بهي الدين حسن
في 26 ديسمبر الماضي أعلن الرئيس المصري حسني مبارك عن مشروع التعديلات الدستورية الذي يطلب من مجلس الشعب إعادة صياغتها لعرضها على الاستفتاء الشعبي، تلي ذلك مهرجان إعلامي احتفائي صاخب في وسائل الإعلام الحكومية، يدشن “عهدًا ديمقراطيًا جديدًا” ترتفع فيه “أعلام الحرية والمواطنة خفاقة”.
غير أن الرأي العام بدأ ينتبه تدريجيًا إلى الصوت النقدي الخافت، ليستيقظ على حقيقة أن التعديلات المطروحة ليست سوى “دسترة” للهجوم المضاد للنظام الحاكم على المكتسبات المحدودة لهامش الانفتاح السياسي المحدود (2004-2005)، وبدأت في التآكل تدريجيا قبل نهاية الانتخابات البرلمانية في ديسمبر 2005، بالتدخل الإداري والأمني العنيف فيها، ثم عدم التسامح الأمني مع المظاهرات، والحكم بسجن أيمن نور، وتجديد حالة الطوارئ، وتأجيل الانتخابات المحلية، واستخدام قانون الطوارئ –لأول مرة منذ بدء العمل به خلال ربع قرن– بشكل جماعي ضد مئات المعارضين السياسيين، غير المنسوب لهم اتهامات بالإرهاب، وإحالة لأول مرة عضو بالبرلمان إلى محكمة عسكرية، والحكم بسجنه في قضية رأي، ورفض الترخيص لجريدة مستقلة لليسار الليبرالي “البديل، “وأخيرًا رفض لجنة الأحزاب الترخيص لـ 12 حزبًا جديدًا، ترجع طلبات بعضهم إلى 11 عامًا.
نظرًا للتفوق الكاسح للنظام الحاكم على المعارضة المتشرذمة، فضلًا عن عودة الولايات المتحدة وأوروبا إلى نهجهما قبل 11 سبتمبر، أي بمنح الأولوية للأمن والاستقرار، فإن التعديلات الدستورية تنقل الهجوم الأمني والسياسي المضاد إلى مجال التشريع والدستور.
أكثر من 50% من التعديلات المقترحة (34 مادة) لا يترتب عليها تعديل جوهري في واقع الحال، فهي إما موائمة صياغات في الدستور لكي تتماشى مع الواقع الاقتصادي، أو إضافة كلمات ذات طابع إنشائي، أو تعديلات لا تغير من طبيعة توزيع السلطات داخل النظام السياسي، خلافا لما تبشر به طبول الحملة الإعلامية.
بينما بقية التعديلات يترتب عليها:
· إنهاء الإشراف القضائي الجزئي على الانتخابات العامة، الذي أدى إلى فضح مدى حجم الزيف والافتقار للنزاهة والشفافية فيها. وبالتالي العودة إلى نمط الانتخابات الذي يستطيع النظام الحاكم من خلاله التحكم بنتائجها.
· مزيد من الإضعاف للضمانات الدستورية لحقوق الإنسان المتضمنة في الباب الثالث من الدستور، مما يمنح سلطات الأمن صلاحيات مطلقة في القبض واقتحام المنازل ومراقبة المراسلات البريدية والاتصالات التليفونية دون اشتراط إذن قضائي، مع احتمال إنشاء نظام قضائي خاص –لمنح التراخيص والتغطية اللازمة لأجهزة الأمن– بدعوى مكافحة الإرهاب، الذي سيصدر لها تشريع خاص جديد (هناك بالفعل تشريع لمكافحة الإرهاب ما زال ساريًا منذ 1992). وفي كل الأحوال يمكن إعلان حالة الطوارئ جنبا إلى جنب قانون مكافحة الإرهاب.
· تعزيز الدور التدخلي للسلطة التنفيذية في القضاء، وذلك بإنشاء مجلس جديد لرؤساء الهيئات “القضائية”، برئاسة رئيس الجمهورية.
