عقد مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في 22 فبراير 2024، ندوة نقاشية ضمن فعاليات صالون ابن رشد الشهري، تحت عنوان «هل يمكن تحرير فلسطين بدون تحرير إرادة الشعوب العربية؟». استضاف اللقاء الكاتب والباحث السوري حازم نهار، والكاتبة والباحثة اللبنانية دلال البرزي، وأدار النقاش الأكاديمي والحقوقي معتز الفجيري.
تناول اللقاء مواقف الدول العربية على المستويين الإقليمي والدولي إزاء العدوان على غزة، وكذا مدى تداخل قضية التحرر الوطني للشعب الفلسطيني مع مسألة تحرير إرادة الشعوب العربية، ومدى تقييد السلطوية المهيمنة في بلدان المنطقة على قدرات الشعوب العربية في دعم القضية الفلسطينية، مقارنات بالمناخ الأكثر حرية وديموقراطية الذي سمح للشعوب في الغرب بالاحتجاج على مواقف حكوماتهم من القضية بل والتأثير على مواقفهم في السياسات الخارجية والمحافل الدولية. وفي هذا السياق اعتبر الفجيري أن العدوان الإسرائيلي على غزة لم يطرح فقط نقاشًا معمقًا بشأن مستقبل النظام العالمي ككل، ومنظومة حقوق الإنسان الدولية وموائمات ومصالح المجتمع الدولي في مواجهة القضايا الإنسانية الملحة، لكنه كشف أيضا عن وجود اختلالات جسيمة في النظام العربي الإقليمي، وقدرته على التغيير أو التأثير في مسار الأحداث، أو التأثير دوليًا في مواقف المجتمع الدولي ومواقف القوى الدولية. “فالحكومات العربية خارج مصطلح المجتمع الدولي تجتمع لتطالبه وكأنها خارجه، والشعوب العربية خارج ميزان الرأي العام العالمي”.
في البداية سلط حازم نهار الضوء على مواطن تأثير السلطوية على التفاعل الشعبي العربي مع كل الوقائع المفزعة في المنطقة، ذلك التفاعل الذي وصفه بـ (القابلية للهزيمة) المتجذرة في الواقع العربي ككل. وقد لخص حازم نهار نتيجة هذا التأثير السلطوي في غياب الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة، معددًا تبعات هذا الغياب وانعكاساته على سلوك المجتمعات والشعوب العربية بل والحكومات أيضا ومن ثم طريقة تعامل المجتمع الدولي معها.
وبحسب نهار، فالسلطوية هي التهام السلطة لمفهوم الدولة، فتذوب الدولة في كيان سلطوي قائم على أفراد ومجموعات محدودة. وبالتالي يصبح السلوك المجتمعي مرتكز على إرضاء السلطة والتناغم مع سياساتها، بدافع الخوف من البطش والقمع. هذه النظم الاستبدادية المتفردة بصناعة القرار، تبني سياستها الخارجية وفق المصالح الضيقة للفئة الحاكمة، وليس للمصالح الوطنية ومصالح شعوبها. ومصالحها الضيقة هذه، قد تكون مجرد مكاسب اقتصادية أو هيمنة دينية أو أيديولوجية، ويصبح قرار الحرب والسلم مرهون فقط بالتعدي على هذه المصالح الضيقة. والطرف الأخر (إسرائيل أو غيرها) سيتعامل فقط مع هذه المصالح الضيقة ويحرص على عدم عرقلتها، طالما ستغض الفئة الحاكمة البصر عن بقية مصالح شعوبها واحتياجاتهم. الأمر الذي يفسر حسب نهار، التعامل الإستعلائي مثلاً للإدارة الأمريكية مع الحكومات العربية، فهي تتعامل مع أفراد لا مع دولة (بمفهومها الحديث القائم على مؤسسات وكيانات لصنع القرار)، فضلاً عن أن هذه الحكومات لا ترتكز إلى ركائز شعبية في بلدانها، وبالتالي بمقاييس ميزان القوى هي لا تساوي شيء.
