مسعود الرمضاني
عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.“الكلماتُ هي وسيلتي لإنجاز رحلتي، من الغابة المظلمة، إلى السّماء السابعة“
(دانتي ، الكوميديا الالهية)
“دون كيشوت” هي رواية عالمية ، ألفها الكاتب الإسباني ميجال دي سرفنتاس في بداية القرن السابع عشر، وقد فاقت شهرتها اسم كاتبها وترجمت إلى جل لغات العالم، بطلها، دون كيشوت، قرأ عن الفروسية التي بدأت قيمها تفل مع تفكيك العلاقات الإقطاعية في أوروبا، وذلك مع الاكتشافات الباهرة وما رافقها من فكر تنويري فتح أفقا معرفية وقيما إنسانية جديدة، فقرر صاحبنا أن يتحدى الواقع المتغيّر ويتقمص دور الفارس المغوار، غير مدرك في غمرة حماسه الفيّاض ، انه يسبح في اوهام مخيّلته ، وان الواقع حوله مختلف ، فيتسبب في كوارث لا تحصى ويخسر كل معاركه الوهمية وترميه الطواحين، التي تخيّلها اعداء ونازلها بسيفه الخشبي البائس وحصانه الاعرج الهزيل، بعيدا وينال نصيبه من العقاب على يد الرعاة بعد ان قتل اغنامهم التي تخيّلها جيوشا جرّارة، الى ان يستفيق، بعد رحلة أوهام شاقة…
والسر في بقاء “دون كيشوت” كمرجع بارز في تاريخ الادب ليس فقط لأنها اشّرت لبداية الرواية الحديثة ولا ايضا لسلاسة اسلوبها وطراوة لغتها ولا حتّى لسخريتها الكاريكاتورية الفريدة، بل لان بطلها شخصية نموذجية وقابلة لإيواء عديد المفاهيم والتركيبات النفسية العابرة للعصور، تعترضك كل يوم في حياتك ، و في كل زمن، فكم من دون كيشوت، اليوم، لا يرى الواقع الا بمنظار خياله وانطباعاته واوهامه وتقلبات مزاجه، سكنه ثلاثي الوهم والكبرياء والعناد، فغفل عن الانصات لصوت العقل ، وظنّ نفسه انه فارس عصره و سيّد الحكمة الذي لا يشق له غبار؟ كم من متهور ظنّ نفسه بطلا، اتت به الاقدار ليحرر العالم من الاشرار والطغاة وينشر، أينما حل، العدل مكان الظلم والحيف، غير عابئ بحدود قدراته، فتكون نهايته مأساوية؟
بين اوهامنا وواقعنا
في الواقع ،تختزل براعة سرفنتاس تلك الثنائية التي تتجاذبنا نحن البشر ، ذاك الصراع الذي يمكن ان يستقر داخل كياننا، بين شطحات الخيال وترشيد العقل ، بين احلامنا الطوباوية وارهاصات واقعنا ، و”المعارك” التي يخوضها اي منّا ، بين رغباته واضغاث احلامه وبين ما يمكن تحقيقه، وفي النهاية ،منّا من ينتصر للعقل ويتعامل مع الواقع بحكمة ، ومنّا من يعمل بعناد طفولي على تثبيت اوهامه ، خطر هؤلاء هو انهم يعيشون حالة من الانفصام ، لا تضرّ بكيانهم فقط ، بل بمن حولهم، ايضا، ويوجد في العالم اليوم العديد من الزعماء الذين لا يرون العالم الا بمنظار تصوراتهم وافكارهم ، لا عبر ما تقتضيه السياسة من براغماتية وحنكة ومعرفة، خاصة أولئك الذين جاءت بهم الصدف وافتقروا الى التجربة ، فيصابون سريعا بجنون العظمة ، متوهمين انهم حقا اشخاص متميزون، ويصل بهم العناد والكبرياء الى تخيّل ان كل من يحاول عقلنتهم هو عدو يجب القضاء عليه ، تماما مثل دون كيشوت…
عجرفة شعبوية
خلال شهر افريل 2018، صدر مقال مهم في واشنطن بوست لنيل بوش، قارن خلاله الكاتب بين ودون كيشوت دونالد ترامب ، يقول فيه ان وجه المقارنة ان الاول يحارب طواحين الريح ، لإنجاز بطولات فات زمانها وكسب ود حبيبته ،وترامب يختلق الاعداء ، في الداخل والخارج ، ظنّا منه انها الطريقة الوحيدة التي يكتسب بها “شعبوي متعجرف مثله” عطف القاعدة الانتخابية الامريكية، فتكون النتيجة ان يضرّ بالعلاقات الامريكية واقتصادا لبلاد وديبلوماسيتها، طول بقائه في الحكم….
