أوضحت الستة أشهر المنصرمة أزمات عدة تتعرض لها الدولة المصرية تتعلق بالأساس برؤية القائمين على الحكم وتعريفهم لدور الدولة ومؤسستها. لا تُعرّف الدولة بهويتها بل بمهمة مؤسساتها التي تؤديها في المجتمع. فليس المهم ما تسوقه الدولة للمواطنين من مبررات وجودها في خطاب تحكي فيه تصوراتها عن نفسها. بل إن ما يُعتدّ به هو ما تقوم به الدولة على أرض الواقع من ممارسات تعرّف علاقتها بالمواطن. فالدولة المصرية مثلا لا يُفترض بها أن تستمد مصريتها أو شرعية وجودها من الشعارات بل من قيام جميع مؤسساتها على خدمة شعب مصر وتسخير إمكاناتها –التي تستمدها من تفويض الشعب لها- لتوفير حياة دعائمها العدل والحرية والكرامة للمواطنين كافة تحت رقابة المواطنين أنفسهم على عمل جميع المؤسسات. في ذلك الإطار فإن المنوط بسلطات الدولة أن تقوم بدور تكاملي لخدمة المواطن، فالسلطة التشريعية ينتخبها الشعب ضمانة لأن تكون التشريعات الصادرة عنه في مصلحة المواطن والسلطة التنفيذية تقوم بتنفيذ ما يصدر عن ممثلي الشعب من تشريعات وقوانين والسلطة القضائية تقوم بدور الحكم والرقيب على تنفيذ مؤسسات الدولة والمواطنين تلك التشريعات. ورغم أن العلاقة بين سلطات الدولة تكاملية إلا أنها تقوم أيضا على الفصل بين تلك السلطات الثلاثة ضمانة لاستقلاليتها. هذا الميزان بين تكامل السلطات واستقلاليتها هو ما يسمح للدولة أن تقوم بدورها في خدمة المواطن.
ذلك الميزان هو ما يُعطي للدولة شرعية الحكم وأي خلل في ذلك الميزان يؤدي بطبيعة الحال إلى الانتقاص من شرعية الحكم حيث أن الخلل في ذلك الميزان في أي اتجاه يعني بالضرورة أن الدولة توقفت عن أداء دورها وتحوّلت من خدمة المواطنين كافة إلى التسلّط عليهم لحساب فئة أو جماعة أو طبقة من المجتمع, وهو أمر علمتنا التجربة أنه حتى وإن دام عقودا من الزمن فإن ذلك لا يعني إلا إطالة أمد الأزمة وتعميقها الأمر الذي لا يؤول إلا إلى الانفجار الذي يتناسب طرديا مع عمق الأزمة بالطبع, فنظام مبارك الذي تغولت فيه السلطة التنفيذية – متمثلة في ذراعها الأمني – على باقي السلطات خرج الناس عليه حين خرجوا واختاروا لخروجهم يوم عيد الشرطة ليعلنوا غضبهم عليه في الخامس والعشرين من يناير 2011، وسقط مبارك وأتى من بعده الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم عبر الفوز في انتخابات برلمانية ثم رئاسية لكنهم ورغم وصولهم للسلطة عبر الانتخابات إلا أنهم لم يتعلموا درس نظام مبارك واستمروا على نفس النهج الذي يقذف بالدولة بعيدا عن الإتيان بمهمتها الحقيقية في خدمة المواطن وأرادوا التحوّل بالدولة من خدمة الناس كافّة إلى خدمة الجماعة وأنصارها فأمام محاولات الإخوان لإخضاع الدولة للجماعة خرج الناس لإسقاطهم في الثلاثين من يونيو 2013.
