محمد زارع
لا أشك للحظة في أن الحكومة تعي جيدًا قبل طرحها لأي قانون، ما إذا كان متوافقًا مع الدستور أم يتعارض معه، فكانت تعلم جيدًا أن قانون التظاهر يتعارض مع الإعلان الدستوري الصادر في 8 يوليو، ويتعارض مع ما انتهت إليه لجنة الخمسين. ولا أظن أنه كان خافيًا عن المستشار عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية العليا ورئيس الجمهورية المؤقت في ذاك الوقت، أنه يُصدِّق على قانون غير دستوري، ومع ذلك أصدره.
الأمر نفسه يتكرر مع مشروع قانون الجمعيات الأهلية الجديد المقترح من وزارة التضامن الاجتماعي مؤخرًا، فهو يتعارض كليًا مع المادة 75 من الدستور، ولا أشك أن وزيرة التضامن الاجتماعي، غادة والي، تعلم ذلك، تمامًا مثلما كان يعلم القاضي الدستوري رئيس الجمهورية المؤقت. إلا أنهم يسعون لإقراره حتى يعصفوا بالأصوات المعارضة ويضيقوا المجال العام حتى لا يتسع سوى للأصوات المهللة.
بإقرار تلك القوانين يعتمدون على أن هناك متسع من الوقت حتى تقضي المحكمة الدستورية العليا بعدم دستوريتها، فحين يتحقق ذلك يكون المجال العام قد أغلق تمامًا عن الأصوات النقدية والمعارضة. فهي دائرة لا تنتهي من إهانة الدستور ومن وافقوا عليه، و تجسيدًا خالصًا لكسر هيبة الدولة التي هي في حقيقتها احترام مؤسسات الدولة للقانون والدستور التي شحنت وسائل الإعلام الناخبين بالموافقة عليه.
أصدرت 29 منظمة حقوقية بيانًا عن مشروع قانون الجمعيات الأهلية الذي اقترحته وزارة التضامن الاجتماعي في شهر يونيو الماضي، وقالت المنظمات إنه في حال إقراره سيكون أكثر قوانين الجمعيات الأهلية قمعًا منذ نصف قرن، وأنه سيضع مصر في مرتبة الدول التي تعاني أسوأ تشريعات المجتمع المدني مثل بيلاروسيا، وأثيوبيا، والصين وإسرائيل.
على مدار الثلاث سنوات الماضية قدمت المنظمات الحقوقية كل ما لديها من خبرات ونصائح ودعم فني للمُشرِّعين وشاركت في العديد من اللجان الحكومية، وحضرت عشرات جلسات الاستماع بمجلس الشعب والشورى، من أجل الخروج بقانون بديل للجمعيات الأهلية يتفق والمعايير الدولية للحق في حرية تكوين الجمعيات بل وطرحت مشروع قانون كامل للجمعيات والمؤسسات الأهلية يحقق تلك الأهداف لم يتم الالتفات لتلك المقترحات، فالمشكلة لم تكن في عدم معرفة المُشرِّعين بالمعايير الدولية في هذا الشأن، بل كانت في غياب الإرادة السياسية لتحرير العمل الأهلي، كان المنتج دائمًا بعد تلك المناقشات مشروعات قوانين تعيسة ومتعسفة.
تغير الأمر نسبيًا في النصف الثاني من شهر يوليو 2013، فقد أصدر الدكتور أحمد البرعي، وزير التضامن الاجتماعي في ذلك الوقت، قرار رقم 164 لسنة 2013، بإنشاء لجنة لتعديل قانون الجمعيات الأهلية. ضمت اللجنة عددًا من النشطاء الحقوقيين وممثلي جمعيات، فضلًا عن ممثلي عدد من الاتحادات الإقليمية للجمعيات الأهلية، وكذلك الرئيس الحالي بالإنابة للاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية. نظمت اللجنة عددًا من الحوارات المجتمعية للوقوف على رأي قطاع أوسع من الجمعيات، وأشرف الاتحاد العام على عدد كبير من تلك اللقاءات. انتهت اللجنة من عملها في شهر ديسمبر بتسليم مسودة القانون للسيد الوزير والذي قام بعد ذلك بإرساله لمجلس الوزراء. بالرغم من وجود خلافات داخل اللجنة على بعض مواد القانون، إلا أن مشروع قانون 2013 يعتبر هو أفضل المقترحات القانونية للحكومة على الإطلاق –مقارنةً بمسودات أخرى شهدت ولعًا بالسيطرة على الجمعيات الأهلية.
