بهي الدين حسن
يحل يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني هذا العام, بينما تشهد حركة التضامن الفعلية مع الكفاح المرير لهذا الشعب مؤشرات تدل علي احتمالات جدية لتطور هذه الحركة العالمية الي آفاق جديدة, الأمر الذي يلقي مسئوليات أكبر علي أكتاف الحكومات العربية ممثلة بالجامعة العربية, والشعوب العربية ممثلة في أحزابها السياسية ونقاباتها ومنظماتها غير الحكومية.
لا يتسع المجال لرصد تفصيلي لكل المؤشرات, ولكن قد يكفي مؤقتا في إطار حيز هذا المقال, الإشارة إلى مؤشرين مهمين, أولهما هو إجماع المنظمات غير الحكومية المشاركة في المؤتمر العالمي ضد العنصرية في دربان الصيف الماضي( أكثر من3000 منظمة) على إدانة إسرائيل والتضامن مع الشعب الفلسطيني وإقرار مجموعة من التوصيات غير المسبوقة, التي سنعود إليها لاحقا, لقد كانت الأغلبية المشاركة هي لمنظمات الجنوب, الأمر الذي قاد إلى الاستنتاج بأن منظمات الشمال قد يكون لها موقف مختلف, وذلك استنتاج غير دقيق.
وهذا يقودنا إلى المؤشر الثاني, وهو النهوض الذي تشهده حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في أوروبا بالذات, والتي عقدت منظماتها اجتماعًا إقليميًا لها في برلين الأسبوع الماضي (28 و29 نوفمبر) بهدف التوصل لأول مرة إلى خطة تنسيق مشتركة وتشكيل لجنة تنسيق أوروبية مشتركة بين هذه المنظمات. وهي أول محاولة جادة لإعادة بعث هذه الحركة التي كانت إحدى ضحايا اتفاق أوسلو, الذي أشاع وهم أن القضية الفلسطينية قد تم حلها, وبالتالي فإن دور هذه الحركة قد انتهى! جدير بالذكر أن آخر مؤتمر إقليمي أوروبي لهذه الحركة انعقد منذ نحو سبع سنوات، ثم توقفت تمامًا أعمال التنسيق, بل تلاشت المنظمات ذاتها في بعض دول أوروبا.
غير أن مؤشرات النهوض الأوروبي لا تتوقف عند هذا الاجتماع المهم, بل تمتد لتشمل عددا من الاجتماعات والتظاهرات المهمة خلال نفس الأسبوع, والتي تجري عدد منها بتنسيق وتشاور بين هذه المنظمات وسكرتارية منظمات حقوق الإنسان العربية في مؤتمر دربان.
لقد أتيح لكاتب المقال أخيرًا حضور اجتماع في لندن بين أعضاء السكرتارية العربية وممثلي منظمات التضامن مع الشعب الفلسطيني في بريطانيا, بحضور ممثلين من جنوب إفريقيا واليابان ومنظمات حقوقية دولية, استهدف الاجتماع دراسة سبل تفعيل الحركة, وكيفية الاستفادة من زخم مؤتمر دربان, وبشكل خاص مهمات مناهضة العنصرية الإسرائيلية, وخلال ذلك تبين بشكل ملموس مدي حجم الجهد والنشاط الذي تقوم به هذه المنظمات لتوعية الرأي العام البريطاني.
وكان قد سبق ذلك اجتماع مماثل في أسبانيا بمشاركة جنوب إفريقيا أيضا ومنظمات أوروبية أخري, وخلال هذا الأسبوع(2 و3 ديسمبر في جنيف) تعقد مجموعة العمل حول فلسطين بالشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان الاجتماع التأسيسي لها, وذلك بمبادرة واقتراح أيضا من بعض أعضاء السكرتارية العربية, والذين سيشاركون فيه, ويضع هذا الاجتماع الخطوط العريضة لمهام المجموعة في الفترة المقبلة, وسبل تكوين رأي عام أوروبي ضاغط من أجل حقوق الشعب الفلسطيني. وفي يومي4 و5 ديسمبر ينظم المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان وجمعية القانون بالقدس ـ الأعضاء بالسكرتارية العربية ـ مؤتمرا دوليا موازيا في جنيف للمؤتمر الذي تعقده في5 ديسمبر الأطراف السامية الموقعة علي اتفاقيات جنيف, ـ وتقاطعه أمريكا وإسرائيل أيضا ـ يبحث كلا المؤتمرين في سبل حماية الشعب الفلسطيني. ولكن المؤتمر الحكومي تقرر له مسبقًا أن ينتهي بتوصيات باهتة لا تساوي تكاليف انعقاده. لذا فقد بادرت المنظمتان الفلسطينيتان بالدعوة لمظاهرة احتجاجية في صباح5 ديسمبر أمام مقر انعقاد المؤتمر الحكومي, وستشارك في المظاهرة المنظمات الأوروبية والدولية المعنية بحقوق الإنسان, وبالتضامن مع الشعب الفلسطيني.