· إغلاق الطريق أمام استيعاب الإسلام السياسي، وذلك بالنص على حظر الأحزاب الدينية، الأمر الذي سيفاقم الاحتقان السياسي والطائفي الديني في المجتمع، في ظل إغلاق الباب أمام نشأة أحزاب سياسية حية، ومحاصرة الموجود منها بالقيود التشريعية والإدارية والأمنية.
بعد إقرار التعديلات الدستورية، سيبدأ هجوم تشريعي مضاد آخر، باعتماد مجموعة من القوانين المفصلة للتعديلات.
في مواجهة هذا الهجوم الدستوري التشريعي السياسي الأمني المضاد، يتكرس تراجع دور المعارضة السياسية والمجتمع المدني إلى مواقع الدفاع، بما في ذلك استعداد بعض الأطراف لعقد صفقات سياسية مع النظام الحاكم. ويمكن تلخيص مواقف الأطراف المختلفة على النحو التالي:
· وافق رئيسي حزبي المعارضة “الرئيسية” من حيث المبدأ على التعديلات الدستورية في المداولات الأولى في مجلسي الشعب والشورى، غير أن هذا الموقف قد أثار انتقادات حادة داخل الحزبين وفي الصحف المستقلة. وحذر بعض المحللين من أن هناك صفقة قد جرى إبرامها مع الحزب الحاكم، يمنح بمقتضاها كلا الحزبين بضعة مقاعد إضافية في البرلمان، فضلًا عن المكاسب الشكلية التي تمنحها بعض هذه التعديلات للأحزاب، مثل إتاحة الفرصة لها للعب دور “الكومبارس” في انتخابات رئاسة الجمهورية، أو بإقصاء المنافس الخطير (الإخوان المسلمين) لهذه الأحزاب.
· اعتبر نادي القضاة أن هذه التعديلات تستهدف بالأساس استقلال القضاء ونادي القضاة وحقوق الإنسان، وتحويل القضاة إلى شاهد زور في الانتخابات العامة، وطالبوا بالسماح بالرقابة الدولية على الانتخابات.
· عبرت منظمات حقوق الإنسان عن قلقها الشديد من التعديلات الخاصة بإهدار الإشراف القضائي على الانتخابات، والاعتداء على الباب الثالث من الدستور المخصص للحريات والحقوق بدعوى مكافحة الإرهاب. كما أن هناك منظمات ترفض من حيث المبدأ تعديل الدستور الحالي، باعتباره مهلهلًا، وتدعو لدستور جديد.
· دعا بعض الكُتّاب وحركة “كفاية” إلى مقاطعة مناقشة التعديلات الدستورية وكذلك الاستفتاء عليها، باعتبار أن مجرد المشاركة في المناقشة هو مساهمة في خداع الرأي العام وتضليله حول إمكانية التأثير في الصياغة النهائية للتعديلات المقترحة، خاصة وأن كل التجارب السابقة، كانت تنتهي بتمرير ما كان سبق تجهيزه دون أي تغيير جوهري، بينما يكون الحزب الحاكم قد كسب الإيحاء بأن التعديلات هي “ثمرة حوار ديمقراطي حر”.
· هناك أصوات متعددة تلح على تعديل المادة 77، بحيث لا يستطيع رئيس الجمهورية تولي منصبه أكثر من مرتين، مع التلويح بأن هذا النص لن يسري بأثر رجعي على الرئيس مبارك، ويستطيع بالتالي أن يستمر حتى عام 2023. ويتوقع بعض المحللين أن الرئيس مبارك سيتقدم بهذا التعديل في اللحظات الأخيرة كترضية لأحزاب المعارضة. ويلاحظ في هذا السياق أن مذكرة المجلس القومي لحقوق الإنسان بخصوص التعديلات الدستورية. قد تضمنت هذا الاقتراح، فضلا عن التمسك بالمادة 88 الخاصة بالإشراف القضائي، ولكن المجلس تجاهل القضايا وثيقة الصلة باختصاصه الأصلي، رغم أن ضمانات الحقوق في الدستور هي الضحية الرئيسية للتعديلات. جدير بالذكر أن المجلس كان أول من بارك مبكرا منذ عامين رغبة وزارة الداخلية بوضع قانون ثان لمكافحة الإرهاب! كما أن نائب رئيس المجلس أعلن تأييده للتعديلات الدستورية بعد الإعلان عنها.
Share this Post