مسعود الرمضاني
عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.سنة 2018، أصدر أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، ياشا موانك Yascha Mounk، كتابًا بعنوان «الشعب في مواجهة الديمقراطية، لماذا حريتنا في خطر وكيف السبيل لإنقاذها» طرح فيه أزمة الديمقراطية الليبرالية، معتبرا إن صعود الشعبوية اليوم ليس صدفة ولا هو بالحدث العارض، أيضا، بل هو بمثابة أعراض أزمة نظام سياسي في طريقه للتفكك وربما التلاشي، إن لم يقع التفطن لأمراضه والتسريع بعلاجه.
ورغم أن موانك يؤيد اقتصاد السوق؛ إلا انه يعتبر أن العقود الأخيرة عرفت ركودًا لم يساعد في تحقيق ما يصبو إليه المواطنون الغربيون من رفاه. ففي القرن العشرين، عرفت البلدان الرأسمالية نموا رافقه تخفيف لحدة اللامساواة وتعميم للرفاه، ويأخذ موانك مثال الولايات المتحدة حيث ارتفع مستوى المعيشة أربع مرات بين 1935 و1985، وكذا بالنسبة لبلدان صناعية أخرى مثل بريطانيا وحتى إيطاليا، كل ذلك ساهم في التمسك بالديمقراطية والاعتقاد في مزاياها…
الإحباط، تربة الشعبوية الخصبة:
ولكن منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، سجلت تلك البلدان تباطؤًا في النمو وتفاقمت الفوارق الاجتماعية «ولم تعد الدول الغربية قادرة على إعطاء مواطنيها الانطباع بأن العمل هو الضامن لتحسين مستوى العيش مثلما كان الأمر بالنسبة للأجيال السابقة» مما أثار مشاعر الإحباط وعدم الاطمئنان والخوف، وهذه كلها تربة خصبة للشعبوية، والنتيجة أن الديمقراطية لم تعد مقنعة؛ إذ يرى مواطن من أربعة في الولايات المتحدة الأمريكية، أن النظام الديمقراطي هو نظام سياسي سيئ ويعتقد اغلب المواطنين أن الأهم هو الاستقرار مهما كان الثمن، حتى على حساب الحرية السياسية، والأدهى أن مواطنًا من ستة مواطنين يرى أن النظام العسكري هو طريقة جيّدة للحكم، ولا يقتصر الاستعداد للتضحية بالديمقراطية الليبرالية على الولايات المتحدة الأمريكية، إذ نشرت صحيفة غرب فرنسا Ouest France))، في أكتوبر 2018، استطلاعًا قامت به مؤسسة ايفوب يظهر أن 41 بالمائة من الفرنسيين هم على استعداد للقبول بنظام شمولي إن كان قادرًا على القيام بعملية إصلاح شاملة.
استعادة دور الدولة:
والحل الذي يراه موانك لاستعادة الديمقراطية هو إعادة الاعتبار لدور الدولة الاجتماعي والتنمية الاقتصادية المتوازنة، وإنشاء نظام ضريبي يخفف من الامتيازات التي تتمتع بها الشركات متعددة الجنسيات ويكفل حقوق الشركات المحلية الصغرى، كما يطرح الحوار –الغائب أحيانًا– بين مختلف المؤسسات والأحزاب بما فيها الأحزاب الراديكالية والنقابات والمنظمات، وذلك لقطع الطريق أمام نظرية المؤامرة ومواجهة المعلومات الكاذبة والإشاعات التي يروجها القادة الشعبيون سواء في خطبهم أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي،
وهذا، أيضًا، رأي جوزيف ستيجلتز (Joseph Stiglitz)، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وكبير الخبراء الاقتصاديين في جامعة روزفالت، الذي قال إن الرأسمالية في حاجة إلى التغيير كي تنتصر على الشعبوية «فالدرس واضح لمن يريد أن يتعلم: في غياب دولة لها حد أدنى من الرعاية ومستوى جيّد من الحماية الاجتماعية وضمان التشغيل، فإن سياسيين مثل ترامب سيجدون دائما فرصة لاختراق المشهد السياسي والبقاء لمدة طويلة في الحكم».
