Original picture: thomas koch / Shutterstock.com – Edited by CIHRS

بعد أربعة عشر عامًا على الثورة الليبية.. يَسُود انعدام القانون وتوظيف الخطاب الديني والقمع المتأصل

In البرنامج الدولي لحماية حقوق الإنسان, دول عربية by CIHRS

بعد مرور أربعة عشر عامًا على ثورة 2011 التي أطاحت بنظام معمر القذافي، لا تزال ليبيا تشهد تفاقمًا حادًا في أزمة حقوق الإنسان. فبدلًا من تلبية تطلعات الشعب في الديمقراطية والعدالة، يشهد الوضع الراهن قمعًا ممنهجًا، وتشرذمًا سياسيًا، وانتهاكات واسعة النطاق ترتكبها جماعات مسلحة دون محاسبة. ورغم مرور 14 عامًا على سقوط النظام الديكتاتوري، الذي حكم البلاد بقبضة حديدية لثلاثة عقود، لا يزال الليبيون يرزحون تحت وطأة قوانين قمعية موروثة من عهد القذافي، تُستخدم لإسكات أي صوت معارض.

في المشهد الليبي المتصدع، تنقسم السلطات بشكل رئيسي بين حكومة الوحدة الوطنية المتمركزة في طرابلس غربًا، والمؤسسات السياسية والعسكرية في الشرق تحت قيادة المشير حفتر. وتسعى كلتا الحكومتين لترسيخ سلطتهما الاستبدادية من خلال توظيف متزايد للخطاب الديني المتطرف، لإحكام السيطرة على حياة المواطنين وقمع أي معارضة. وقد تغلغلت حملة القمع لتشمل مختلف فئات المجتمع، صحفيين وحقوقيين ونساء، وكذا المواطنين العاديين، الذين يعبرون عن أراء معارضة أو يأبوا الامتثال للمعايير الاجتماعية والدينية السائدة.

يقول زياد عبد التواب، نائب مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان: «بعد مرور أربعة عشر عامًا على الثورة، وبدلًا من ردع الميليشيات التي تُرهب الليبيين؛ تستغل السلطات في الشرق والغرب الخطاب الديني المتطرف لإحكام سيطرتها على المواطنين، ماذا يرتدون وماذا يسمعون، وكيف يتصرفون. وما لم تُتخذ إجراءات عاجلة لكسر حلقة العنف والقمع هذه؛ وخطوات ملموسة تضمن سيادة القانون والإصلاح السياسي الحقيقي؛ فإن ليبيا معرضة لخطر ترسيخ الاستبداد والتخلي عن التطلع لدولة ديمقراطية تحترم الحقوق».

منذ 2014، تخوض السلطتان الشرقية والغربية معارك متقطعة تنافسًا على السلطة، الأمر الذي أغرق البلاد في حالة من الشلل السياسي. كما تسبب الانسداد السياسي المطول في تعزيز نفوذ الجماعات المسلحة وترسيخ سيطرتها على مؤسسات الدولة، وارتكاب انتهاكات متعددة لحقوق الإنسان في ظل إفلات متواصل من العقاب. وحسبما أشار مؤخرًا تقرير لمجلس الأمن؛ فقد تغلغلت هذه الجماعات المسلحة داخل المؤسسات السياسية والاقتصادية الليبية، وأضحت تفرض نفوذًا غير مسبوق على مؤسسات الحكم. فبينما تتلاعب هذه الجماعات بالهيئات الحكومية لخدمة مصالحها في غرب ليبيا؛ تُحكم القوات المسلحة الليبية في الشرق قبضتها على السلطة والموارد الاقتصادية. وقد تنامت ثروات هذه الجماعات من خلال تهريب الوقود، والضرائب غير المشروعة، والاستيلاء على إيرادات الشركات الحكومية.

