عقد مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان مساء الثلاثاء 2 يوليو 2024، ندوته الشهرية في إطار صالون ابن رشد، تحت عنوان «ازدواجية معايير الغرب والرأي العام العربي.. بين اعتبارات المصلحة والسيكولوجيا السياسية». طارحًا الأسئلة حول مبررات ازدواجية معايير الحكومات الغربية إزاء القضايا الإنسانية الكبرى في المنطقة، وكذا تفاوت موقف واهتمام الرأي العام العربي بهذه القضايا، ما بين الوضع في غزة مقارنة بالأوضاع المماثلة في السودان واليمن وسوريا. استضاف الصالون وزير الإعلام السوداني الأسبق فيصل محمد صالح، والحقوقي والمحامي السوري أنور البني، وأدار النقاش الحقوقي التونسي مسعود الرمضاني.
في البداية علق الحقوقي أنور البني على عنوان الصالون، مشيرًا إلى أننا لا يمكن أن نتهم الغرب وحده بازدواجية المعايير ونحن أنفسنا نعاني منها ونمارسها في معظم مواقفنا على مستوى قضايا منطقتنا العربية، سواء الرأي العام والنخب العربية، أو الحكومات العربية. كما أننا لا يمكن أن نضع الغرب كله ككتلة واحدة، إذ أن مواقف الشعوب الغربية قد تختلف من لحظة لأخرى ومن قضية لأخرى، وقد تختلف أحيانًا عن مواقف الدول الرسمية، بل أن حتى مواقف الدولة الواحدة قد تختلف باختلاف الحكومات الحاكمة. إلا أن الفرق الأساسي حسب (البني) هو أنه لو كان للشعوب رأي مغاير عن الحكومة تخرج للشوارع تعبر عنه، وثمة إعلام ينقل لنا هذا الاحتجاج والرأي المخالف، وربما أطاحت هذه الجماهير بالحكومة التي لا تتسق مع موقفها في انتخابات حرة، لكن هذا بعيد كل البعد عن قدرات الرأي العام العربي، الذي لا يمارس الديمقراطية ولا التعبير الحر عن الرأي، ولا شهد تغيير للسلطة الحاكمة وتعاقب حقيقي للحكومات مختلفة التوجهات.
ورغم ذلك لم يتوقع البني أن الرأي العام الغربي قادر في اللحظة الراهنة على صناعة تغيير حقيقي في السياسيات الغربية لصالح قضايا حقوق الإنسان، لا سيما في ظل صعود اليمن المتطرف في أوروبا واحتمالات عودة ترامب كرئيس للولايات المتحدة. كما أنه تشكك من حقيقة حجم الرأي العام الغربي الذي لديه استعداد لأن ينتصر في المعركة الانتخابية لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب العربية، متشككًا من حقيقة حجم المظاهرات الحاشدة في أوروبا التي دافعت عن حقوق الشعب الفلسطيني مؤخرًا، والتي لا تمثل حسب تقديره أكثر من 5 % كحد أقصى من الكتلة الانتخابية في أوروبا.
من جانبه أرجع الكاتب والصحفي فيصل محمد صالح ازدواجية معايير الغرب إلى اعتبارات المصالح الاقتصادية والسياسية، مشيرًا إلى أنه لا يعني هنا فقط معايير المؤسسات الحاكمة وإنما حتى المؤسسات الإعلامية والمؤسسات المانحة وغيرها. وهذا يختلف أحيانًا عن موقف الشعوب أو النخب الثقافية والاجتماعية الغربية. الأمر الذي يفسر الديناميكية والحركة وآليات الضغط المختلفة التي يشهدها الغرب، بما في ذلك المظاهرات والاحتجاجات الداعمة للقضية الفلسطينية. مشيرًا إلى أن هذا الصراع بين المصالح (من وجهة نظر المؤسسة الحاكمة) وبين القيم الإنسانية سيظل ممتد، لكن في معظم الأحيان تتغلب المصالح ليس فقط على القيم الإنسانية، ولكن حتى على ما تردده الحكومات الغربية نفسها في خطاباتها الجماهيرية، أو تنص عليه الدساتير والقوانين الغربية. ضاربًا المثل بالولايات المتحدة التي تدعم تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في السودان، وتدفع بمساءلة مجرمي الحرب هناك، بينما منعت دخول بعض أعضاء هذه المحكمة لأراضيها لمجرد تحركهم من أجل إدانة مسئولين إسرائيليين عن جرائم لا تقل بشاعة عن تلك المرتكبة في السودان.