الشعبوية العربية:
ويحصر مونك الشعبوية ومخاطرها في البلدان الغربية التي عرفت عبر تاريخها الحديث والمعاصر ديمقراطية ليبرالية، حققت الحرية والرفاه معا، لكنها تعرف أزمة كبيرة لأنها استنزفت جل مقوماتها حتى أصبحت مهددة بالاستبداد الشعبوي، فماذا عن الدول العربية، التي عرفت انتفاضات غضب بين 2011 و2016، لا تقودها أحزاب سياسية ولا منظمات مدنية، انتفاضات رفعت شعارات عامة عن الحرية والديمقراطية والعدالة، وهي أقرب إلى الحركات الاجتماعية منها إلى الثورات، انطلقت في أغلبها احتجاجًا على أنظمة مستبدة وفاسدة، بعبارة أخرى، حركات احتجاجية انطلقت من عطش للديمقراطية، لا من غضب على أزمتها، إذ رأت فيها سبيلًا للنجاة والخلاص لا فقط من استبداد الأنظمة وفسادها، بل حبل نجاة سيحقق إضافة للحرية، مطلب الشغل والحياة الكريمة.
وتونس، التي كانت رائدة في انتفاضتها، انفردت بان حققت انتقالًا سلسًا وتعددية سياسية وانتخابات حرة ودستور توافقي بفضل وجود نخبة سياسية ومدنية ونقابية أطرت موجة الغضب الشعبي، خاصة في المناطق الداخلية، إلا أن صبر الشعب، وخاصة منه الشباب، نفد أمام تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغياب الحوكمة والصرعات السياسوية الهامشية، فجاء السيد قيس سعيد كرد فعل على الإحباط واليأس، وهكذا انتقلت تونس من تجربة انتقال ديمقراطي منقوص إلى شعبوية الحكم الفردي…
ويظل المشكل أن الآمال التي علقت على السيد قيس سعيد لم تتحقق، فلم يتمكن حكمه الفردي خلال الثلاث سنوات الأخيرة من إنجاز النمو الاقتصادي المنشود ولا تحقيق الشغل للشباب الذي ساند إجراءاته، فقد احتدت الأزمة الاقتصادية نتيجة لاختيارات اقتصادية لا تشجع على التنمية والاستثمار، وهي أزمة فاقمتها، كذلك، خطابات سيادوية وتعقيدات إدارية وخوف وارتباك من قبل رجال الأعمال والمستثمرين، مما أضاف إلى الأزمة الهيكلية في اقتصاد البلاد أزمة أعمق تتمثل في غياب الحرية وانكماش المبادرة والخوف من الحاضر والخشية من المستقبل…
يقول دانيال كوهين، المفكر الاقتصادي، إن الطفرة الشعبوية لها ثلاثة أركان، نظم سياسية فشلت في تقديم سياسات اقتصادية قادرة على حماية الطبقات المفقرة وقوى اقتصادية يحكمها فقط قانون الربح غير العادل وحاضنة اجتماعية لها نهم كبير لاستهلاك فاكهة الشعبويين. ولكن يجمع العديد من المفكرين والخبراء بأن الشعبوية هي حالة عابرة وحدث طارئ يمكن تجاوزه بحلول ممكنة إذا ما توفرت الإرادة السياسية.
حالة عابرة؟
يمكن أن تكون الطفرة الشعبوية حالة عابرة وحادث في طريق المنجز الديمقراطي، وقد تفشل سريعًا في تقديم البدائل لحل الأزمات، على رأي ناديا أوربيناتي التي قالت إنها –أي الشعبوية– «عاجزة عن إيجاد الحلول للمشكلات السياسية والاجتماعية التي طرحت نفسها لحلها حين واجهت الأحزاب والأيديولوجيات» ولكن إضافة إلى الوعي بمخاطرها، يجب أن توجد الحلول المناسبة لازمة الديمقراطية الليبرالية اليوم، أي أن يحسم ذلك التناقض الخطير، بين الديمقراطية كقيمة إنسانية وبين ذلك التفاوت الرهيب في مستوى المعيشة ومظاهر التهميش والإقصاء التي أوجدتها العولمة النيوليبرالية اليوم، كما أثبتت التجربة التونسية أن الشعب لا يرتاح للديمقراطية إلا إذا صاحبها إصلاح اقتصادي واجتماعي عميق، عجزت، إلى حد اليوم، الأحزاب السياسية عن تقديمه أو حتى الإصداح به…
غير ذلك سيطول عمر الشعبوية….
المصدر: جريدة الشارع المغاربي
Share this Post