يعرب مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان عن بالغ استنكاره ورفضه للانقلاب العسكري على الحكومة المدنية في السودان فجر أمس الإثنين 25 أكتوبر، في محاولة من المجلس العسكري للتملص من التزامه الدستوري بتسليم قيادة مجلس السيادة إلى المكون المدني في الحكم في المواعيد المتفق عليها في الوثيقة الدستورية.
فبعد ثلاثة أعوام من الثورة السودانية، أعلن الجيش برئاسة قائده عبد الفتاح البرهان انقلابًا عسكريًا شاملاً في السودان، مقررًا إقالة حكومة عبد الله حمدوك المدنية، ووضعه وبعض الوزراء وبعض أعضاء مجلس السيادة وعدد من المسئولين بارزين أخرين قيد الإقامة الجبرية والاحتجاز، وإعلان حالة الطوارئ وتعطيل الحقوق الدستورية الواردة في الوثيقة الدستورية، وذلك لحين إتمام انتخابات عامة برعاية القوى العسكرية.
إن الانقلاب العسكري في السودان هو محاولة من المجلس العسكري لإنهاء الفترة الانتقالية، ومصادرة أي احتمال لتحول ديمقراطي سلمي، في بلد عانى لأكثر من 30 عامًا، تحت حكم عسكري إسلامي، من التقسيم وإراقة الدماء وجرائم الإبادة الجماعية. إذ يأتي هذا الانقلاب ليجدد أمام العالم ذكرى المجازر والمذابح التي اقترفتها القوات المسلحة السودانية في حق الشعب السوداني لثلاثة عقود، وما نتج عنها من تقسيم للدولة، ونزوح ومعاناة ملايين السودانيين، وجرائم بحق الأطفال والنساء، وحرمان مضني من الاحتياجات الإنسانية الأساسية وصل حد المجاعة أحيانًا.
ورغم ذلك يبقى نضال الشعب السوداني والمجتمع المدني السوداني من أجل الديمقراطية والحكم المدني مصدر إلهام للمنطقة كلها، وقد خط اليوم صفحة جديدة في هذا النضال، بعد خروج القوى المدنية للشوارع والميادين لمناهضة هذا الانقلاب العسكري.
وفي هذا السياق، يؤكد مركز القاهرة أن استقرار السودان لن يتحقق إلا بعودة الجيش لثكناته العسكرية، وتعهده بعدم التدخل في الحياة السياسية، وترك مقاليد الحكم للأحزاب السياسية والحكومة المدنية والمجتمع المدني السوداني الذي أثبت نضوجه وقدرته على قيادة التحول الديموقراطي.
منذ تولي حكومة حمدوك الحكم قبل عدة أشهر، نجحت في الدفع ببعض التغييرات المنهجية؛ التي كان ينتظر أن يكون لها مردودها الإيجابي على الشعب السوداني إذا استمرت واستكملت بإصلاحات مؤسسية وقانونية وسياسية واسعة النطاق. بما في ذلك بعض الإصلاحات النوعية الهامة لتعزيز حقوق الإنسان مثل؛ إلغاء قوانين النظام العام المستخدمة للتضييق على حقوق المرأة، وتجريم ختان الإناث، وإلغاء شرط إذن الزوج للسماح بسفر الزوجة مع الأبناء، وإلغاء عقوبة الإعدام على الردة عن الإسلام، وتقليص صلاحيات الأمن في عمليات الاعتقال والقبض، وبعض الضمانات القانونية لمنع التعذيب وسوء المعاملة في أماكن الاحتجاز، فضلاً عن بعض الإجراءات الممهدة لإصلاح القضاء، وبدء التحقيق في بعض الجرائم الاقتصادية الخطيرة، والإعلان عن استعداد الحكومة إحالة الرئيس السابق عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية لتبدأ محاكمته بلاهاي. هذا بالإضافة إلى الإصلاحات الهيكلية الاقتصادية، وعلى رأسها الشروع في تحرير الاقتصاد من هيمنة المؤسسة العسكرية ورفع سطوتها عن بعض المصانع غير العسكرية، ورفع القيود الدولية والعقوبات المفروضة على السودان.