كما رسم المصور الكارتوني بان هاريسون فيديو صور متحركة، لترامب على حصان هزيل ويحمل رمحا قديما، أسماه “دون ترامب كيشوت”، وذلك بعد ان تقدّم ترامب بشكوى ضد عدد من شركات الميديا التي زعم انها سلبته حقه في التعبير حين حجبت مواقعه الشاتمة والمتنمرة، الفرق الوحيد بين دون كيشوت وترامب ، يقول هاريسون ان دون كيشوت يحارب طواحين ريح وهم اعداء وهميين ، بينما يحارب دونالد ترامب دولا وشخصيات فاعلة وميديا مؤثرة، فيكون مدعاة للسخرية ويتسبب في كوارث لا تحصى.
فوضى حواس جماعية
في تونس ، نعيش فوضى حواس جماعية ، نراوح صلبها بين عدة خطابات متناقضة ، يلتبس فيها الوهم بالواقع والحقيقة بالخيال ، بين خطاب رسمي يسعى الى اقناعنا بان المتآمرين والخونة والمحتكرين والنخب هم سبب ازمتنا و مدعاة كل مصائبنا ،وان البلاد ستصبح قريبا واحة رخاء بعد القضاء عليهم جميعا، و ان استرجاع اموالنا المنهوبة سيدر علينا اموالا طائلة تفيض بها خزائن دولتنا حتى اننا سوف لا نستحق الى العمل ونركن جميعا للراحة، وبين الواقع الذي يكتوي به المواطن يوميا ،بين البحث عن المواد الاساسية المفقودة والتهاب اسعارها، اضافة الى الخوف الذي تبثه ، يوميا، شهادات الخبراء ووكالات الترقيم السيادي والمؤسسات المالية العالمية ، التي تحذر من اننا نسير في الطريق الخطأ وان المالية العمومية تعيش ازمة حقيقية ،بسبب هشاشة الاوضاع السياسية واضطرابها و نقص السيولة وضعف الاستثمار وغياب الاصلاحات العاجلة والآجلة …
وبالنهاية، فان اختلاق الاعداء ومهاجمتهم هي السمة البارزة لدى دون كيشوت كما لدى “الشعبويين الجدد”، فكما حاول بطل الرواية اقناع خادمه سانشو ان طواحين الريح هم متمردون وان الاغنام التي قتل منها الكثير هي جيوش جرارة، يحاول (احيانا بنجاح منقطع النظير) الشعبويون اقناع عامة الشعب، انهم ابطال عصرهم وانهم الاكفأ على مواجهة الازمات المعقدة وحلّها، فتكون النتيجة المنتظرة التي يدركها كل عاقل…
في النهاية، وبعد المصائب التي تسبب فيها وبعد ان استفحل به المرض، يعود دون كيشوت الى رشده ويتذكر اسمه الحقيقي ويدرك ان ركوب صهوة الفروسية كان تهورا وان الواقع مختلف عن تصوراته واوهامه، “فطوبي له” أخيرا.
لكن، نحن، كم يلزمنا من الوقت حتى نشفى من حمّى اوهامنا؟
Share this Post