مسعود الرمضاني
منذ ست سنوات تقريبا، كتبت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية عن مفارقات غريبة يعيشها الشباب في المنطقة العربية، اذ بينما يكون وجود شريحة كبيرة من هذه الفئة العمرية، في اي بلد، هبة ونعمة ورصيد تنمية ، فهم يُعاملون هنا على أساس أنهم لعنة يجب مواجهتها وعبء يجب التخلص منه وغالبا ما يعتبر ان «طموحهم يستوجب التقويم والكبح» باي طريقة، بما فيها القمع المفرط، وفي النهاية لا تُقدم لهم الا خيارات بائسة تنحصر بين الفقر والهجرة أو التطرف، حيث «في سوريا، مثلا، تظل أفضل الوظائف الشبابية هي حمل البندقية». ومن المفارقات الاخرى، هي أن منطق الأشياء في العالم يقتضي ان مستوى الدراسة المتقدم بما يتيحه من شهائد علمية هو الذي يفتح أبواب الشغل للمتخرجين من الجامعات، ويمكّن من عمل يستجيب للمهارت المكتسبة، لكن هذا لا يحصل هنا، اين يكون أصحاب الشهائد العليا هم الأكثر عرضة لعطالة طويلة المدى.
تونس: «السياسة ناد للمسنّين»
في تونس، تعوّد الشباب على الإحباط وعلى دفن أحلامه بعد أن خُذل بعد كل بارقة امل تتراءى له، وذلك منذ 2011، اذ هو من تجرأ – أكثر- على الخروج الى الشوارع وصرخ بأعلى صوته بمطالب كان النظام يعتبرها محرمة وغالب سلطة لا تتورع عن إطلاق الرصاص ، كما تحدّى الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي عبر طرقه الملتوية ورسم صورة واضحة للعالم حول ما يحدث في تونس، والمكافأة؟ بعد سابيع قليلة فقط ادرك شباب المناطق الداخلية والاحياء المهمشة ان رياح السياسة الجديدة غير مواتية لطموحاته وان مطالبه لن تتحقق بعد ان اصبحت اولويات «اهداف الثورة» لدى شيوخ السياسة هي حسم صراع الهوية و اهمية حجاب المرأة ومكانة الاسلام في المجتمع…. فغادر أكثر من 25 ألف منهم البلاد التونسية عن طريق البحر بين شهري مارس وافريل 2011، وفُقد المئات منهم قبل الوصول الى السواحل الايطالية، ولازالت العائلات تجهل مصير بعضهم، وفي عديد الاحياء الشعبية التي ساهمت في المسار الثوري ببسالة وقدمت عشرات الضحايا، مال الشباب الثائر في جزء كبير منه الى التطرف، ليس تدينا وعقيدة، بل ،غالبا، لينتقم من مجتمع لم ينصفه بل ولم يعيرتضحياته اي اهتمام.
مساران لا يلتقيان
لقد عمّق مسار الانتقال الديمقراطي منذ أشهره الأولى للثورة الازمة بين مسارين: مسار الديمقراطية بشكلها الإجرائي وما افرزته الانتخابات من نخب حزبية متعالية أدارت ظهرها لجل مطالب الثورة ومسار الشباب الذي كان يرى أن الثورة أُفتكت منه، ومع مرور السنين، تعمّقت الفجوة بين المسارين الى حد الغضب والنقمة، وقد تجاوزت هذه المشاعر النخب السياسية والحزبية والمدنية التي استفادت من حرية التعبير والانتخابات الحرة الى حدود مساءلة اهمية الديمقراطية ذاتها ، التي باسمها ، او باقتصارها على بعدها الإجرائي ساهمت في مزيد تفقير شباب الجهات الداخلية والتنكر لمطالبه الاجتماعية.
