بينما تستعد مصر للانتخابات الرئاسية في ديسمبر/كانون الأول 2023، تحذر منظمات حقوق الإنسان الموقعة أدناه من أن مصر تمر بمنعطف تاريخي حرج، وأن الفشل في عملية إصلاح سياسي واقتصادي جادة تبدأ فورًا؛ سيؤدي لتفاقم خطر عدم الاستقرار وتضاعف من احتمالية انهيار الدولة. وتعتقد المنظمات أن ولاية ثالثة للرئيس السيسي ستصادر أي فرصة لهذا الإصلاح الملح، خاصة في ظل تنصله المستمر من المسئولية عن الأزمة الراهنة، فضلاً عن أن تصريحاته المتوالية الأخيرة تكشف بشكل واضح أنه لا ينوي تغيير المسار.
في الفترة التي سبقت الإعلان رسميًا عن ترشحه لولاية رئاسية ثالثة، أشار الرئيس السيسي إلى المجاعة الصينية الكبرى (1958-1962)، مشيًدا بأنه في بلد مات فيه 25 مليون شخص بسبب نقص الغذاء، لم ينهض [مواطنوه] لتدميره، بل بنوه ليصبح قوة عظمى. هذا التصريح ينذر بخطر محدق في ضوء تعليقاته قبل يوم واحد أنه “إذا كان ثمن البناء والتنمية والتقدم هو الجوع والحرمان.. فلن نأكل أو نشرب”. كما أشار السيسي إلى أن الدفع بملايين الأشخاص للشوارع والتحريض على الفوضى غير مكلف ماديًا، واصمًا فعليًا أي سيناريو قد يعبر من خلاله المواطنون العاديون عن رفضهم للوضع السياسي والاقتصادي الراهن.
منذ أن تولى الرئيس السيسي السيطرة الفعلية على مصر في يوليو/تموز 2013، عاشت البلاد العقد الأسوأ لحقوق الإنسان في تاريخها الحديث. فرغم أن الحكم في مصر قبل 2011 كان استبدادي بشكل واضح، إلا أن نطاق وشدة انتهاكات حقوق الإنسان قد تضاعفت بشكل كبير بعد 2013. إذ صدرت أحكام الإعدام بحق الآلاف في محاكمات جائرة وصفها خبراء الأمم المتحدة وقتها بأنها “استهزاء بالعدالة.” وقُتل ما يقرب من ألف متظاهر على أيدي قوات الأمن خلال النصف الثاني من عام 2013 فقط، في حين تصاعدت عمليات القتل خارج نطاق القانون وتحولت لنمط واضح ومتكرر في مختلف أنحاء البلاد. كما أخفت السلطات المصرية قسرًا آلاف الأفراد، وتلقت مصر، اكثر من أي دولة أخرى منذ عام 2020، بلاغات واستفسارات من الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري وغير الطوعي بالأمم المتحدة. وحاليًا يقبع عشرات الآلاف من الأفراد السلميين في السجون، بتهم ذات دوافع سياسية، بينهم معارضين وصحفيين وأكاديميين ورجال أعمال والعديد من المواطنين العاديين. كما يتم استهداف منصات الإعلام المستقل ومنظمات المجتمع المدني بشكل منهجي في محاولة لإسكاتها، إما من خلال تشريعات تقييدية للغاية أثارت انتقادات المجتمع الدولي، أو من خلال الاعتقالات؛ حتى أضحت مصر واحدة من أكبر الدول التي تسجن الصحفيين في العالم.
لقد سبق وحذرت منظماتنا من أن أزمة حقوق الإنسان في مصر ليست ضريبة غير مقصودة للاستقرار، ولا هي “شر لا بد منه”، بل هي سمة مقصودة لأسلوب الحكم الذي اعتمده الرئيس السيسي منذ وصوله للسلطة عام 2013. فعلى مدى العقد الماضي، فرض السيسي سيطرته المباشرة على مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسات المستقلة اسميًا. فعبر العديد من التعديلات التشريعية والدستورية، تآكل هامش الاستقلال المحدود الذي حافظ عليه القضاء قبل عام 2013. ورغم أن الانتخابات التشريعية في مصر لها تاريخ طويل من التزوير والترهيب ضد المعارضة، إلا أن مستوى السيطرة التي تمارسها الأجهزة الأمنية على البرلمان الحالي قد وصل لمستويات غير مسبوقة. هذا بالإضافة إلى سيطرة الرئيس على مؤسسات أخرى، مثل جهاز الرقابة الإدارية لمكافحة الفساد، حيث يتولى موالون السيسي الإدارة، بمن فيهم أحد أبنائه.
