نيل هيكس
مدير برنامج المناصرة بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان .كان جيمي كارتر، أطول الرؤساء عمرًا في تاريخ الولايات المتحدة، أول رئيس أمريكي في سلسلة من الرؤساء الأمريكيين الذين طغت عليهم الأحداث في الشرق الأوسط. وبالنسبة لكارتر، الذي توفي في أواخر الشهر الماضي عن عمر يناهز المئة عام، كانت الثورة الإيرانية في عام 1979، وخاصة أزمة الرهائن الأمريكيين الذين اُختطفوا أثناء الهجوم الذي شُنّ على السفارة الأمريكية في طهران إبّان الثورة، هي ما حددت السياسة الخارجية التي خرجت عن سيطرة الرجل في البيت الأبيض.
حينما فاز رونالد ريجان على كارتر في عام 1980، بدأ سياسة الانتقام من الجمهورية الإسلامية، وهي قناعة مشتركة بين الحزبين في واشنطن أدت إلى تشويه السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط منذ ذلك الحين. وقد أدت مغامرات ريغان غير الناجحة إلى قصف ثكنات مشاة البحرية الأمريكية في بيروت ما أسفر عن مقتل 241 أمريكيًا، والانسحاب المهين للقوات الأمريكية من لبنان، مما منح الزخم لصعود حزب الله. وبعد ذلك عزز الرئيس جورج بوش الأب تحالف واشنطن مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، وهو التحالف الذي أصبح بمثابة علامة سامة أخرى للسياسة الإقليمية الأمريكية.
مع عودة الديمقراطيين إلى السلطة في واشنطن عام 1993، افترض الرئيس بيل كلينتون أنه سيتوصل إلى حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال اتفاقيات أوسلو، لكنه بدلًا من ذلك منح إسرائيل القدرة على توسيع احتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. وتمثلت معالجة خليفة كلينتون، الرئيس جورج دبليو بوش، لهجمات الحادي عشر من سبتمبر في «حرب عالمية كارثية على الإرهاب»، وهو الأمر الذي دعم الأنظمة الاستبدادية في مختلف أنحاء العالم، خاصة في الشرق الأوسط. وكانت هذه الحرب الركيزة الثالثة لثلاثية غير مستقرة تعثرت فيها السياسة الإقليمية الأمريكية وسقطت لعقود، إلى جانب تأمين الوصول إلى النفط وتوفير الدعم غير المشروط لإسرائيل. كما شوه بوش سمعة أمريكا والغرب باعتبارهما مدافعين عن القانون الدولي من خلال غزو العراق واحتلاله الكارثي.
وفيما وعد الرئيس باراك أوباما بتصحيح أخطاء عهد بوش؛ لكنه فشل بعد ذلك في الارتقاء إلى مستوى التحدي المتمثل في دعم التطلعات المشروعة لشعوب الشرق الأوسط من أجل الحرية والكرامة خلال انتفاضات الربيع العربي. وبعد ذلك، نجح الرئيسان دونالد ترامب وجو بايدن في إعادة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، وهي النهاية القاتمة لأطول حرب خاضتها الولايات المتحدة. بينما فشل بايدن في احتواء رد إسرائيل المدمر على الهجوم الذي قادته حماس في 7 أكتوبر 2023، إذ قدم الأسلحة والدعم الأمريكي لتأجيج العدوان الإسرائيلي في لبنان واليمن وخارجهما، بينما ترك الولايات المتحدة متواطئة في إبادة جماعية محتملة للفلسطينيين في غزة.
لحسن الحظ، دافع كارتر خلال العقود التي أعقبت مغادرته منصبه عن نهج مختلف لانخراط أمريكا في الشرق الأوسط، وكثيرًا ما كان صوته وحيدًا بين الرؤساء السابقين ومعظم الساسة الأمريكيين. فهذه المنطقة كانت مصدرًا للكثير من الألم والفشل والإذلال بالنسبة للولايات المتحدة –والتدمير والمعاناة لمجتمعات بأكملها دمرتها الأسلحة الأمريكية والحروب الأمريكية.
لقد أعلن كارتر، الذي سيُسجى جثمانه في مبنى الكونجرس الأمريكي هذا الأسبوع قبل جنازته الرسمية في الكاتدرائية الوطنية بواشنطن، عن ثلاثة مبادئ وسعى إلى تطبيقها في تعاملاته مع المنطقة. أولًا، كان كارتر فخورًا بسجله الذي لم يخسر فيه جنديًا أمريكيًا واحدًا في صراعات خلال فترة رئاسته. وفي هذا، اختلف عن جميع خلفائه الذين لجأوا في كثير من الأحيان إلى القوة العسكرية الأمريكية كحل للمشاكل الإقليمية، ليكتشفوا فقط أن المشاكل السياسية غير المحلولة لا يمكن قصفها وإخضاعها بسهولة.