إلا أن من أوائل القرارات التي اتخذتها السيدة الوزيرة غادة والي بعد أقل من 10 أيام من توليها مهام منصبها هو سحب مشروع القانون من مجلس الوزراء وذلك بدعوى رغبتها في إجراء تعديلات على هذا المشروع ومشروعات أخرى كان قد تقدم بها د. أحمد البرعي.
في يونيو 2014 تم دعوة عدد من أعضاء اللجنة التي شكلها الوزير السابق د. أحمد البرعي من قبل رئيس الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية وعضو اللجنة في ذات الوقت، لمناقشة مقترحات لتعديل قانون الجمعيات الأهلية بمقر وزارة التضامن الاجتماعي. وبالرغم من الإعلان عن أن النقاش سيكون على ثلاثة مسودات مختلفة للقانون، إلا أننا فوجئنا أن النقاش قائم على النص المقترح من الوزارة لعام 2014. وأعلن رئيس الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية -الذي كان عضوًا في اللجنة التي شكلها البرعي- أن مقترح الوزارة الأخير هو أساس النقاش، وهو المقترح الذي يختلف جذريًا عن ذلك الذي انتهت إليه اللجنة التي شكلها البرعي.
يعكس مشروع القانون المقترح من وزارة التضامن الاجتماعي لعام 2014 الرؤية الخالصة للحكومة والجهات الأمنية عن كيفية السيطرة على العمل الأهلي وتأميمه، وضمان خضوعه لتوجيهات ورغبات الجهات الأمنية.
– فقد نص القانون على وجود ما يسمى باللجنة التنسيقية، وهي لجنة مكونة من ممثلين لثماني جهات حكومية وأمنية، من بينها ممثل عن وزارة الداخلية وممثل آخر عن هيئة الأمن القومي. تختص تلك اللجنة بالبت في طلبات التمويل الأجنبي، وفي تسجيل المنظمات الدولية غير الحكومية. وبحسب مشروع القانون فسلطات اللجنة واسعة للغاية، فيمكنها رفض أي تمويل أجنبي لجمعية دون إبداء أسباب، ولم يوضح مشروع القانون الأسباب التي يمكن لتلك اللجنة الاعتراض عليها. كما يحق للجنة أن تعترض على تأسيس أي منظمة دولية وفقًا لأسباب فضفاضة للغاية مثل الإخلال بالسيادة الوطنية، أو أن المنظمة الدولية نشاطها لا يتفق واحتياجات المجتمع. إن وجود مثل هذه اللجنة وبتلك الصلاحيات والتشكيل يتيح للأجهزة الأمنية حق الاعتراض المطلق على أنشطة الجمعيات، ويضع الجمعيات وخصوصًا التي تعمل في مجال حقوق الإنسان تحت رحمة تلك الأجهزة، فيمكن لتلك اللجنة ببساطة أن ترفض تمويلا لإحدى الجمعيات بهدف مكافحة التعذيب، أو تمويلا لجمعية تعمل على الدعم القانوني لضحايا التعذيب.
– على عكس ما يشاع فإن المنظمات الحقوقية ترحب بالمراقبة المستقلة على تمويل الجمعيات بل وتشجع على شفافية أنشطة الجمعيات والإعلان عن مصادر التمويل وهدفه. وقد قدمت في هذا الصدد العديد من المقترحات البديلة لعملية الرقابة على التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية تحقق شفافية عمل الجمعيات، وفي ذات الوقت تحررها من تعسف الجهات الأمنية والإدارية. من تلك المقترحات أن تلتزم الجمعية بإخطار الجهة الإدارية عن مصادر التمويل والنشاط المراد تنفيذه، ويحق للجهة الإدارية الاعتراض على هذه الأنشطة عن طريق القضاء وفقًا لأسباب محددة في القانون. ليس هذا فحسب بل اقترحت المنظمات الحقوقية أن تقوم كل جمعية بالإعلان عن أي تمويل جديد تحصل عليه. كل هذه المقترحات لاقت الرفض، لأن هدف الحكومة والأجهزة الأمنية ليس الرقابة، بل التحكم والسيطرة على نشاط الجمعيات.
