مسعود الرمضاني
عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.“عندما تمرض الديمقراطية، تسارع الفاشية لزيارتها…. لكن ليس للاطمئنان عليها”
Albert Camus
“السعادة ممكنة”:
مواجهة الديكتاتورية لا تتطلب دائمًا برنامجًا سياسيًا متكاملًا ولا تفترض دائمًا وجود نخب سياسية فاعلة، خاصة إذا كانت هذه النخب، بحكم وهنها وتشتتها وما تعرضت له من قمع، غير قادرة على المواجهة، فالوسائل المبتكرة التي تنطلق من الواقع البسيط وتحاكي اهتمامات عامة الشعب، قد تكون قادرة على استحضار المفاجأة وتغيير ميزان القوى، ذاك ما حاول فيلم “لا” (No) شبه الوثائقي، للمخرج الشيلي بابلو لارين (Pablo Larrain) نقله. الفيلم، الذي حصد عديد الجوائز العالمية، يروي نهاية حكم الجنرال اجوستو بينوشية (Augusto Pinochet)، الذي حكم الشيلي بالحديد والنار، منذ انقلابه على الرئيس المنتخب سلفادور اللندي (1973)، حين قرر سنة 1988، تحت وطـأة الضغوط الداخلية والخارجية إجراء استفتاء، تكون فيه الإجابة “بنعم” أو “لا” حول فترة رئاسية جديدة كانت ستمتد إلى 8 سنوات أخرى، وكان الاستفتاء محسوم النتائج نظرا لامتلاك الجنرال كل الوسائل المادية والسياسية للمرور، لكن كانت المفاجأة، إذ صوت أغلبية الشعب، رغم الخوف والرعب والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تجعل الناس لا يهتمون عادة بالمناخ السياسي، “بلا”، لينهي حكم الجنرال الذي سجن واغتال عشرات آلاف المعارضين والنخب الثقافية والنقابية، لم تنتقد الحملة سجل الجنرال الاستبدادي ولا أدائه الاقتصادي الكارثي، بل ركزت على زرع الابتسامة والأمل، “السعادة ممكنة” ذاك هو الشعار المركزي، فالإعلانات التي قدمت في المساحة الصغيرة من الحرية التي سبقت الاستفتاء كانت تحاكي الإعلانات الإشهارية التي اعتاد على مشاهدتها الشعب عبر التلفزيون كل يوم، يقول المخرج: “كان الشعب يعيش في محيط من الكآبة، وكان المزاج العام سوداوي، لذلك كانت حملة “لا” ترتكز أساسا على بعث الأمل عبر رسالة بسيطة مفادها أن السعادة ممكنة، بشرط القطع مع الديكتاتورية… وكانت الإعلانات تساغ بأسلوب يفهمه ويهضمه عموم الشعب… هناك مجموعة من الناس لا تمتلك الكثير من الأموال، لكن لها قدرة إبداعية كبيرة”.
والدرس الذي يمكن استخلاصه من تجربة الشيلي هو أن ليس هناك من قوة، مهما اكتنزت من آليات العنف والقهر أن تفرض إرادتها الدائمة على الشعب، فالشعوب قادرة دائما على ابتداع آليات مبتكرة للمواجهة، لكن ذلك يشترط، أولا، الإرادة والإيمان بالقدرات الذاتية قبل الخطاب السياسي والبرنامج.
التنازل لإنقاذ الديمقراطية:
لكن يظل أيضا التقاط اللحظة السياسية لتغيير الواقع مهما، خاصة لما يكون الخطر قائما، فبعد حل الجمعية الوطنية من قبل رئيس الجمهورية الفرنسية في شهر جوان الماضي وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، قرر قادة اليسار الفرنسي إنشاء تحالف جديد يمكنه صدّ الجبهة الوطنية اليمينية. منذ ليلة الانتخابات، سارعوا إلى تشكيل “جبهة شعبية” ضد اليمين المتطرف. وهكذا، كانت قناعة جبهة اليسار الجديد: “الوحدة ممكنة مع الجميع…لان خيارنا الوحيد، هو إما أن نفوز معا أو أن نفشل منفصلين…”.
وتكوين الجبهة الشعبية الجديدة له رمزية تاريخية هامة ـ فهو يحيل إلى فترة الثلاثينات من القرن الماضي حين مرت فرنسا بأزمة اقتصادية خانقة وعدم استقرار سياسي وصعود لقوى فاشية في بعض البلدان الأوروبية، لذلك قررت مختلف أحزاب اليسار أن تتحد تحت شعار: إنقاذ الديمقراطية وتعزيز التضامن واستعادة الكرامة.