بالإضافة إلى ذلك، كان كارتر جادًا في إحلال السلام العادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، متجنبًا المغالطة القائلة بأن مصالح أمريكا سوف تتحقق على أفضل نحو من خلال الدعم غير المشروط لإسرائيل بغض النظر عما تفعله. وعندما تم توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، كان يُنظَر إليها على نطاق واسع في المنطقة باعتبارها استسلامًا من جانب مصر لإسرائيل وخيانة للشعب الفلسطيني. ولكن كارتر كان عمليًا وعنيدًا بما يكفي للإصرار على التوصل إلى اتفاق من شأنه ضمان أمن إسرائيل ومنح الفلسطينيين حقهم في تقرير المصير.
أخيرًا، التحقت الدول العربية بكارتر من خلال مبادرة السلام العربية في عام 2002، والتي عرضت على إسرائيل التطبيع مع العالم العربي بأكمله في مقابل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك الضفة الغربية وغزة وهضبة الجولان، و«تسوية عادلة» للاجئين الفلسطينيين استنادًا إلى قرار الأمم المتحدة رقم 194، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. وأيدت جامعة الدول العربية هذا الاقتراح المكون من عشر جمل لإنهاء الصراع مرة أخرى في عامي 2007 و2017. ولكن بحلول عام 2002، كان الأوان قد فات، إذ ترسخ مشروع الاستيطان غير القانوني الإسرائيلي بعمق في القدس الشرقية والضفة الغربية، مما وضع إسرائيل على مسار إنكار لا نهاية له لحقوق الفلسطينيين وأدى إلى الكابوس الحالي لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي والإبادة والتهجير القسري الجماعي لجزء كبير من غزة.
لقد تحدث كارتر ضد كل هذا لعقود من الزمن، واصفًا إياه بما هو عليه، ودفع ثمن ذلك بالتشهير والعزلة، حتى من جانب حزبه السياسي. (عندما نشر كارتر كتاب فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري في عام 2006، انتقده كلينتون علنًا ووصفه بأنه «غير صحيح من الناحية الواقعية» و«غير عادل»). قد سلط كارتر الضوء مرارًا وتكرارًا على العقبة الأساسية أمام السلام بين إسرائيل وفلسطين: احتلال إسرائيل للأراضي العربية منذ عام 1967. وفي عام 2011 كتب كارتر بوضوح لا يمكن لأي رئيس أمريكي سابق آخر أن يكون عليه: «ببساطة، يتعين على إسرائيل أن تتخلى عن الأراضي المحتلة في مقابل السلام». ولن يرضى كارتر بأي حال من الأحوال أن يثبت صحة حديثه على حساب كل هذا القدر من المعاناة الإنسانية فيما أسماه الأرض المقدسة.
ثالثًا، كان كارتر يؤمن بسياسة خارجية أمريكية تركز على احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي. وقد تعهد العديد من خلفائه بهذا الالتزام لفظيًا، إلا أنهم فشلوا فشلًا ذريعًا في تنفيذه. ولم يكن كارتر مثاليًا ساذجًا، فقد كان يدرك أن بناء مجتمعات متجذرة في الديمقراطية وحقوق الإنسان يشكل مشروعًا طويل الأمد. وقد انتقد النظرة الضيقة لحقوق الإنسان التي فشلت في مراعاة الاحتياجات الأساسية مثل الصحة والرفاهية الاقتصادية للأفراد العاديين. وتثبت العديد من المبادرات الرائعة لمكافحة الأمراض التي تبناها مشروعه المميز بعد الرئاسة، مركز كارتر، هذا الالتزام، إلى جانب عمل المركز وهو منظمة غير حكومية في مراقبة الانتخابات، والمشاركة في الوساطة في النزاعات، ومناصرة حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.
وعلى نحو مماثل، أدرك كارتر أن المطالبة العالمية بحقوق الإنسان واليقظة اللازمة لحمايتها لابد وأن تنطلق من القاعدة إلى القمة، ولذا كان من أوائل المدافعين عن عمل المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني الذين يعملون في كثير من الأحيان في ظل مخاطر هائلة تهدد حياتهم من أجل خلق مستقبل أفضل لبلدانهم. وكانت إحدى أكثر اللحظات التي أفخر بها في مسيرتي المهنية هي العمل مع مركز كارتر، ومع كارتر نفسه، في إنشاء منتدى سياسات المدافعين عن حقوق الإنسان في عام 2003، في أعقاب التآكل العالمي لمعايير حقوق الإنسان الدولية إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر و«الحرب على الإرهاب» التي قادتها الولايات المتحدة. ولا يزال دعم مركز كارتر القوي للمدافعين عن حقوق الإنسان والمنتدى مستمرًا حتى يومنا هذا.
مع إقامة جنازته الرسمية هذا الأسبوع، قد يكون مفيدًا لخلفاء الرئيس كارتر في واشنطن السعي لمحاكاة هذه المبادئ إذا كانت أمريكا راغبة في تحرير نفسها من الأزمات والصراعات الدائمة في الشرق الأوسط.
نشر هذا المقال بالإنجليزية في: منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي، (DAWN)
Share this Post