استغلال الخطاب الديني لترسيخ القمع

على مدى العامين الماضيين، كثفت السلطات في الشرق والغرب من استخدام الذرائع الأخلاقية لتعزيز سيطرتها الاستبدادية، واستهدفت بشكل خاص النساء ومنظمات المجتمع المدني. على سبيل المثال، في 6 نوفمبر 2024، أعلن وزير الداخلية الليبي، في حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها لدى الأمم المتحدة، عن خطط لتشكيل «شرطة الأخلاق»، وإجبار النساء على ارتداء «الحجاب». في الوقت نفسه، فرضت وزارة الداخلية في الشرق ضرورة الحصول على «موافقة من وزارة الثقافة والأجهزة الأمنية المختصة» لأي عمل فني، مستهدفةً على وجه التحديد أغاني الراب، بزعم أنها «تتضمن لغة بذيئة، وتشجع على استغلال القاصرين، وتحرض بشكل مباشر على ارتكاب الجرائم والتمرد على القيم الأسرية».

بالإضافة إلى ذلك، تم توظيف الخطاب الأخلاقي كأداةٍ فعّالة لقمع المجتمع المدني، من خلال حملات ممنهجة لتشويه سمعة النشطاء وتبرير الإجراءات القمعية بحقهم. على سبيل المثال، وخلال مؤتمر صحفي مؤخرًا، اتهم لطفي الحراري، رئيس جهاز الأمن الداخلي طرابلس، منظمات المجتمع المدني بالتجسس والتبشير بالمسيحية والتحريض على المثلية الجنسية.

لم تكتف السلطات في الشرق والغرب بتوظيف ترسانة القوانين القمعية من عهد القذافي لقمع المعارضة؛ وإنما عمدت إلى تعزيزها بقوانين إضافية أكثر قمعية. على سبيل المثال يمنح القانون رقم 19 لسنة 2001 الدولة صلاحيات واسعة للتحكم في منظمات المجتمع المدني، بدءً من تأسيسها وصولًا إلى مصادر تمويلها. فيما تجرم المادة 206 من قانون العقوبات أنشطة جماعات المعارضة، وتفرض عليها عقوبات قاسية تصل حد الإعدام. إلى جانب القانون رقم 65 لسنة 2012 الذي يُقيّد الاحتجاج السلمي ويفرض متطلبات ترخيص مسبق صارمة. وبدوره، يعتمد القانون رقم 3 لسنة 2014 بشأن مكافحة الإرهاب تعريفًا فضفاضًا للإرهاب، ما يتيح مقاضاة النشطاء والصحفيين. بينما يوسع قانون الجرائم الإلكترونية لعام 2022 نطاق المراقبة الحكومية على المحتوى الإلكتروني، ويجرم المعارضة على الإنترنت. هذه الترسانة من القوانين القمعية تُستخدم لقمع أي محاولة للمعارضة، وتضييق الخناق على الحريات العامة تحت ذريعة الحفاظ على الأمن وحماية القيم الأخلاقية. ورغم هذه التحديات؛ لا تزال بعض الجماعات الفاعلة والشبابية تُكافح للحفاظ على نشاطها السياسي، رغم المخاطر الجسيمة التي قد تتعرض لها.

قضاء مغلول تحت سطوة السياسة والجماعات المسلحة.

لا يزال القضاء في ليبيا يعاني من ضعفٍ وهشاشةٍ، مما يجعله عرضةً للضغوط من مختلف الجهات السياسية والجماعات المسلحة. على سبيل المثال، في مايو 2023، أقدم جهاز الأمن الداخلي في طرابلس على احتجاز تعسفيّ لعدد من النشطاء من مجموعة «تنوير»، وهي منظمة تُعنى بالدفاع عن حقوق النساء والمثليين والمتحولين جنسيًا وثنائيي الجنس في ليبيا. وتمت مقاضاتهم بتهم مُبهمة مثل الإلحاد ونشر الفجور، بعدما نشر جهاز الأمن الداخلي مقاطع فيديو لاعترافاتهم، يُرجَّح أنها منتزعة تحت الإكبراه والتعذيب.

تتمتع الجماعات المسلحة في ليبيا بحصانةٍ شبه كاملةٍ من العقاب، وهو ما يتضح من حادثة اغتيال المحامية البارزة حنان البرعصي في وضح النهار في بنغازي في نوفمبر 2020، والتي لم تنكشف ملابساتها حتى اليوم. وتورطت قوات تابعة لكلتا الحكومتين في أعمال قتل خارج نطاق القانون، وحالات إخفاء قسري، وانتهاكات أخرى، من بينها الإعدام الجماعي بحق سجناءً عام 2017 على يد محمود الورفلي، القائد البارز في الجيش الوطني الليبي، والذي كان مطلوبًا لدى المحكمة الجنائية الدولية، لكن اٌغتيل لاحقًا بدلًا من تقديمه للعدالة.