أما عن مواقف الدول العربية، فيقول صالح ضاربًا مثال بالسودان: «نحن لا نتحدث عن ازدواجية معايير ولكن عن عدم إكتراث ولا اهتمام، فبينما تناشد الجهات الأممية كل الدول لتقديم المساعدات الإنسانية للشعب المنكوب في السودان، لن تجد بين 40 دولة قدمت مساعدات سوى دولة عربية واحدة!» أما بالنسبة للتدخل السياسي، فبين دول عربية وقفت متفرجة، تدخلت أخرى لتحقيق مصالحها وحسب، دون أي محاولة للتدخل لوقف الصراع والحرب رغم تأثيرها على الأطراف المتحاربة. أما عن موقف الدول العربية من اللاجئين السودانيين وكيف تعاملهم، فربما ستجد دول مثل أوغندا وروندا (وهي ليست من دول الجوار) أكثر احترامًا لحقوقهم وإنسانيتهم من دول الجوار العربية مثل مصر.
وفي هذا السياق ألقى (البني) باللوم الأكبر على الرأي العام العربي، تحديدًا الإعلام والنخب العربية والمثقفين والسياسيين والمعارضة، هؤلاء لماذا لا يعنيهم ما يحدث في السودان أو اليمن أو سوريا، ولماذا «اهتموا بحرق قرآن في السويد أكتر بكثير مما اهتموا بـ 13 مليون نازح ولاجئ في سوريا؟» بينما اعتبر صالح أنه من الصعب أن ندعي أن هناك رأي عام عربي، لأن الأساسيات التي ينبني عليها الرأي العام غائبة، وهي بالأساس؛ تداول المعلومات، التعبير الحر، حرية الآراء والنقاش، وحق الاختلاف. لذا فنحن لا نتحدث عن رأي عام بمعناه الواسع، ربما نتحدث فقط عن بعض النخب الثقافية التي كان بإمكانها أن تنخرط في حوار يدافع عن القيم الإنسانية وينتصر لها دون تمييز أو مصالح. لكن هذا الأمر لن يحدث في ظل القمع المستمر في المنطقة.
وبحسب البني كان شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) أحد أهم أدوات قمع المعارضة والنخبة في كل البلدان العربية، فهذا الشعار تحول بمرور الوقت لفكرة تجذرت وانتهجها كل الحكام الديكتاتورين في المنطقة وعاشوا عليها الحكام، فباسم المعركة -أيا كان نوعها وأيا كان العدو فيها- تواصل الديكتاتوريات العربية قمع كل الحريات وتُحكم قبضتها على الرأي العام العربي. كما أن قمع الإعلام والسيطرة عليه كان له دور كبير في تشكيل ذاكرة ووعي الرأي العام العربي بشكل انتقائي ومنحاز لمصالح الجهة الممولة، يركز على ما يعزز صورته الذهنية ويتجاهل كل ما يخل بها. فعلى سبيل المثال بنى نظام بشار الأسد شرعية وتشدق إعلامه بوطنيته فقط لأنها معادي لإسرائيل، متجاهلًا عن عمد أن بشار أرتكب مجازر بحق الفلسطينيين في لبنان في مخيم تل زعتر. لكن لا أحد يذكر ذلك لأننا نصنع رأي عام يخدم مصالحنا. ناهيك عن أن الدول التي تدير هذا الإعلام هي نفسها الدول التي تدير الصراع في المنطقة وتسلح أطرافه أحيانا، فماذا تنتظر منها عندما نوكل لها صناعة الرأي العام العربي!
شاهد الندوة كاملة على هذا الرابط:
Share this Post