– في خرق واضح لنص المادة 75 من الدستور، والتي أكدت على اكتساب الجمعية الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار، رهن مشروع القانون اكتساب الجمعية للشخصية الاعتبارية بمرور 60 يومًا من تاريخ “الإخطار” دون اعتراض الجهة الإدارية. وأعطى مشروع القانون للجهة الإدارية أسباب واسعة وفضفاضة للاعتراض مثل تهديد الوحدة الوطنية، أو مخالفة النظام العام أو الآداب.
– وفقًا لأفضل الممارسات الدولية والقواعد المستقرة لحرية تكوين الجمعيات، فللجمعيات مطلق الحرية في اكتساب الشخصية الاعتبارية من عدمه، وعادة ما تقوم الجمعيات بالتسجيل من أجل التمتع بالمزايا والإعفاءات الضريبية الموجودة في القانون. وقد أكد المقرر الخاص المعني بحرية التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات بالأمم المتحدة في تقريره الصادر عام 2012 بند 56 أن الحق في تكوين الجمعيات يحمي كذلك الجمعيات غير المسجلة ويكون لتلك الجمعيات الحق في القيام بكافة أنشطة الجمعيات المسجلة، دون أن يترتب على ذلك أي عقوبات جنائية. وعلى النقيض تمامًا حظر مشروع القانون على أي كيان آخر ممارسة أنشطة الجمعيات دون أن يتم تسجيله بموجب القانون كجمعية، بل زاد المشروع عن ذلك واعتبر أن أي ترخيص –صادر من جهة حكومية أخرى غير وزارة التضامن الاجتماعي-لتلك الكيانات منعدم ولا يرتب أثرًا. بتأمل هذا النص نجد أنها سحبت المشروعية عن كيانات قانونية منشأة وفقًا لقانون آخر وقامت بتسجيلها جهة حكومية أخرى. وإمعانًا في التعسف رتب القانون عقوبة الحبس الذي لا يقل عن سنة و/أو الغرامة التي لا تقل عن 100000 جنيه.
– يضمن مشروع القانون لوزارة التضامن الاجتماعي السيطرة على أمور الجمعيات الأهلية، فقد أتاح لها حق الاعتراض على قرارات مجلس الإدارة وإلغائها، كما أعطى لها حق الاعتراض على المرشحين لعضوية مجلس الإدارة، واستبعادهم.
– بالرغم من المطالبة الدائمة من قبل المنظمات الحقوقية، وبالرغم من خلو مشروعات قوانين الجمعيات الأهلية التي طرحت خلال الثلاث سنوات الماضية من العقوبات السالبة للحرية، إلا أن مشروع القانون المقترح نص وتوسع في عقوبة الحبس الذي لا يقل عن عام في عدد من الأفعال غير الواضحة، كتأسيس جمعية تهدف إلى الإخلال بالنظام العام، أو الوحدة الوطنية، أو تأسيس كيان –حتى لو قانوني- يقوم بأنشطة الجمعيات دون إشهاره كجمعية أهلية.
هناك –بالطبع– هدف للحكومة والجهات الأمنية من طرح مثل تلك المسودة بالغة التعاسة، ربما يكون هذا الهدف هو غلق الملاذ الأخير لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، فتختفي الأصوات المنادية بالمحاسبة عن تلك الانتهاكات، وربما يكون الهدف هو رسم صورة –زائفة– خالية من الشوائب تعكس توحد المجتمع وراء قائده الذي يخوض حربًا ضد الإرهاب، فتختفي من تلك الصورة الأصوات التي استنكرت طلب وزير الدفاع في ذلك الوقت بمنحه تفويضًا لمكافحة الإرهاب ورأت أن مكافحة الإرهاب لا تتطلب تفويضًا خارج القانون في الوقت الذي كان يستعد المصريون للاحتشاد لمنحه هذا التفويض، والأصوات التي أدانت انتهاكات قوات الأمن في الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير في الوقت الذي حاولت الدولة ووسائل الإعلام تصوير هذا اليوم على أنه يوم كرنفالي.
إلا أنه بالتأكيد ليس من أهداف الحكومة من وراء مشروع القانون تحقيق الاستقرار، فالقوانين القمعية لا تولِد استقرارًا، ولنا في قانون التظاهر أسوة. وقطعًا لا تهدف الحكومة من ورائه تحسين صورتها الدولية. وأخيرًا وبكل تأكيد لا تهدف من ورائه إلي احترام الدستور.
نُشر هذا المقال على موقع أصوات مصرية
Share this Post