انتخابات 2019 الرئاسية: الثأر من النخب السياسية
وإن قلبت ثورة 2011 المعادلة عبر المسيرات والمظاهرات العارمة وافتكاك المبادرة من السلطة ، فإن مواجهة المنظومة الحزبية القائمة في انتخابات 2019 جاءت عبر صناديق الاقتراع ، حيث فاز السيد قيس سعيد بنسبة 76 بالمائة في الدور الثاني ، منها 90 بالمائة من الشباب ، حسب استطلاع اجرته مؤسسة سيغما كونساي ، والسيد قيس سعيد لايمتلك حزبا يقف وراءه ولا ماضي سياسي يؤهله ، كما ان خطابه الرتيب لا يثير الحماسة ولا التشويق، لكن له عدة نقاط التقاء مع الشباب ،فقد كان خطابه الشعبوي يستجيب لما يحملونه من غضب على الأحزاب والنخب ، كما ان استقلاليته تتماهى مع مطلب «اخلقة السياسة» وطهورية مبادئها امام نخب حزبية نكثت بوعودها وانقلبت على مطالب الثورة واثرت مصالحها الحزبية الضيّقة على مطالب الشعب ، فاي معنى للديمقراطية دون عمق أخلاقي؟ واي فائدة يجنيها الشباب من أحزاب وجدت لخدمة مصالحها الضيّقة؟ فقيس سعيد يحمل تلك القطيعة الراديكالية مع الديمقراطية الاجرائية ويمقت مثل اغلب الشباب الأحزاب والمؤسسات الديمقراطية رغم غياب برنامجه وبدائله ويسعى مثلهم الى «وضع سياسي مبتكر».
الخطاب والواقع
لكن حسابات الحقل تختلف عن حصاد البيدر ،والدولة لا تدار بالخطابات المنمقة ولا بالوعود المطمئنة ، فالشباب التونسي كان ينتظر ان يفي الرئيس بوعوده المتكررة ، وحتى بعد اجراءاته الاستثنائية و انفراده بالسلطة فقد غضّ الكثيرون الطرف عن عديد التجاوزات والخروقات الدستورية في انتظار ما سيحققه من إنجازات عبر وضع كل المفسدين في السجن واسترجاع الأموال المنهوبة التي ستجلب التنمية للجهات المحرومة وتمكن الشباب من شغل يضمن كرامته، و»لتذهب الديمقراطية وسياقاتها للجحيم» امام ما سيتحقق من انجازات. لكن تبين ان الرئيس، الذي رفع مع آلاف الشبان شعار «الشعب يريد» ،لا يمتلك الا ارادة الانفراد بالحكم ، وحتى حملات الاعتقال، التي كان البعض يتوهم انها ستستهدف المحتكرين والمفسدين وكل العابثين بالدولة ، فانها لم تتجاوز بعض الاشخاص الذين ينتمون لاحزاب معارضة أو اولئك الذين انتقدوا الرئيس ، كما ان الوعد باسترجاع الاموال المنهوبة التي ستعمم الرخاء وتنهض بالجهات وتوفر الشغل سرعان ما تبخرت أمام اكراهات واقع اشد تعقيدا واكثر تعنتا من أضغاث الأحلام واوهام الوعود.
اللهاث الدائم وراء المنقذ
لابد من الاعتراف ان اخفاقاتنا المتتالية و احباطاتنا المتكررة ناتجة اساسا عن سطحية فهمنا السياسي وخواء عقلنا الجمعي ومحدودية ايماننا بقدراتنا الذاتية وتبرمنا من الفعل ، كل هذا يجعلنا دائمي البحث عن الزعيم المنقذ ، الذي يخدعنا بسحر خطبه او يفتننا بما يظهر من علو اخلاقه او بوعوده المسكنة، لذلك ما ان نخرج من احباط حتى نغرق في اخر ، احيانا اسوأ ،وهذا ، مع الاسف، ما أورثناه الى الاجيال الجديدة ، التي لم نعلمها ثقافة التضحية والتعويل على النفس و ولم نشحذ فيها الإيمان بقدراتها الذاتية. لذلك لن تكون اول شروط تغيير هذا الواقع الا عبر تكسير البراديغميات الموروثة ، فلا يكفي ان يتخلص الشعب وخاصة شبابه من ثقافة مبنية على الخوف والرهبة من سطوة الاستبداد، اذ يجب ان يتخلص من عقلية «البديهيات» السياسية القديمة، المبنية على الخنوع والتواكل والبحث عن القائد الفذ الذي يسلم له مصيره ليتحكم فيه بمفرده، لذلك نحن في حاجة الى غرس ثقافة جديدة تتماهى مع الشعارات التي رفعت زمن الثورة ، مع شحنها بابعادها الواقعية ، بعيدا عن الطوبويات الملتبسة، اذ لا تتوفر حرية دون تضحية ولا يمكن ان توجد عدالة دون عمل وليس هناك من ديمقراطية دون وجود شعب يستحقها.
المصدر: جريدة المغرب
Share this Post