ولكن إنقاذ الديمقراطية يستوجب، أحيانا، تقديم التنازلات القاسية، لذلك تجندت الأحزاب اليسارية وأسقطت عديد المترشحين من اجل حماية الديمقراطية، فقد سجلت الانتخابات التشريعية الفرنسية في دروتها الثانية سحب أكثر من 200 مترشح، أغلبهم من اليسار لترشحاتهم، من أجل قطع الطريق أمام فوز الأحزاب اليمينية.
النخب اليسارية التونسية: مدرسة في إهدار الفرص
السؤال الذي لم يطرحه اغلب اليساريين هو، هل اليسار أيديولوجيا ثابتة ام قيم أخلاقية واجتماعية وأدراك للواقع وتفاعل متغيّراته؟
إذ كان اليسار أيديولوجيا خالصة، فاغلب يسارنا مؤدلج حتى النخاع، يقدس مرجعياته النصوصية ويرفض “تحريفها”، كل ما يصبو إليه هو أن يستجيب الواقع لعقيدته الفكرية، لا أن يتفاعل هو مع متطلبات الواقع، يعتقد أن مسار التاريخ ثابت، لذلك ليس مستعدا للزيغ عن عقيدته الفكرية…
قبلت ثورة 2011 بشعاراته حول الحرية والعدالة والكرامة لأنها كانت، رغم التباسها، أحيانا، تستجيب لآمال الشعب، فظن أنه نبيّها المنتظر، الذي بُعث لهداية الناس وإرشادهم، لكن القوم لم يكونوا في حاجة إلى أنبياء بقدر حاجتهم إلى من يفهم واقعهم البائس ويسعى لتغييره معهم، بالوسائل المتاحة، وذلك دون عسف أو تعالي، وفي قمة فشل هذا اليسار، أو العديد من مكوناته، أخفق في التعامل مع سياقات الأحداث، خاصة بعد 2019، وارتكب أخطاء قاتلة في حق مبادئه وفي حق الديمقراطية…والحقيقة، لم يكن اليسار التونسي –أو اغلبه– يؤمن بالديمقراطية “البورجوازية” رغم خوضه معاركها الانتخابية، إذ نشأت مرجعيته الفكرية في أحضان ثنائية مركبة، ثقافة اجتماعية متكلسة وواقع سياسي منغلق، يطارد كل رأي معارض… لذلك فان اليسار التونسي في حاجة إلى الاشتباك مع أفكاره القديمة لتجديدها وقراءة ذاته وتاريخه بموضوعية وشجاعة وخاصة التعامل مع الواقع بما يتطلبه هذا الواقع، لا بمنظار ميراثه الأيديولوجي… الجامد.
كثرة الترشحات في تونس:
إن تعدد الترشحات للانتخابات الرئاسية في تونس لا ينم عن إيمان قوي بالديمقراطية ولا عن اعتقاد راسخ في إمكانية الفوز، بل فيما اعتادت عليه المعارضة السياسية والمدنية من تنافر وصراعات وتضخم الذات وعجز عن الالتقاء حول الأدنى المشترك الذي يساهم في الخروج بالبلاد من المأزق السياسي الذي تعيشه، وهنا لا أشير فقط إلى الشروط شبه التعجيزية التي أضافتها هيئة الانتخابات ولا فقط عن التضييق على المساجين السياسيين من اجل إبعادهم على المنافسة، بل أساسا على المناخ العام الذي ستجرى فيه الانتخابات، مما يطرح، في رائي البسيط سؤالًا، أراه مهما، حول ما اذا كانت الأولية الآن هي ضغط القوى السياسية والمدنية والجامعية –شبه الغائبة– من اجل فرض مناخ تتوفر فيه ادنى شروط انتخابات ديمقراطية أم الإسراع في تقديم عشرات الترشحات، في واقع سياسي وإعلامي منغلق، يجعل فوز المعارضين بعيد المنال.
أبشر بطول سلامة:
إن الحالة التي عليها النخب السياسية والمدنية من تشتت وانقسام وتردد وجهل بجسامة مسؤوليتها، تجاه الشعب وتجاه تاريخها وتجاه البلاد، لا توحي بإمكانية عودة الحياة الديمقراطية في القريب ولا تشي بإمكانية التعايش حول الأدنى المشترك، بل تؤكد أن درس 25 جويلية 2021 القاسي لم يقع استيعابه بعد، وان الغالب، هو السلوك المعتاد، من إقصاء ورفض وتشفي في الخصوم وغرور، أي الصورة العاكسة للخطاب الشعبوي، وغذاؤه اليومي وسرّ ديمومته، لذلك، لا يسعنا إلا أن نستحضر مقولة جرير حين سخر من تهديد الفرزدق لمربع، حيث قال: “أبشر بطول سلامة يا مربع”.
المصدر: جريدة المغرب
Share this Post