الحفاظ على هذا الميزان هو الضمانة الوحيدة والأساسية ليس فقط لمواجهة الديكتاتورية ولكن أيضاً لمواجهة الإرهاب بكل صوره والذي ينمو أساساً نتيجة فقدان الدولة لدورها السياسي والاجتماعي. ففي الوقت التي تجيّش فيه الدولة جميع مواردها لمطاردة الأوهام لم تقدم أجهزة الدولة أي سجلا علنيا للوقائع والجرائم التي ارتكبت منذ الخامس والعشرين من يناير 2011، ولم يحقق النائب العام حتى الآن مع أفراد قوات الأمن ولا حاسبهم على الاستخدام المفرط وغير المبرر للقوة المميتة في العديد من الأحداث التي ارتكبتها قوات الأمن على مدار السنوات الثلاث الماضية. بل قامت الدولة ممثلة في المجلس العسكري وحكومة “مرسي” بمنع نشر تقريرين لتقصي الحقائق صدرا في 2011 و 2012 عن مجمل الأحداث التي تعرضت لها مصر، ومازالت الحكومات المتعاقبة تتعمد إخفاء تلك التقارير لطمس الحقائق عن المواطنين وحرمانهم من حقهم الطبيعي في معرفة الحقيقة ومحاسبة من أجرم في حقهم.
على أنقاض نظام الإخوان ها نحن نرى نظاما جديدا قيد التكوين يصف نفسه على مستوى الخطاب بأنه الممثل الحقيقي للشعب المصري بجميع طوائفه وأنه حامي الهوية المصرية الأصيلة ومنقذها من براثن الإخوان المسلمين, غير أننا إن اختبرنا الخطاب على أرض الواقع لا نجد القائمين على إدارة النظام يحيدون عن نهج أسلافهم, فبدلا من أن يعمل حكّام البلاد على إصلاح ما أفسده من سبقوهم ويقوموا بما يلزم من إصلاحات جذرية لهيكل الدولة بهدف تأهيلها للقيام بدورها في خدمة المواطن، وجّهوا وجوههم تجاه جماعة الإخوان المسلمين واتخذوا مما قامت به الجماعة من تحريض وإرهاب للشعب منذ وصولهم للحكم وحتى بعد إزاحتهم عنه، ذريعة لكي يعلنوا أنفسهم حكومة حرب واستدعوا من الماضي شعارات على شاكلة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” وهم مستمرّون في الترويج إلى أن البلد في حالة حرب على الإرهاب وإلى أن ذلك الإرهاب متمثل في جماعة الإخوان المسلمين –وهو الأمر الذي تجلى في قرار إعلان جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية– ليتخذوا من ذلك مبررا وذريعة للجور على حقوق الإنسان, بل وإسكات أصوات النقد ووصمها بالخيانة, ورغم أن الحرب على الإرهاب هو ما جعلته الحكومة قضيتها الأولى وجعلت تحقيق الأمن هو أولويتها الأولى إلا أن الوقت قد حان لأن تعترف الحكومة بفشلها في تلك المهمة فمنذ 3 يوليو ونحن نرى موجات الإرهاب والعنف في تصاعد وانتشار فلم يعد الإرهاب مقصورا على سيناء, بل امتد ليصل إلى تفجيرات بقرب مواقع أمنية من المفترض أن تتمتع بالتأمين. وهو الأمر الذي يقودنا إلى استنتاجين لا ثالث لهما، إما أن حكام البلاد فاشلون في مهمتهم التي وضعوها لأنفسهم, أو أنهم غير جادين في تنفيذها على أرض الواقع واكتفوا بوجودها في خطاب لتكون بوابة لتبرير امتداد الانتهاكات لتشمل الجميع, فباسم “الحرب على الإرهاب” تتم شرعنة اللحظة الاستثنائية التي تحياها البلاد وإطالة أمدها حتى تتحول من لحظة استثنائية إلى الحالة الطبيعية التي تمثل مصدر شرعية النظام الحالي, وباسم “الحرب على الإرهاب” تصدر القوانين والتشريعات المقيّدة لحريات المواطنين كافة, وباسم “الحرب على الإرهاب” يتم اقتحام الحرم الجامعي ويُقتل الطلبة بداخله على يد قوات الشرطة, وباسم “الحرب على الإرهاب” تعتدي قوات الأمن على التظاهرات السلمية وتنكّل بالنشطاء وتقتحم المنظمات الحقوقية وتقبض على المدافعين عن حقوق الإنسان وتلفق لهم وللنشطاء التهم وتزج بهم في السجون. باسم “الحرب على الإرهاب” تتحول الدولة بسُلطاتها من خدمة المواطن إلى انتهاك حقوقه والتعدي عليه، وتتحول أجهزة الدولة من وسائل لإنفاذ العدل إلى أذرع للظلم، ويتحول دور الدولة في المجال العام من تنظيم إلى تقييد وتضييق, وفي سبيل ذلك يتم تسخير مؤسسات الدولة لتنفيذ هذا المخطط. استمرار ذلك هو إضعاف متعمد للدولة المصرية وعلى قدرتها في التعاطي مع التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها بشكل يتسق مع الفشل المزمن لسياسة الدولة المصرية في التعامل مع مجمل التحديات التي تقابلها قبل ثورة يناير وبعدها.