هناك عوامل رئيسية وراء هذا التطور, الأول هو البسالة التي برهن عليها الشعب الفلسطيني من جديد, خلال عام من الانتفاضة الشعبية المتواصلة, رغم جسامة التضحيات, وتوحش آلة الحرب والقمع الإسرائيلية التي بلغت خلال هذا العام مستويات غير مسبوقة, الأهم من ذلك هو الدور الذي قام به الإعلام العالمي ـ المرئي منه بشكل خاص ـ في نقل هذه البسالة والوحشية إلى بيوت الناس في أركان الأرض, الأمر الذي يستنهض أعمق الدوافع الأخلاقية والإنسانية, خاصةً مع الإدراك المتزايد لشلل مؤسسات المجتمع الدولي عن القيام بأي دور لحماية هذا الشعب, وإجبار إسرائيل علي الانسحاب والانصياع لعشرات القرارات التي أصدرتها هذه المؤسسات علي مدي أكثر من نصف قرن.
العامل الثاني, هو الانتصار التي انتزعته قضية الشعب الفلسطيني في منتدى المنظمات غير الحكومية في المؤتمر العالمي ضد العنصرية الذي انعقد في دربان في أغسطس/سبتمبر من هذا العام, رغم ضراوة وشراسة المواجهة و حجم التحدي, المتمثل بجبهة عريضة ضمت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وكندا وإسرائيل وغيرها, من أجل منع إدانة إسرائيل بكلمة واحدة, فنجحت للأسف أن تفرض إرادتها علي أغلبية حكومات العالم, لتخرج وثيقة وصفها شيمون بيريز وزير خارجية إسرائيل حينذاك, بأنها تشكل أكبر هزيمة للدبلوماسية العربية منذ عام1967.
بينما نجحت المنظمات غير الحكومية في فرض إرادتها علي هذه الجبهة مضافًا إليها السيدة ماري روبنسون المفوض السامي لحقوق الإنسان, لتخرج بوثيقة تتضمن أقوي وأشمل إدانة لإسرائيل منذ نشأتها, وانتهت بمجموعة من التوصيات العقابية التي لم يسبق أن اجتمعت معا في وثيقة دولية من قبل, وذلك بفضل الدور الديناميكي الذي لعبته سكرتارية منظمات حقوق الإنسان العربية. فقد أدانت المنظمات غير الحكومية في العالم إسرائيل بوصفها نظاما للفصل العنصري/الأبارتيد, الأمر الذي يتطلب من المجتمع الدولي فرض نظام شامل من العزل والعقوبات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية مماثل لما اتبع من قبل علي جنوب إفريقيا, إلى أن تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة, وتزال الأسس العنصرية التي أُنشئت عليها. كما أكدت حق الشعب الفلسطيني في استخدام كل وسائل النضال المناسبة لتحقيق ذلك.
وأدانت إسرائيل بارتكاب جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية, الأمر الذي يتطلب محاكمة المسئولين الإسرائيليين أمام محكمة دولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية, وغير ذلك كثير من التوصيات المهمة.
كانت هذه هي المرة الأولي التي تدان فيها إسرائيل في مؤتمر دولي تشرف عليه الأمم المتحدة بتهمة الأبارتيد, والتي تعتبر هي في حد ذاتها جريمة ضد الإنسانية، وفقًا للاتفاقيات الصادرة عن الأمم المتحدة ـ الأمر الذي أصاب إسرائيل بصدمة هائلة, عكست نفسها بسطوع في الصحافة الإسرائيلية, ووصفها أحد أعضاء الكنيست المشاركين في مؤتمر دربان بأنها أشد صفعة تلقتها إسرائيل منذ يونيو1967.
هذه الثنائية التي جمعت في لقطة واحدة في دربان بين انتصار غير مسبوق وضغط دولي شرس لم يستطع أن يبدل كلمة صياغة واحدة من إعلان دربان, شكل مصدر إلهامًا جديدًا لروافد الحركة الأخلاقية التي تتجمع في العالم في الأعوام الأخيرة, والتي تسعي لعالم أكثر إنسانية وعدالة, وأقل فقرًا واضطهادًا, والتي تُشكل المنظمات المناهضة للعولمة مكونها الأساسي حتى الآن, وتضم أيضًا منظمات حقوق الإنسان والسلام والبيئة وغيرها.
وهذا يقودنا إلى العامل الثالث, وهو التقارب والتفاعل الذي بدأ أخيرًا بين حركة مناهضة العولمة, وحركة التضامن مع الشعب الفلسطيني.
مرة أخري, كانت دربان هي محطة مهمة للالتقاء الكبير, خاصة من خلال التنظيم المشترك لمظاهرة الحادي والثلاثين من أغسطس في دربان التي ضمت نحو60 ألف متظاهر. لقد كان التخطيط المبدئي هو أن تكون مظاهرة احتجاجية ضد العولمة في نفس يوم افتتاح المؤتمر الحكومي في دربان, ولكن الاتصالات التي أجراها ممثلو سكرتارية منظمات حقوق الإنسان العربية أدت إلى إقناع المنظمين بأن تكون مظاهرة ضد العولمة وإسرائيل أيضا. ولكن علي الصعيد الميداني اكتسحت شعرات ورموز والهتافات من أجل فلسطين وضد إسرائيل المظاهرة, الأمر الذي كان اختبارا عمليا ـ لم يسع إليه أحد ـ لمدى استعداد حركة مناهضة العولمة للتفاعل وتبني القضية الفلسطينية. حتى أنه عندما حاولت بعض عناصر تجمع المنظمات الصهيونية توزيع تيشيرت يحمل نجمة إسرائيل, فإن المنظمين منعوهم باعتبار ذلك منافيا للأهداف المعلنة للمظاهرة.