وفي الوقت الذي يشهد فيه النظام القضائي الليبي شللًا تامًا، عمدت دولٌ أخرى إلى إعاقة الجهود الدولية الرامية لتحقيق المساءلة. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك قضية أسامة نجيم المصري، مدير جهاز العمليات والأمن القضائي، المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فبينما احتجزت السلطات الإيطالية نجيم في يناير 2025؛ إلا أنها سريعًا ما أطلقت سراحه بدعوى وقوع أخطاء إجرائية خلال عملية الاعتقال، كما سمحت إيطاليا بعودته إلى ليبيا دونما محاسبة على جرائمه، متخاذلًة عن تنفيذ أوامر المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله وتسليمه. وبينما يخضع رئيس الوزراء الإيطالي ووزيران للتحقيق في ملابسات إطلاق سراح نجيم المصري؛ تُظهر هذه القضية بجلاء كيف أن إنفاذ حقوق الإنسان في ليبيا يتعرض لتقويض شديد من جانب الحكومات الغربية التي تتجاهل الالتزام بالقوانين والمعاهدات الدولية المُلزمة.

الانتهاكات بحق المهاجرين واللاجئين

يُعاني المهاجرون وطالبو اللجوء في ليبيا ظروف غير إنسانية، تتضمن التعذيب والاتجار بالبشر والاستعباد والعمل القسري والعنف الجنسي، إثر احتجازهم تعسفيًا لفترات غير محدودة في مراكز احتجاز تحت سيطرة قوات تابعة للدولة وميليشيات وعصابات تهريب. وقد كشفت الأمم المتحدة عن أن العديد من هذه المرافق تعمل بمعزل عن أي رقابة قانونية، ما يعزز الاستغلال الممنهج وارتكاب الانتهاكات بحق المحتجزين فيها.

كان التقرير الختامي لبعثة الأمم المتحدة السابقة لتقصي الحقائق في ليبيا قد سلط الضوء على احتمالية تورط صناع القرار الأوروبيين في هذه الجرائم، الأمر الذي لم يعره الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء أي اهتمام حتى اللحظة.

في هذا السياق، وفي ذكرى الثورة الليبية، ندعو:

  • المجتمع الدولي إلى ضمان إجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة تحت الإشراف الكامل للأمم المتحدة، بعد نجاح الانتخابات البلدية عام 2024.
  • السلطات الليبية إلى إلغاء القوانين القمعية، بما في ذلك القانون رقم 19 لسنة 2001 بشأن الجمعيات, والمادة 206 من قانون العقوبات، واعتماد إصلاحات تشريعية للإطار القانوني تحترم حرية تكوين الجمعيات وحرية التعبير عن الرأي والتجمع.
  • السلطات في الشرق والغرب إلى تفكيك قوات الميليشيات، وإجراء إصلاح شامل لقطاع الأمن. ويتطلب ذلك حل الجماعات المسلحة، ودمج الأفراد بعد تدريبهم في جهاز أمني احترافي، وتشكيل هيئة رقابة مدنية لضمان المساءلة.
  • مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة إلى تشكيل بعثة جديدة لتقصى الحقائق في ليبيا، نظرًا لانتهاء ولاية البعثة السابقة، بناءً على قرار مجلس حقوق الإنسان رقم 39/43 (2020)؛ وذلك لضمان إجراء تحقيقات مستقلة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد.
  • الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه إلى تنفيذ توصيات بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، فيما يتعلق ببذل العناية الواجبة والمتناسبة والشاملة في مجال حقوق الإنسان بشأن أي دعم يُقدم للجهات الفاعلة الليبية المشاركة في قطاع الأمن أو إدارة الحدود أو الهجرة؛ وإعطاء الأولوية لاحترام مبدأ عدم الإعادة القسرية.
  • مجلس الأمن إلى اتخاذ إجراءات حاسمة في إنفاذ حظر الأسلحة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1970 (2011) وفرض عقوبات على الجماعات المسلحة المسئولة عن ارتكاب انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان.
  • أعضاء المحكمة الجنائية الدولية إلى اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لضمان تنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة بحق المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

Share this Post