مسعود الرمضاني
«أهم ما تفعله في حياتك هو ان تعيد النظر في كل ما تشعر انه لا يسير على ما يرام» Bertrand Russel
إذا ما استثنينا بعض الأحزاب السياسية والاصوات القليلة التي تنبهت منذ البداية لمشروع السيد قيس سعيد ونمط تفكيره ورؤيته للديمقراطية والحياة الحزبية والمدنية أو انها تضررت من اجراءاته حين ازيحت من السلطة، فان اغلبية الذين ساندوا مشروعه، اما انتقاما من حركة النهضة ورد فعل على أدائها الكارثي طوال فترة حكمها أو اعتقادا في حسن نوايا السيد قيس سعيد وطيبة سريرته أو من اجل الظفر بموقع بعد ان تقدم بهم السن وظلوا طويلا في انتظار اللحظة او حتى خوفا من إمكانية رد فعل انتقامي عبر اثارة أحد الملفات، خاصة امام صواعق الخطب التهديدية للرئيس… اغلب هؤلاء، الان، اما لاذوا بالصمت او بحثوا عن مواضيع نقاش هامشية مريحة، بعيدة عن قلاقل السياسة وهموم الوطن ومشاغله، وحتى أولئك الذين تعالت أصواتهم بالنقد في الأسابيع الاخيرة، فانهم لم يكلفوا انفسهم عناء طرح السؤال حول المواقف الماضية ودوافعها، ذلك لان التغاضي والنسيان أسهل واريح من مواجهة الحقيقة، واقل وطأة من قلق المراجعة.
غياب ثقافة النقد الذاتي
فالنقد الذاتي تقييم صارم للذات وهو مؤلم أحيانا ، وهو عكس ما يعتقد البعض ، لا تمليه أية أيديولوجية ولا تحكمه مرجعية مقدسة، فالعملية لا تتطلب غير الاتساق مع الذات والشجاعة الفكرية والسياسية التي تعيد شريط الواقع بأمانة و كيفية تفاعلنا معه، وهو يزودنا بالقدرة على ان نقرأ انفسنا ومواقفنا وانفعالاتنا بجرأة و صدق وننتبه الى مواطن الخلل في اسلوب تفكيرنا ، ومساءلة الذات هي أساس التواضع الذي اعتبره سقراط افضل الفضائل والسبيل الوحيد للتعلّم والاقدر على بناء تجربة حياتية وفكرية اكثر صدقية وصلابة، و التواضع الذي يسائل الذات ويحفر في خباياها هو، في نظر الفيلسوف، وحده القادر على الحدّ من تضخّم الانا ، وهو تضخم وطنته ثقافة أخلاقية ودينية متعالية وغذّته أنظمة متسلطة ومكابرة تخشى معرفة حقيقتها ونحته مجتمع يسوده النفاق وتغيب فيه معايير الصراحة والنقد البناء، ولا يستثنى من هذه المكابرة الأحزاب ولا النخب الفكرية والثقافية.
فهل سمع أحدنا بمراجعة جريئة ممن حكموا او عارضوا طيلة العشر سنوات الماضية؟ هل اعترف أحدهم بما تسبب فيه من أوضاع كارثية نعيش ارتداداتها الان؟ وماذا عن أولئك الذين ساندوا إجراءات قيس سعيد ثم تبيّن لهم ان مشروعه لا يتماهى مع انتظاراتهم، خاصة في رؤيته للديمقراطية والشريعة والمساواة؟ اذكر، على سبيل الذكر، ان عددا من المثقفين واهل الفكر والجامعيين الليبراليين البارزين قد ساندوا في البداية إجراءات 25 جويلية 2021، عبر عريضة هي أقرب للمبايعة، خُطّت بعناية لطمأنة الرئيس بانه لم ينقلب ولم يتجاوز القانون ولم يخرق الدستور، بل انه بصدد تصحيح مسار خاطئ وهو في ذلك يستجيب لمطالب الشعب ومصلحة الديمقراطية، داعين القوى الخارجية الى عدم التدخل ومطالبين الرئيس بالمضي قدما في مشروعه.
صراحة، من الأسئلة التي تؤرقني شخصيا، الم يشعر هؤلاء بان تلك المساندة كانت متسرعة حرّكتها فقط مشاعر نقمة على الإسلام السياسي؟ الا يفترض ان تكون النخب هي الحريصة على احترام المؤسسات عوض الانجرار وراء انفعال اللحظة و»تخميرتها»؟ الا يساهم التماهي مع الحماس الجماهيري بما يحمله أحيانا من نزق ورعونة في اخماد جذوة القدرات الذهنية والعقلية المتحفزة للتفكيروالتخطيط وتجاوز الازمات بأقل الاضرار؟ وربما السؤال الأهم هو: في مواجهة الشعبوية وخطابها المدغدغ للمشاعر والمتهافت، الا يجب على النخب ان تأخذ المسافة الضرورية وتتسلح بالحس النقدي القادر على قراءة اللحظة بدقة وتروّي؟ نحن هنا إزاء حالة عاطفية تستحق الدرس.