إن هذا التفاعل مازال في بداياته, وهناك محطات متتالية سيجري خلالها تعميق هذا التفاعل, كأحد مرتكزات خطة عمل بعيدة المدى بدأت سكرتارية منظمات حقوق الإنسان العربية التي شاركت في دربان بوضعها موضع التنفيذ, تطبيقا للقرار المعلن في نهاية مظاهرة31 أغسطس, بتشييد تحالف عالمي ضد العنصرية الإسرائيلية.
هذا التحالف العالمي لا يستبعد الحكومات, ففي نهاية المطاف, يستهدف إنشاء هذا التحالف أن تتخذ الأمم المتحدة قرارات محددة تجبر إسرائيل علي تنفيذ ما سبق أن اتخذته مؤسسات المجتمع الدولي من قرارات بخصوص الشعب الفلسطيني, وهذا لن يتم إلا بمشاريع قرارات تقدمها وفود حكومية, وتعتمدها في النهاية الحكومات الأعضاء, فهي وحدها التي تملك حق التصويت, بينما لا تتمتع المنظمات غير الحكومية سوي بالدور الاستشاري والتعبوي, بما في ذلك التنسيق والتحالف في مناسبات محددة مع حكومات ما لإخراج قرارات بعينها.
السؤال المطروح في مداولات المنظمات غير الحكومية العالمية منذ دربان, هو ببساطة: إلى أي حد يمكن التعويل علي دور الحكومات العربية في إطار هذه الحملة التعبوية؟!
التقدير الأرجح في مشاورات المنظمات غير الحكومية سلبي للغاية, للأسباب التالية:
1) الموقف المتخاذل الذي اتخذته الحكومات العربية في مؤتمر دربان, مما أسهم في خروج الإعلان الحكومي خاليًا من كلمة إدانة واحدة لإسرائيل.
2) الانطباع السلبي السائد لدي أوساط الرأي العالمي في الشمال والجنوب عن عدم احترام حقوق الإنسان في العالم العربي, وتقييد نشاط المنظمات غير الحكومية فيه, الأمر الذي يستوجب نبذ أي شبهة علاقة بين المنظمات غير الحكومية العالمية وهذه الحكومات, حتى لا تصاب قضية التضامن مع الشعب الفلسطيني بأضرار إضافية.
3) ضعف التنسيق بين الحكومات العربية ذاتها, بل واتسامه بالتخبط والتعارض علنا, حتى فيما يسمي بقضية العرب المركزية ـ أي فلسطين ـ الأمر الذي يُعرض للإصابة بالضرر الجسيم كل طرف يبني حساباته علي التعامل مع الحكومات العربية ككتلة واحدة منسجمة.
4) هيمنة الرهان لدى السياسة الرسمية العربية ـ علي دور الإدارة الأمريكية في تمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه! رغم الفشل الذريع لهذا الرهان علي مدى أكثر من نصف قرن, بينما تراهن المنظمات غير الحكومية علي دور الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني ـ بما في ذلك الأمريكي والأوروبي ـ في الضغط لتغيير مواقف حكوماتهم من القضية الفلسطينية.
في هذا السياق يثور التساؤل عما يمكن أن تفعله الجامعة العربية؟ بوصفها الإطار الإقليمي المعبر عن الإرادة السياسية للدول العربية, خاصة في ظل قيادة أمين عام جديد طموح لتغيير الصورة الانطباعية السلبية السائدة عن العرب ومؤسستهم الإقليمية.
التساؤل يمتد ليشمل أيضًا النقابات والأحزاب السياسية في العالم العربي, التي تقلصت علاقاتها بالعالم الخارجي إلى درجة غير مسبوقة, واقتصر دورها علي النطاق القطري, وقليل منها للغاية الذي يحتفظ بعلاقات نشيطة حتى على المستوي الإقليمي العربي, الأمر الذي يؤدي إلى خسارة العالم العربي لقوى حية مهمة ـ لا بديل عنها ـ كانت يمكن أن تلعب دورًا فعالاً في تنشيط تضامن الفعاليات المناظرة لها في المجتمع المدني العالمي, خاصةً في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية, وفي حقبة فوارة بالاحتمالات الايجابية, والسلبية أيضًا.
إن أحد أهم دروس مؤتمر دربان, هو أن رهان المستقبل يجب أن يكون علي المجتمع المدني في العالم, وهو قادر علي انجازات أخرى لا تقل عما تم في دربان, بقدر ما نتوصل هنا في العالم العربي للغة والصيغة والديناميكية المناسبة للتفاعل في العالم.
http://yyy.ahram.org.eg/archive/2001/12/2/OPIN6.HTM
Share this Post