وهو ما دفع نظام مبارك في 2007 لتعديل المادة 88 من الدستور، كي يتمكن من التملص من حكم المحكمة الدستورية العليا المفسرة لها، والذي يُلزمه بالإشراف القضائي الكامل.
قاومت المحكمة الدستورية العليا محاولات نظام مبارك لحصار حرية الصحافة بإصدار عدد من الأحكام المهمة لتعزيزها. على سبيل المثال، في عام 1993، ألغت المحكمة الدستورية العليا مادة في القانون الجنائي تتعلق بقضايا السب والقذف. وبهذا الإجراء أكدت المحكمة الدستورية العليا أن حرية التعبير تستحق حماية خاصة، كما أنها مُكوِّن أساسي في أي نظام ديمقراطي. كذلك بناءً على دعوة أقامها حزب العمل (الإسلامي) في عام 1995 قامت المحكمة الدستورية العليا بإلغاء الفقرة الثانية من نص المادة 15 من قانون الأحزاب السياسية رقم 40 لسنة 1977، والتي كانت تتعلق بالمسئولية الجنائية لرئيس الحزب عما ينشر في صحيفة الحزب[6]. كما وجدت المحكمة الدستورية العليا أن البند (ب) من المادة 17 من القانون 159 لسنة 1981 بشأن الشركات ذات المسئولية المحدودة، مادة غير دستورية، لأنها تنتهك حرية الصحافة، وذلك لاشتراطها ضرورة الحصول على الموافقة المسبقة لمجلس الوزراء قبل تأسيس الشركات المُصدِرة للصحف[7].
دعمت المحكمة الدستورية العليا حقوق حرية التنظيم في مواجهة محاولات نظام مبارك لقمع تلك الحقوق والسيطرة عليها. على سبيل المثال، في عام 1994، حكمت بعدم دستورية البند 6 من المادة 2 من القانون 73 لسنة 1973 بشأن انتخاب ممثلي العمال في مجالس إدارات القطاع العام. ووجدت المحكمة أن هذه المواد تنتهك عددًا من مواد الدستور المصري الذي يكفل حق التجمع وحرية التعبير. وفى عام 2000، أبطلت المحكمة الدستورية العليا القانون رقم 153 لسنة 1999 الخاص بالجمعيات والمؤسسات الأهلية . والذي أكدت في حيثيات حكمها على أن مؤسسات المجتمع المدني “هي واسطة العقد بين الفرد والدولة، إذ هي الكفيلة بالارتقاء بشخصية الفرد بصفته القاعدة السياسية في بناء المجتمع”.[8]
في عام 1993 أيضًا حكمت بعدم دستورية بعض مواد قانون التشرد والاشتباه[9]، والذي أجاز القبض على أي شخص “يُشتبه فيه” وفقًا لقواعد غير منضبطة قانونًا. وهو القانون الذي تُجرى في الشهور الأخيرة محاولة إحيائه من جديد بزعم “حماية الثورة”!
أكدت المحكمة الدستورية العليا على الحقوق الشخصية من خلال حماية حق الزوجة في طلب الطلاق قضائيًا[10]. وفى الدفاع عن حق المرأة في الخلع دون موافقة زوجها، وجدت المحكمة أن الشريعة الإسلامية صمتت عن هذا الأمر، لذلك أتاحت حرية التصرف القانوني بوسائل تخدم مصالح الطرفين[11]. بينما ووجه هذا الحكم بالتحدي من الإسلاميين، إلا أن المحكمة وقفت بحزم إلى جانبه.
هذه مجرد أمثلة قليلة من كثير، لكنها كافية لتوضيح دعم المحكمة الدستورية العليا للديمقراطية ولحقوق الإنسان، وتحديها من وقت لآخر للطبيعة السلطوية لنظام مبارك، وبالتالي دعمها بشكل غير مباشر لمهمة حركة حقوق الإنسان في مصر، في الدفاع عن حقوق وحريات المصريين.
([1]) لمزيد من التفاصيل برجاء الرجوع إلى:
العدالة الدستورية في مصر: السياسة تقابل العدالة (النسخة الفرنسية) – ناتالي بيرنارد – موجيرون – 2003 – برويان ببلجيكا، ومركز الدراسات والتوثيق الاقتصادي والقانوني والاجتماعي – سيديج.
القضاة والإصلاح السياسي (النسخة العربية) تقديم وتحرير نبيل عبد الفتاح – مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
القضاة والإصلاح السياسي (النسخة الانجليزية) في مصر – تقديم و تحرير ناتالي بيرنارد – موجيرون – الجامعة الأمريكية بالقاهرة – 2008.
دولة القانون في الوطن العربي: المحاكم في مصر وفي الخليج (النسخة الإنجليزية) – ناثان براون – جامعة كامبريدج – 1997.
([2]) جلسة 21 يونيو 1986 ، طعن رقم 56 لسنة 6 قضائية.
([3]) جلسة 4 أبريل 1987، طعن 49 لسنة 6 قضائية.
([4]) جلسة 15 أبريل 1989، القضية رقم 14 لسنة 8 قضائية.
([5]) جلسة 8 يوليو 2000، طعن رقم 11 لسنة 13 قضائية.
([6]) جلسة 3 يوليو 1995، طعن رقم 25 لسنة 16 قضائية.
([7]) جلسة 5 مايو 2001 ، طعن رقم 25 لسنة 22 قضائية.
([8]) جلسة 3 يونيو 2000، طعن رقم 153 لسنة 21 قضائية.
([9]) جلسة 2 يناير 1993، طعن رقم 3 لسنة 19 قضائية.
([10]) جلسة 5 يوليو 1997، طعن رقم 82 لسنة 17 قضائية.
([11]) جلسة 15 ديسمبر 2002، طعن رقم 201 لسنة 23 قضائية.
Share this Post