على الجانب الأخر، تخلق هذه النظم السلطوية واقع اقتصادي متردي، يترك فئات واسعة من الشعب تحت وطأة الفقر والحاجة، ينصب اهتمامه على لقمة العيش. وبالتالي يتشكل لدى هذه الفئات المعوزة شكل من أشكال اللا مبالاة وعدم الاكتراث بالسياسة وبالقضايا الإقليمية. وفي الأنظمة السلطوية أيضًا تغيب بشكل عام مسألة القضية الوطنية، ويختفي ما يسمى بالانتماء الوطني بمعناه الحديث بسبب حصره وتقييده وارتفاع كلفته. الأمر الذي يؤدي في المقابل إلى انتعاش وتفشي انتماءات طائفية وأثنية ودينية وأيديولوجية ضيقة، تنعكس في رؤى قصيرة النظر لقضايا البلد والمنطقة. فيصبح الحكم في هذه القضايا للاعتبارات الطائفية أو الدينية لا مصالح الشعوب وحريتها واستقلالها. وفي هذا المناخ تنمو التيارات العنيفة والمتطرفة والجهادية، هذه التيارات تصبغ على القضايا الإقليمية طابع ديني أو طائفي ضيق؛ فمثلا لا ترى الجماعات الشيعية مشكلة مع التدخلات الإيرانية في المنطقة، ولا تنزعج التيارات السنية من الهيمنة التركية، والدافع هنا ديني لا علاقة له بالمصلحة الوطنية.
وفي ظل السلطوية، يتشكل ما أسماه نهار (الوعي الخرافي) ليس فقط على مستوى المجتمعات وإنما حتى لدى النخب. إذ لا توجد أي معايير علمية أو منطقية لمسالة الهزيمة والانتصار والربح والخسارة، ندعي الانتصار كشعوب ومعارضة وحكومات، بينما الخراب يعشش في عظام المنطقة كلها، وكأننا نعيش في (مستنقع الانتصارات). ناهيك عن التحليلات السياسية الخرافية وغير المنطقية لسبل الخروج من أي أزمة، وسياسة (حتمية الانتصار) والقضاء تمامًا على الطرف الأخر، وهو ما نراه بوضوخ مثلا في تحليلات سياسية تروج لأوهام (نهاية دولة إسرائيل) بعد طوفان الأقصى! ويختتم نهار؛ هذا الوعي الخرافي، يعصف بالمنطق حتى في أبسط بديهياته، فتجد مثلاً القسم الأكبر من أنصار حركة حماس في مقاومتها المسلحة، هم أنفسهم أنصار نظام بشار الأسد وجرائمه بحق الشعب السوري.
أما الكاتبة والباحثة دلال البزري، فقط سلطت الضوء على كيفية رؤية المجتمعات والحكومات الغربية للشعوب العربية الراضخة تحت وطأة السلطوية، في مقارنة بين الدفاع الغربي عن حقوق الأوكرانيين مقابل دفاعهم عن الحقوق نفسها للشعب السوري أو الفلسطيني. واستشهدت البزري في ذلك لتصريح بالغ الدلالة لأحد الصحفيين الغربيين مبررًا هذا الانحياز قائلا: «الأوكرانيون يشبهوننا، هم يصوتون في انتخابات حرة ويقرأون صحافه لا رقابة عليها». أما رؤية الأنظمة الغربية للحكومات العربية وحجم الثقل الذي تشكله في صناعة القرار العالمي، فقد بلورته البزري فيما أسمته “الخطوط الحمراء لدى المجموعة الحاكمة”، مشيرة إلى أن الفئة الحاكمة المنفردة بالسلطة في الدول العربية، تضع خطوط حمراء رخوة قائمة على مصالحها، تستبيح دونها أي عدوان غربي على حقوق شعوبها أو شعوب عربية أخرى، طالما بمعزل/ يخدم مصالحها. فالخطوط الحمراء الرخوة لدى أوباما في سوريا في 2013، سمحت له بالتخلي، بالاتفاق مع بوتين، عن الهجوم للرد على استخدام بشار للكيماوي ضد شعبه، وبالمنطق نفسه قتلت روسيا السوريين بطائراتها بدءً من 2015 بطلب من بشار. هذا “الاسترخاص” لحيوات الشعوب العربية بات عاديًا وطبيعيًا لأنه من أسس الاستبداد المتجذرة لدى حكوماتنا.
وفي الختام أوصت البزري بأهمية الانتباه للأثر الثقافي الفكري لهذه السلطوية، مشيرة إلى أزمة الثقافة المتجذرة في المنطقة، قائلة: “يجتاح العالم العربي فكر وذهنية وعقلية السائدة خرافية بصرف النظر عن مذاهب أو أيدولوجيات سني وشيعي وعلوي وإخوان وسلفيين، عداء للحداثة والحرية والديموقراطية، عقلية تتصدى للحداثة والحقوق، نحن بحاجة للانتقال لما بعد سطوة الإسلام السياسي والتيارات المتشددة.
شاهدوا التسجيل الكامل للندوة هنا:
Share this Post