أما النتيجة المباشرة لهذا النمط من الحكم فلا تقتصر على أزمة حقوق الإنسان المستمرة فحسب، بل تمتد لخلق أشد أزمة اقتصادية واجهتها مصر منذ عقود بعيدة. إذ تسبب احتكار عملية صنع القرار، والافتقار للشفافية والمساءلة، لتنامي سياسات اقتصادية مفترسة تغذي شبكات المحسوبية بما في ذلك مع الجيش، الأمر الذي جعل الاقتصاد المصري في حالة فوضى، وعرضة لخطر التخلف عن السداد بشكل كبير. وقد ترك ارتفاع الدين الحكومي والتضخم معظم المصريين يكافحون لتغطية نفقاتهم، وسط استياء شعبي.
في الوقت نفسه، يرفض الرئيس السيسي بإصرار الاعتراف بهذا الواقع، ويتنصل من مسئوليته عنه. وقد أظهرت مبادرات العلاقات العامة مع المجتمع الدولي؛ مثل الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان والحوار الوطني، مرارًا وتكرارًا عدم جدواها، لا سيما بالنظر إلى أنها لا تعترف بنطاق وطبيعة أزمة حقوق الإنسان في مصر. وفي الوقت نفسه، يتم إلقاء اللوم زورًا على العوامل الخارجية كسبب وحيد للأزمة الاقتصادية ، ويُطلب من المواطنين المصريين الاستعداد لمزيد من المصاعب الاقتصادية القادمة، مما يزيد سخطه. فهذه الاحتجاجات العفوية المناهضة للسيسي التي اندلعت مباشرة في عدة مدن مصرية بعدما أعلن رسميًا ترشحه لولاية ثالثة، ربما مجرد مقدمة لما قد تشهده مصر في الأشهر المقبلة.
جاءت ولاية الرئيس السيسي الأولى في أعقاب “واحدة من أكبر عمليات القتل في يوم واحد لمتظاهرين في العالم في التاريخ الحديث”، بينما جاءت ولايته الثانية وسط موجة من القمع شهدت اعتقال منافسيه أو إجبارهم على الانسحاب. فمن غير المتوقع أن تقدم محاولة الرئيس السيسي لولاية ثالثة للمواطنين المصريين أي خيار حقيقي مختلف، خاصة بالنظر لقدرته على تطويع القانون والترشح لولاية ثالثة بموجب تعديلات غير دستورية على الدستور.
طوال فترة حكم الرئيس السيسي لم تتوقف منظماتنا عن المطالبة بالإصلاح بكل السبل المشروعة. وقد قوبلت هذه المحاولات بسلسلة من الهجمات الأمنية والقضائية والإعلامية الممنهجة على منظمات حقوق الإنسان المستقلة، بما في ذلك استخدام التعذيب والإخفاء القسري وإصدار أحكام جائرة بالسجن، بل والطعن علنًا في عدة مناسبات على مدي صلاحية تطبيق التزامات حقوق الإنسان على الشعب المصري. لذا فقد استقر في يقيننا أنه ليس لدي الرئيس السيسي أدني إرادة للإصلاح. واليوم، بينما تحتاج مصر إلى سن إصلاحات عميقة وفورية، بما في ذلك تلك التي من شأنها أن تمنح مؤسسات الدولة استقلالها وتنتشل اقتصادها من هاوية عميقة؛ نعتقد أن ولاية ثالثة للرئيس السيسي لن تؤدي إلى إصلاح سياسي وحقوقي واقتصادي، بل تنطوي على مخاطرة تدفع بمصر إلى الانهيار، بما يحمله ذلك من تبعات سلبية على المنطقة والعالم.
المنظمات الموقعة:
- مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان
- لجنة العدالة
- الجبهة المصرية لحقوق الإنسان
- مركز النديم
- مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان
Share this Post