ورغم تلك النجاحات، حرصت القوات المسلحة السودانية على الجانب الأخر، كشريك في الحكم المدني في السودان أثناء الفترة الانتقالية، على عرقلة عملية التغيير الهيكلي، واستخدمت القوة المفرطة أكثر من مرة لمواجهة الاحتجاجات السلمية وتجمعات النازحين من إقليم دارفور. كما تعمدت تعطيل عمل اللجنة الوطنية للتحقيق في مذبحة 3 يونيو 2019، وسعت للتمسك بالسيطرة على بعض الشركات مما قوض من قدرة الدولة الاقتصادية وقدرتها على مواجهة التحديات التي فرضتها تداعيات الجائحة العام الماضي. كما عطلت تنفيذ بند الترتيبات الأمنية في اتفاق السلام الموقع في جوبا أكتوبر 2020، وتقاعست عن الوفاء بالتزاماتها بحماية المدنيين في دارفور بعد خروج بعثة الأمم المتحدة/الاتحاد الإفريقي من الإقليم آخر ديسمبر 2020.
لذا، يناشد مركز القاهرة قوى الحرية السودانية بجميع أطيافها الثبات على موقفها الداعم للديمقراطية في مواجهة هذا الانقلاب العسكري، والتمسك بعودة الحكومة المدنية والعمل فورًا على استكمال هياكل السلطة بما في ذلك؛ المجلس التشريعي، والمحكمة الدستورية، وإصلاح الجهاز القضائي، وتأسيس مفوضية لحقوق الإنسان تلتزم بالمعايير الدولية وأخرى للعدالة الانتقالية، وتأسيس بقية المفوضيات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية. كما يجب على السلطات المدنية وضع قوانين واضحة تضمن إصلاح جذري للقطاع الأمني، والعلاقات المدنية العسكرية، وإقصاء الجناح العسكري عن الاقتصاد.
ويدعو المركز كافة المعنيين بمراقبة أوضاع حقوق الإنسان في الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والمجتمع المدني الدولي والبعثات الديبلوماسية في الخرطوم لرصد وتوثيق أوضاع المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء لجان المقاومة المدنية الذين تعرضوا من اليوم الأول للاحتجاجات لعنف مفرط، من قبل الجيش ومليشيا الدعم السريع وقوات أمنية أخرى، بما يتضمن الضرب بالهروات، وإطلاق الغاز المسيل للدموع، واستخدام الذخيرة الحية، الأمر الذي أسفر عن إصابة ومقتل العشرات حسب المعلومات الواردة من المستشفيات وهيئات الأطباء حتى الآن.
كما يطالب المركز أيضًا جميع القوى الإقليمية التي ناصبت تجربة الانتقال الديمقراطي في السودان العداء منذ انطلاقها، وخاصةً أنظمة الحكم في مصر والسعودية والامارات العربية المتحدة وإسرائيل، بوضع حد لتدخلاتهم في الشأن السوداني وترك الشعب السوداني لتقرير مصيره بحرية. وبالمثل يطالب قوى المجتمع الدولي وشركاء السودان الدوليين بإعلان معارضة هذا الانقلاب، والعمل على الحيلولة دون انزلاق السودان لهاوية الديكتاتورية، والتوقف فورًا عن تقديم الدعم للمجلس العسكري السوداني والضغط عليه لوقف هذا الانقلاب وتسليم الحكم للقوى المدنية بلا قيد أو شرط.
كما تتحمل الولايات المتحدة الأمريكية مسئولية خاصة في هذا السياق، فهذا الانقلاب يشكل أحدث اختبار للخطاب الإنشائي لإدارة الرئيس الأمريكي چو بايدن بشأن الديمقراطية وحقوق الانسان، والذي فشل في اثبات جديته في الاختبارات السابقة.
Share this Post