معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري، المشرف العام على مجلة رواق عربي الصادرة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.واحد من المطالب البسيطة لمنظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية وغير المكلفة سياسياً للنظام الحاكم في مصر، وكان يمكن للحكومة أن تستجيب له ببادرة طيبة في سياق الحديث المتكرّر عن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، أو ما يعرف بالحوار الوطني مع المعارضة المصرية، تسهيل إصدار الوثائق الثبوتية وتجديدها، مثل بطاقات الهوية وجوازات سفر للنشطاء المصريين وللمصريين عامة في الخارج. لكن الشواهد الحالية تؤكّد أن سياسة ابتزاز المصريين في الخارج بالوثائق الرسمية ما زالت منهجية، وفي تزايد خلال العام الأخير في مختلف الدول التي يوجد فيها المصريون سواء في أوروبا، أو الولايات المتحدة، أو تركيا، أو بعض الدول العربية. أصبحت السفارات والقنصليات المصرية بمثابة نقاط شرطة تعمل بتعليمات الأمن الوطني، للضغط على من تشاء من أبناء الجاليات المصرية، واستمالة عودة من تشاء. أصبحت السلطة بهذه السياسة توزّع صكوك المواطنة لمن يستحقّ من المصريين، تبعاً لأهوائه وميوله تجاه الرئيس ونظام الحكم في مصر.
حرمان المصريين الحصول على وثائقهم الثبوتية عقاباً على خلفياتهم السياسية أو المهنية، لا يُعَدّ فقط اعتداءً صارخاً على الدستور وأبسط حقوق المواطنة، لكنه بالتأكيد يُحدث أزمات لتلك الدول العربية والأجنبية التي تستضيف هؤلاء المصريين، والتي تربطها جميعاً علاقات وثيقة بالسلطات المصرية حالياً. فقد تحوّل هذه الإجراءات التعسّفية هؤلاء المصريين إلى حالة أقرب إلى “عديمي الجنسية”، وستصبح مسؤولية حمايتهم من الناحيتين، القانونية والأخلاقية، على أعناق الدول المضيفة. وأَولى بهذه الدول ذاتها أن تضغط على السلطات المصرية للتوقف الفوري عن اتّباع هذه السياسة التعسّفية، لما تسبّبه من مشكلاتٍ قانونية وحرج دولي لسلطات الدول المضيفة. والمفارقة أن الحكومة المصرية تتلقى مساعدات مالية ضخمة من الاتحاد الأوروبي للتحكّم في تدفق الهجرة غير النظامية من حدودها، ولكن سياساتها في إنكار إصدار الأوراق الثبوتية للمصريين في الخارج يساهم بالفعل في زيادة أعداد طالبي اللجوء أو زيادة المقيمين بشكل غير قانوني في هذه الدول. وكان برنامج “للقصة بقية” الذي تبثه قناة الجزيرة قد فتح هذا الملف في إحدى حلقاته في مايو/ أيار 2019، وعرض قصصاً لمعاناة المعارضين المصرين، وخصوصاً المقيمين في تركيا، في استخراج شهادات ميلاد لأبنائهم أو استخراج أي وثائق من القنصلية المصرية في إسطنبول. وأدى ذلك عملياً إلى زيادة أعداد المصريين الذين انتقلوا من تركيا إلى دول أوروبية، طالبين الحماية الدولية هناك، أو الذين يتقدّمون بطلبات حماية إلى مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق اللاجئين.
وكان النائب السابق محمد أنور السادات قد أعلن في سبتمبر/ أيلول 2022 ما أطلق عليها “مبادرة العودة الآمنة” لتسهّل عودة المصريين المنفيين خارج البلاد اضطرارياً أو طوعياً. وأكّد وقتها دعم الجهات السيادية في الدولة هذا التوجه. لكن مصريين قليلين جداً تقدموا لهذه المبادرة تمت الموافقة على عودتهم، ووفق شروط صارمة تتعلق بالأساس بالتوقف الكامل عن نشاطهم السياسي المعارض لتوجّهات نظام الحكم الحالي. لكن بالتوازي مع إعلان هذه المبادرة، توسّعت السفارات المصرية في الخارج في تعطيل تجديد الأوراق الثبوتية لمصريين كثيرين أو رفضه. وقد وثقت منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها الصادر قبل أيام رفض السلطات المصرية بشكل منهجي إصدار هذه الوثائق لعشرات المعارضين والصحافيين ونشطاء حقوق الإنسان المقيمين في الخارج، وأكّدت المنظمة أن هذا الرفض يهدف إلى “الضغط عليهم للعودة إلى مصر ليواجهوا الاضطهاد بشكل مؤكّد”. ووثقت 26 قصة لمصريين معارضين وصحافيين ومحامين وأفراد عائلاتهم في تركيا وألمانيا وقطر ودولة أفريقية وعربية أخرى حُرموا تعسفياً إصدار السفارات المصرية في هذه الدول أوراقهم الثبوتية أو تجديدها. وفي كثير من هذه السفارات حالياً يجري إخطار المصريين مباشرة بأن موافقة الأجهزة الأمنية شرطٌ مسبق لبدء تجديد بطاقات الهوية أو جوازات السفر. وقد اتسعت هذه السياسة، وأصبحت تطاول مصريين ليست لهم أنشطة سياسية أو معارضة، بل إن مجرّد الشك في توجهاتهم أو خلفياتهم المهنية يحرمهم مباشرة بعض التعاملات القنصلية الضرورية لتسيير حياتهم اليومية في الدول التي يقيمون فيها.
يستعدّ الرئيس عبد الفتاح السيسي للمشاركة في إفطار الأسرة المصرية السنوي الذي يضم مكونات مختلفة للمجتمع المصري، وسيكون قد مرّ عام على وعده بإطلاق حوار وطني مع جميع القوى السياسية “من دون إقصاء أو تمييز”. ويتوقع، بحسب بعض المصادر، أن السيسي سيعلن، في خطابه في هذا الإفطار، وقبل انعقاد جلسات الحوار في شهر مايو/ أيار كما هو مقترح من مجلس أمناء الحوار الوطني، القيام بتدابير إصلاحية حقوقية محدودة، تهدف إلى مغازلة المجتمع الدولي، والإدارة الأميركية بشكل خاص، وتهدئة الأوضاع السياسية والاحتقان الاجتماعي داخلياً في مصر، في ظل النقاش الجاري بشأن فرص بعض الشخصيات السياسية في منافسة السيسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وإقناع أعضاء الحركة المدنية الديمقراطية بالمشاركة في جلسات الحوار بعد إعلانها رفضها المشاركة قبل اتخاذ إجراءات لبناء الثقة، من ضمنها الإفراج عن سجناء الرأي. في هذا السياق، سيكون تنفيذ توصية تقرير “هيومان رايتس ووتش” الصادر أخيراً، إصدار الرئيس المصري ورئيس الحكومة تعليمات للأجهزة الأمنية والبعثات الدبلوماسية بإنهاء جميع المعوقات “الخارجة عن القانون” التي تعرقل إصدار الوثائق الثبوتية للمصريين في الخارج، خطوة على الطريق الصحيح للبدء بالالتفات إلى المطالب المشروعة لآلاف من النشطاء والسياسيين والحقوقيين في الخارج، الذين أُقصوا بالكامل عن مشاورات الحوار الوطني، منذ انطلقت في صيف العام الماضي.
المصدر: العربي الجديد
Share this Post