في هذا الإطار تقدم المنظمات والحركات الحقوقية المشاركة في إعداد هذا الملف كشف حساب لتجاوزات أذرع السلطة. يتناول الملف من خلال الرصد والتحليل تجاوزات كل من السلطة القضائية التي أفقدتها للحيْدة التي من المفترض أن تكون سمة جوهرية لها وتجاوزات السلطة التنفيذية التي جعلتها أداة للقمع وانتهاك القانون بدلا من صيانته، كما يتناول الملفات التشريعات التي تم إصدارها لتقييد حرية الناس بدلا من تنظيمها.
وتتناول الورقة الأولى من الملف قانون التظاهر كمثال على القوانين الجائرة المنافية للمعايير الدولية لحقوق الإنسان من خلال الاشتباك بفلسفة القانون وتكشف عن الزاوية التي ينظر منها حكام البلاد إلى ممارسة التظاهر فبدلا من أن تنظر تلك الحكومات – أو التحالفات الحاكمة – إلى التظاهر على أنه الوسيلة التي أوصلتها للحكم وبالتالي تعمل على تنظيمها لتكون أداة لتقويم أدائها, نظرت إلى التظاهر على أنه تلك الممارسة التي ساهمت في إسقاط الحكومات السابقة وبالتالي فهي خطر عليها لابد أن تسعى جاهدة لمنعها, لذلك لم تدّخر الحكومات جهدا لمحاربة التظاهر إما بالتشريعات التي تقيّد الحق وتفرّغه من مضمونه أو بالممارسات التي تجعل من التظاهر فعلا خطيرا قد يودي بحياة من يمارسه. في ذلك الإطار تناقش الورقة القانون وتكشف ما به من عوار, كما تناقش تطبيقات القانون وما شابها من انتهاك وتقييد للحق في التظاهر والتعبير.
وتتناول الورقة الثانية ذراع الظلم الأطول: وزارة الداخلية, حيث يُفترض بوزارة الداخلية أن تكون أداة إنفاذ القانون، أما في مصر فالأمر مختلف. فإن كان الحديث عن تجاوز مرفق العدالة الذي بموجبه تحول إلى أداة في يد السلطة السياسية فإن وزارة الداخلية – أو جهاز الأمن بشكل عام – هو التجلي الأعلى للسلطة السياسية, فرغم أن التشريعات أصلا جائرة ولا تمس بصلة لمعايير حقوق الإنسان الدولية إلا أنها لا تشرعن التعذيب والانتهاك المادي والمعنوي الذي تمارسه بشكل منهجي أجهزة الأمن المصرية منذ عقود. تتعاقب الحكومات وتتغير وجوه الحاكمين ويظل الثابت هو تجاوزات الأمن في حق المواطنين. تعذيب في السجون وفي أماكن الاحتجاز وفي الشارع، قد يصل الأمر إلى القتل كما حدث في حادثة قتل “خالد سعيد” الذي لم يُعاقَب قاتلوه حتى الآن, بل عوقب المطالبون بحقه! تتناول الورقة بقليل من التفصيل انتهاكات وزارة الداخلية لحقوق الإنسان, كما تتناول أيضا جوانب التقصير التي شابت أداء وزارة الداخلية, فحتى الآن لم تقدم وزارة الداخلية أي متهم في أحداث تفجيرات شرم الشيخ 2005 أو دهب 2006 أو تفجير كنيسة القديسين 2011، أما في التعامل مع التظاهرات فلا تتوقف انتهاكات وزارة الداخلية عند المتظاهرين أو الخصوم السياسيين للسلطات، بل تمتد لتشمل الصحفيين والمحامين أثناء تأديتهم واجبهم. كما شهدت البلاد مؤخرا قوات الأمن تنتهك الحرم الجامعي وتطلق النار على الطلاب بداخل الجامعة وهو الأمر الذي لم تشهده البلاد من قبل.