سيكولوجية الجماهير:
رغم انه كُتب في أواخر القرن التاسع عشر، فان كتاب «سيكولوجية الجماهير» للطبيب النفسي، جوستاف لوبون(Gustave Le Bon)، لازال يحافظ على راهينيته ويمثل مرجعا في علم النفس وفي فهم مزاج الشعوب وتفاعلها مع المستجدات التي تعترضها ومساهمتها في التغييرات الكبرى التي تحدث من حين لاخر، اذ يشرح لوبون المياكنيزمات السيكولوجية و سطحية العملية الادراكية والمعرفية للجمهور وتأثيرها في الفرد، خاصة كيف يتحول المواطن العادي والرصين الى كائن غير مسؤول ، بل ومستلب، تحكمه مشاعره الانية والغرائز والانفعالات، حين يندمج مع الجمهور.
فالجمهور، في رأي الكاتب، غير قادر على التروي واعمال العقل واخذ المسافة الضرورية من المستجدات لفهمها بموضوعية، لذلك يسهل اقتياده والتأثير في اختياراته، وهذا فيه قدر كبير من الصحة، ولا ادل على ذلك من دعوات اهدار الدم الموجهة ضد المثقفين في المجتمعات المسلمة، حيث ما ان يكفّر أحد الشيوخ كاتبا أو مثقفا حتى تتعالى الأصوات لاغتياله، أحيانا دون الاطلاع على رأيه او قراءة كتبه، وهو ما ينشر مشاعر الخوف ويزيد من التعصب وغياب الفكر النقدي وانتعاش الثقافة في مجتمعاتنا، وحتى الثورات فهي، في نظر لوبون لحظات من الحماس العابر في حياة الجماهير المتحمسة، اذ سرعان ما تهدأ لتترك مكانها للاستكانة والقبول بالاستبداد، لان شرط نجاح الثورات الإصلاحية مرتبط بتغيير المجتمع لآليات تفكيره والتحكم في سطوة غرائزه وانفعالاته وعواطفه، وهو امر صعب المنال.
الشعبوية ومزاج الجمهور:
وقد استفادت الحركات الشعبوية الحديثة من تقلب مزاج الجمهور، فحرّكت غرائز الخوف داخله، الخوف من النخب السياسية والمثقفة ومن الأخر المختلف ومن المستقبل الغامض. وشجعت نوازع العنصرية والتطرف القومي والعرقي السابتة في المجتمعات، وتبيّن ان الشعوب تتبع بسهولة القائد الذي يغذي المشاعر البدائية داخلها، خاصة زمن الازمات، اذ يتخمّر خليط له مكونات قابلة للانصهار السريع، وهي أساسا ، يأس من إمكانية تغيير الواقع نحو الأفضل وطغيان الأفكار الساذجة والسطحية التي يتقبلها الجمهور بسرعة واستعداد شبه فطري للخضوع الى الاستبداد ، ولا يفترض ان يكون القائد الشعبوي لبقا وسياسيا قديرا او خطيبا مقنعا، اذ يكفيه ان يأتي بخطاب مختلف وبسيط يتماهى مع لغة القوم وان يقدم وعودا كثيرة، حتى وان كانت غير قابلة للتطبيق ، عندها ترتخي الا فكار العقلانية لتترك مكانها للعواطف وتنفلت غرائز العنف والكراهية من عقالها وضوابطها لتسحق كل تفكير عقلاني او حوار مثمر.
وفي تونس استفادت الشعبوية من الضعف الفادح للثقافة الديمقراطية وتغليب منطق الاقصاء والعجز عن فهم ابجديات الحكم ودور صاحب السلطة في تأصيل الديمقراطية ودولة القانون واتساع الهوة التي فصلت الأحزاب عن فهم المطالب الملحة للشعب، والنتيجة انه رغم تصاعد الغضب من إجراءات قيس سعيد والوضع الاجتماعي الذي يهدد بكارثة حقيقة ، فان هذه المعارضة لم تنجح في استمالة الغضب الشعبي ، لان الوجوه السياسية لم تتغير ، وجوه يرى فيها الرأي العام السبب الأول لازمة البلاد بسبب خطابها الممجوج و صراعاتها الهامشية واستخفافها بالديمقراطية التي حملتها للسلطة وتحويلها الى تهريج خالي من أي مغزى إيجابي، كما رسخ غياب النقد الذاتي للأحزاب السياسية، وخاصة تلك التي حكمت خلال العشرية الماضية، الاعتقاد بان بديل الوضع الحالي لن يكون الا عودة الى تلك السنوات العجاف والى سيرك الخصام العقيم والفوضى العارمة مع تغييب تام لقضايا البلاد الملحة، وكأني بلسان حال المواطن يقول ان الامر لا يستحق المجازفة مادامت ستبقى دار لقمان على حالها.
المصدر: جريدة المغرب
Share this Post