أما الورقة الثالثة فتتناول تجاوزات جهازي السلطة القضائية، النيابة العامة والمحاكم, فبدلا من أن تقف النيابة بين السلطة التنفيذية والمتهم –الذي من المفترض أن يظل بريئا حتى تثبت إدانته– وتحافظ على استقلاليتها للتأكد من ألا يُعاقب بريء بم لم يقترف وألا يفلت مجرم بما فعل صيانة لحق الفرد وحفظا لحق المجتمع، نجد النيابة تحيد عن ذلك وتنحاز إلى السلطة التنفيذية، وستبيّن الورقة كيف أن ممارسات النيابة تحيد بها عن المبدأ الأصيل الذي يقضي بأن “كل متهم بريء حتى تثبت إدانته”، لتعامل كل متهم كمشروع مجرم حتى يُثبت العكس. أما بالنسبة للمحاكم فنجد أنها تخرج أيضًا عن الحيدة لتعمل ضد المُتهم من حيث تعسفها في إجراء الحبس الاحتياطي، وفي قبولها لإجراء جلسات المحاكمات في أماكن خاضعة لسيطرة سلطات الأمن وغير ذلك مما سيتم تناوله بالتفصيل، أي أن المحاكم انضمّت للنيابة في الخروج عن الحياد لتكون أداة في يد السلطة السياسية بحيث يتحول الشغل الشاغل لمرفق العدالة البحث عن الحقيقة بوصفه وكيلا عن المجتمع، ليكون أداة من أدوات السلطة السياسية تمارس بها صراعها السياسى مع خصومها السياسيين، وبذلك يتم إنكار ملكية الشعب للدولة وقلب العلاقة بين الدولة والشعب ليكون الأخير في خدمة الأولى وليس العكس، أي أن الشعب يتم اختزاله في سلطته السياسية، التى تصبح هى كل شئ، ومحور كل حركة، والغاية من كل تنظيم قانونى، وهى نتيجة بالغة الشذوذ؛ حيث يفترض فى السلطة السياسية ذاتها أنها قد وجدت لخدمة المجتمع، ولم يوجد المجتمع لإرضاء نوازع السلطة، وجهة التحقيق والمحاكم وجدت وكيلا عن المجتمع، وليست كرباجا فى يد السلطة.
تأتي أهمية مثل ذلك الملف في مثل هذا التوقيت، أنه يتم تقديمه أمام المواطن في الوقت الذي يجد المواطن نفسه فيه محصورا بين خيارين أحلاهما مر، إرهاب في الشارع من جماعات تريد السطو على الدولة، ودولة تقوم بكل فعل يحيلها من دولة إلى طائفة، لتتحول البلاد إلى ساحة احتراب بين جماعات متحاربة على سلطة ملقاة في الشارع في معركة يكون الخاسر الأكبر فيها هو الشعب، ودور منظمات المجتمع المدني أن تكون هي ضمير الشعب وعينه على الحقيقة في أوقات كهذه التي نعيشها يعمل الجميع فيها على تغييبها.
للإطلاع على التقرير كاملاً إضغط هنا
المنظمات: مرتبة أبجديًا
1. الجماعة الوطنية لحقوق الإنسان
2. الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان
3. المبادرة المصرية للحقوق الشخصية
4. المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
5. جبهة الدفاع عن متظاهري مصر
6. مركز الحقانية للمحاماة والقانون
7. مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان
8. مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب
9. مركز عقل للقانون و الحريات و حقوق الإنسان
10. مركز هشام مبارك للقانون
11. مؤسسة حرية الفكر والتعبير
12. لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين
13. نظرة للدراسات النسوية
Share this Post